منصة ليلى الثقافية

صفحة البداية تسجيل الدخول آخر اﻷخبار المدونات مسابقة المنصة 2017

%D9%88%D8%AD%D8%AF%D9%87%D8%A7 %D9%87%D8%B0%D9%87 %D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D9%86 %D8%AA%D8%B9%D8%B1%D9%81%D9%86%D9%8A

nisrine m.noor

 

 

 

وحدها هذه الجدران تعرفني



(رواية)

 

نسرين محمد نور

 

 





الرواية الفائزة بالمركز اﻷول

بمسابقة منصة ليلى الثقافية

للرواية والقصة القصيرة للعام 2017م



 

 

العنوان: وحدها هذه الجدران تعرفني (رواية)

المؤلف: نسرين محمد نور

تصميم الغلاف: منصة ليلى الثقافية

ترقيم الكتاب بالمكتبة: 180030023

صفحة الكتاب بالمنصة: https://laylacp.net/webaccess/book_view.php?id=180030023

 

 

جميع الحقوق محفوظة © 2018 منصة ليلى الثقافية

Copyright © 2018 Layla Cultural Platform (LCP)

(https://laylacp.net)

 

هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع اﻹبداعي نَسب المُصنَّف – غير تجاري – الترخيص بالمثل 4.0 دولي

Attribution-NonCommercial-ShareAlike 4.0 International

 



 

 

وحدها هذه الجدران تعرفني

 

تعرفت عليها صدفة في الدار الداخلية للطالبات و نمت بيننا صداقة جميلة..

كانت إنسانة مميزة بكل معاني تلك الكلمة..

شجاعة صادقة و منصفة ..

عفوية و مثقفة.

صديقتي جميلة في كل أشيائها .. تأسرك بمجرد فتح حوار معها..

و كمعظم فتيات بلادي المغتربات في أحضان الوطن ،  كنّا نخرج من الدار الداخلية

 لنقضي بعض الليالي سوية في أحد بيوت صديقاتنا..

تجاذبنا مع رفيقات الغربة الأحاديث و تعالت ضحكاتنا تارة لطرفة من إحداهن و نكتمنها خجلاً من أخرى..

ثم خلدنا للنوم تحت نجوم الليل بعدما استكثرت علينا الكهرباء متعة تلك الليلة بعدما ملأنا بطوننا بشهي الطبيخ المنزلي الدافىء..

و عندما شمّر الفجر ساعديه ليدفعنا عن أسّرتنا المتلاصقة، لم أجد غيري ما يزال يتسربل بالنعاس..

و سمعت بعض الهمهمة.. و بعين يثقلها النوم حاولت أن أستشف من صاحب الخطوات نحوي.. فوجدتها صديقتنا أمل_صاحبة الدعوة الفخيمةو سألتني قائلة..

هل نُثر على وسادتك بعض تراب المقابر..

نظرت لها بإستغراب متسائلة عما جرى و أين باقي الفتيات..

فأخبرتني أن صديقتي جاءها هاتف يحمل خبراً سيئاً و هو أن جدتها قد أدخلت غرفة الطوارىء في ساعات الصباح الأولى و أن غدير قد ذهبت معها و قد أوصلهم أبوها للمشفى..

كل ذلك و أنا نائمة هتفت..

ضحكت قليلاً ثم أردفت : كان يبدو عليك التعب و لم نشأ أن نوقظك..

هيا و لنستعد للحاق بهم..

أمسكت بكوب الشاي الحار و تذكرت أنها لن تكون قد شربت كوبها من الشاي.. و أن ذلك الكوب الصباحيّ له الصدارة على تفاصيل يومها كله.. و لنكن واقعيين.. هي على استعداد أن ترشفه كما الماء في أي وقت..

لم تمض نصف الساعة إلا و نحن نتوقف أمام المستشفى..

للمرة الأولى أقابل أفراداً من أسرتها.. تجمع بيهم بعض الملامح و تتشابه لحد ما نبرات أصواتهم..

لاحظت أيضاً أن أثر السفر لا يبدو عليهم..

سحبتها من يدها و سألتها هل  هؤلاء الخلق أقاربك؟؟ و هم من قلب المدينة و أنت تقطنين الغرف المشتركة في الداخليات؟؟

ابتسمت بمرارة.. أجل..

لم أعر الأمر اهتماماً بداية و لكني استدركت ذلك و قبل أن أفتح فمي.. انسلت كالنسمة من أمام ناظري و رأيتها تحادث إمرأتين و رجلاً.. و عندما همّ هذا الأخير أن يربت على كتفها أجفلت.. كأن حية لدغتها و وجدت نفسي ألحق بها بشكل تلقائي و أمسك بيدها بكلتا يدي.. فتمسكت بهما كغريق يصبو للنجاة بقشة..

للأسف لم تنجُ جدتها و انتقل كل ذاك الحشد لمنزل العائلة في واحد من أرقى أحياء المدينة..

لم نستطع أنا و أمل و غدير أن نخفي دهشتنا مما تراه أعيننا من ترف و أبهة تحيط بالمنزل و ساكنيه و المعزين..

كأن صديقتنا صورة سلبية لا تنتمي للوحة التي تبهرنا في هذه اللحظة..

لكن لم تملك إحدانا الجرأة لتسأل.. و كانت صديقتنا مشغولة بتلقي العزاء في فقيدتها.. و أظنها لاحظت الهدوء الذي يشملنا..

فكانت تجلس إلينا قليلاً حتى يأتيها منادٍ فتنصرف..

الوضع بشكل عام كان عاديّاً .. استخدموا شركة خدمات قامت بواجب الضيافة و التنظيم و كل ما كان يرهق أهل الميت و أقاربهم من الدرجات الأولى..

لقد أصبحت دور العزاء ناديًا لتبادل الخبرات الحياتية المختلفة و أخبار البورصة و سوق الذهب و حتى المحاصيل و المواشي..

غادرناها في تلك الأمسية و عدنا أنا و غدير  إلى غرفتنا قليلة الإضاءة .. رطبة الجدران و إلى تلك الضوضاء التي فارقناها قرابة الأسبوع..

دخلت علينا المشرفة بنظارتها السميكة و رائحة عطرها (رومبا) تسبقها..

أرى أنكن عدتن أخيراً.. تصورت أنكن سوف تنتقلن من هنا و كنت سأقوم بتأجير الغرفة بأسرة أكثر.. و قبل أن أرد عليها بحدة استطردت غدير.. و نتركك بعد كل تلك العشرة و أين سنجد مشرفة بطعم السكر مثلك؟؟

ذابت قطعة السكر تلك في لحظة..

حسناً حسناً يا غدير.. أخجلتني بكلامك الجميل.. و أنا أحدث نفسي سراً أي سكر؟؟

حمدا لله فقد أعفتنا من ثرثرتها و أغلقت الباب خلفها..

رتبت أغراض الصباح و تناولت دفتري الصغير أتصفحه و وقعت عيني على فراشها الفارغ..

لم ألاحظ أبداً أن سريرها يختلف عن خاصتنا إلا هذه الليلة.. أجل لديه نفس اللون النيلي و لكنه عريض قليلاً.. ليس قليلاً بل أعرض من سريري بشكل ملحوظ.. و سمك ذاك الفراش.. و الشراشف التي تغطيه..

إلتفت لغدير لأحكيها ما يدور في خلدي فوجدتها غارقة في النوم..

استسلمت للنوم أنا الأخرى لا أدري في أي ساعة و لكن فجأة أيقظني صوت مرعب كأن السماء سقطت علينا..

فأجفلت فزعةإنه الرعد يا آنسة نعسة.. بادرتني غدير..

و أردفت يبدو أننا سنأخذ اليوم عطلة فالمطر يهطل بغزارة منذ الصباح..

منذ الصباح!..

في أي ساعة نحن.. سألتها

و أشارت للمنبه بجانب سريري فإذا به يشير للثانية ظهراً..

قمت بخمول غريب نحو الحمام و فوجئنا أخرى بصوت  مرعب و تبعه هذه المرة إنقطاع للتيار الكهربائي.. خرجت مني زفرة قهر.. لماذا أشعر أن هناك مؤامرة تحاك ضدي..

ضحكت من كلماتي و ناولتني الشمعة و علبة الثقاب.. كأن الظهيرة قد بدلت مقعدها مع الليل على طاولة اليوم..

لم يمض وقت طويل حتى سمعنا طرقاً خفيفاً على الباب..

و فتحت الباب لأجد صديقتي و في يدها حافظة طعام كبيرة .. ابتسمت قائلة: أتمنى أنني أدركت الغداء..

جلسنا على حواف الطاولة التي تتوسط الغرفة و أحضرنا صحوننا التي تشبه أزياء أطفال يوم عيد.. ملونة بطريقة مضحكة..

و لم استطع صراحة أن أتحمل كمية الأسئلة التي تدور في ذهني..

و قد أستغليت خروج غدير لمشاهدة التلفاز بعد عودة الكهرباء..

عزة.. هناك آلاف من علامات استفهام أحتاج إجابة لها..

اتكأت على فراشها الوثير ذاك و قالت ببساطتها التي تدهشني.. تفضلي..

سأكون كتاباً مفتوحاً أمامك..

فقط لهذه الليلة.. حاولي أن تجمعي أكبر قدر من فضولك ..

و افتر ثغرها عن تلك الإبتسامة المريرة.. خانتني لحظتها كل الأسئلة التي كانت تجول في خاطري.. و لم أجد ما أقول.. فأطرقتُ قليلاً..

ثم قلت لها: لماذا لم تذكري أن لك جدة تقيم هنا .. في نفس المدينة التي تقاذفتك داخلياتها.. لا.. و ذاك الحي و تلك الفيلا..

اكتشفت أنني لا أعرف عنك شيئا.. ليس بالقدر الذي تعرفينه عني..

تنهدت و باغتتني.. كل أهل بيتي يسكننون الخرطوم..

و بالمناسبة.. هي ليست جدتي.. أقله ليس شرعاً.. كما تبين لي..

فغرتُ فاهي دهشةً.. شرعاً؟؟

لا تتلاعبي بي.. فالملامح التي في اللوحة التي تصدرت غرفة الضيوف كأنك أنت!

ما الذي يُدخل الشرع هنا..

حسناً يا عزة.. إن كنت لا تودين أن تحكي لي لا بأس..

لكل منا خطوطه الحمراء التي تؤطر خصوصياته..

و هممت قياماً إلا أنها استوقفتني..

سأحكيك لكن أتمنى ألا تحكمي عليّ فيما لست أملك فيه من أمري شيئاً..

و لنأمل أن غدير ستتأخر خارج الغرفة كعادتها..

لملمت أطراف ثوبي بين ساقيّ و عقدت يدي أمامهما و أسندت ذقني على ركبتيّ متحفزة لما ستقوله..

أحسست بوهن كل هذه الدنيا يرتسم على وجهها و لكنها فجأة رفعت رأسها و ألقتْ الصاعقة على رأسي..

أنا ابنة غير شرعية ..

تسرب كل ذاك الوهن و سكنني لحظتها.. يا ليتني ما سألت و لا نكأت ذاك الجرح الغائر..

كنت طفلة وحيدة لأمي و أبي..  أو من ظننتهما أبواي..

كنا نقيم في أطراف العاصمة في مزرعة يملكها جدي.. كبرت قليلا فأنتقلنا لتلك الفيلا التي رأيتِ.. تدرجت في دراستي و كنت متفوقة و هادئة و لكن هناك دوماً شيئاً ينقصني..

شيء ألمحه في عيون أبي كلما باغته ينظر نحوي خلسة.. ثم لا تلبث إبتسامته إلا و تنتزعني من أوهامي تلك..

كانت معنا في المزرعة خالتي الصغرى.. و لم تكن معنا..

كانت دائمة الشرود .. دائمة القلق و الخوف.. تقضي النهار في حديقة البيت الخلفية.. تسقي أحواض أشجار الليمون أو تنسق أحواض الورود..

و كنت أشعر أنها تتحاشاني على الرغم من أني أذكر كيف كانت تعاملني عندما كنت صغيرة.. لا سيما و أن بعض السنوات فقط ما يفصلنا..

جدي رجل صارم جداً.. رسمت تقطيبة مخيفة على وجهه.. لم أراه يوماً مبتسماً..

كان عالي الصوت أجشه.. لم أكن أكرهه بقدر ما كنت أخشاه و أخافه.. كانت نظراته كفيلة أن تجعلني أترك ألعابي و أركض لأمي مرعوبة عندما تتوقف سيارته أمام بيت المزرعة أو هناك حيث انتقلنا..

جدتي تلك التي أشبهها هي الأخرى أجد صعوبة في فهم عاطفتها نحوي..

تارة تكون حنونة و أخرى كأنها ساحرة خرجت من كتب الروايات..

مرت الأيام و السنين و أنا أعيش بشكل طبيعي..

لم أكن أطلب شيئاً فكل ما أحتاجه أجده في متناولي..

ولدت و في فمي ملعقة ذهبية و ضحكتْ بعصبية..

و غمغمت.. و يا لها من ملعقة..

كل ذلك و أنا أستمع لها و هي بعد لم تتطرق لتلك الكلمة التي قلبت كياني.. أنا ابنة غير شرعية..

و لم أشأ بطبيعة الحال أن أقطع عليها تسلسل سردها..

فبادرت.. للصدفة الغريبة في عيد مولدي العشرين أهداني جدي سيارة جديدة و أخبرني أني يجب أن أعتمد على نفسي الآن و أنه من الغد سيقوم سعيد السائق بتعليمي القيادة و من ثم سيستخرجون لي كل الوثائق النظامية.. فقلت له أني أخاف من القيادة و زحمة الطرق و السائقين.. فنهرني بصوت حسبت أنه استل روحي من جسدي و ألقى بها أمام قدمي قائلاً : ابنة عبد القادر لا تخاف..

هنا سقطت أمي مغشياً عليها..

و هبّ الجميع ليسعفوها .. بيد أنه لم يفعل شيئاً سوى أن جلس على أقرب كرسي و صار يقلب عينيه بين أوجه الحاضرين..

نقلت أمي للمستشفى و هي تعاني شللاً كاملاً و بالكاد أنفاسها تتابع..

أُدخلت للعناية المركزة و مكثت هناك بضعة أيام ٱستردت فيها الحركة في الجزء الأيسر مع ثقل طفيف في الجزء الأيمن و عسر في النطق و الرؤية..

أخبرنا الطبيب أنها تعرضت لسكتة دماغية و أنه يستغرب ذلك في عمرها الذي لم يتجاوز الثالثة و الأربعين..

عدنا إلى المنزل و استمرت الحال كما هي عليه.. جاءت ممرضة و بقيت معنا ترعى أمي.. الدواء و العلاج الفيزيائي و المتابعة المستمرة مع طبيبها المعالج..

و في ظهيرة السبت الذي تلى تلك الأحداث بأربعة أيام توقفت سيارة فولكس واجن بيضاء أمام باب الفيلا و نزل منها شاب طويل القامة أسمر اللون..

و أدخله الخدم إلى بهو الإستقبال حيث حياه جدي و جلس يتجاذب معه أطراف الحديث و يقهقه..

استغربت جداً من هذا الشخص الذي استطاع أن ينقل ذاك العجوز المشعوذ من كونه إلى كوكبنا؟

و لم ألبث إلا قليلاً حتى سمعت اسمي يملأ المنزل..

عزة عزة.. تعالي

تنفست وسع صدري و جئت بخطوات متعثرة إليه..

نعم جدي.. بادرته

فنظر إلي متمعناً و قال سلمي على طارق.. وقف ذلك الطارق و مددت يداً مرتعشة زادت ارتعاشتها كفه البضة الدافئة..

سحبت يدي بهدوء و أشار عليّ أن أجلسي.. و امتثلت

فقال: لقد تكرم الأستاذ طارق بإحضار سيارتك.. و منذ الغد سوف تبدأين تعلم القيادة..

شعرت أن قلبي يؤلمني..

و هنا استجمعت بعض شجاعتي و وجهت كلامي لذلك النجم الثاقب .. شكراً أستاذ طارق و أعتذر عن المشقة التي سببتها لك.. و لم أترك له مساحة للرد حيث استدرت لجدي و قلت له أنني أخاف من القيادة و أمي تحتاجني هذه الأيام ناهيك عن الجامعة و هنا وقف جدي فجأة.. فأختفى صوتي

هنا تدخّل طارق و قال أنه على استعداد أن يعلمني في نهاية الأسبوع في الزمن الذي أراه مناسباً و أن الخوف شيء طبيعي و كما أنه محفز للقيادة بتأنٍ و سلامة..

هدأ غضب جدي فجأة كما بدأ.. و حمدت الله ربي و ابتسمت لطارق شاكرة فأومأ برأسه.. استأذنتهما مغادرة فطلب مني طارق رقم هاتفي ليتفق معي ..

حسبت أنه يمزح.. ألم تكن بادرته لإطفاء غضب الشيخ عبد القادر؟؟

هل كان جاداً في عرضه لدرجة تجعله يطلب رقمي..

ناولني هاتفه السيار و قال سجلي الرقم باسم طالبتك عزة..

نظرت في عينيه مليّاً و لم أستطع قراءة شيء واحدٍ فيهما..

تركت البهو و أنا يأكلني القهر.. لماذا لم أثبت على موقفي.. هو ذنب ذلك الطارق إذ ظننت أنه أنقذني من جدي ليتلقفني هو .. و جدي معاً..

و في تلك الأثناء كان أبي يصعد السلم حيث لمحني..

مَعَزّتِي.. هكذا أعتاد مناداتي فأتيته مطأطأة الرأس.. و استفسر عن كل التعاسة التي تحملها ملامح وجهي.. فحكيت له ما جرى.. لم ينبس ببنت شفة إنما شعرت به كبركان يتحين الفرص كيما ينفجر..

جدك عبد القادر يجعل من نفسه وصيّاً على كل ساكني هذا البيت..

و فقط ساعتها استوعبت مدى كراهية أبي لجدي.. هنا واتتني الشجاعة لأسألها: عزة.. لماذا أوهمتنا أن أهلك يقيمون خارج السودان؟؟

و قد كنت تسافرين إلى الإمارات حيث قلت أنكم تعيشون؟؟

أنا حقاً أستغرب كيف استطعت أن تخفي كل هذه الأشياء عنا.. عني تحديداً.. أكاد أخبرك إن عطست و لم تكوني موجودة..

استوقفتني بحركة من يدها..

ثم أخذت نفساً عميقاً حسبت أنها لن تزفره قريباً.. و رفعت رأسها عالياً كأنها تستقرأ السقف وحيّاً فتجيبني به..

كل أسئلتك سأجيب عليها لو استمعت إليّ و حاولت أن تضعي نفسك مكاني..

أنا يا صديقتي أسير بينكم كالشبح.. لا أشعر بإنتماء إلا لهذا التراب.. فهو الحقيقة الوحيدة التي أعرفها..

أن أصلي من هذا التراب..

هل أواصل أم أجيبك على تساؤلاتك؟؟

آثرت أن تجيبني.. لكني نزلت عند رغبتها أن تحكيني.. شعرت أنها المرة الأولى و ربما ستكون الأخيرة أن تبوح أحدهم بقصتها..

فقلت لها.. لن أفتح فمي أخرى..

و مسحت بيدها على وجهها .. علها تزيل عن صفحته عاراً ارتسم على قسماته.. و بدأت ما توقف من حديث..

سألت أبي.. لماذا تكره جدي عبد القادر؟؟

جرأة ذاك السؤال جعلت خطوات أبي المبتعدة عني تتوقف .. و ألتفت نحوي و ملامحه تتلون ما بين مرارة و غضب و قهر..

و لأول مرة في حياته يمسك ذراعي بهذه القوة .. حتى أن آهة مكتومة صدرت مني جعلته يفلتني و يرجع خطوة إلا الوراء..

ثم يغمغم.. اسألي كل من بهذا المنزل .. هل فكرتم مجرد تفكير أن تحملوا له إحساساً غير البغض و الكراهية؟؟

صدقيني ستخبرك جدران هذا البيت عن جبروت هذا الرجل ..

و غيّر وجهته و خرج من المنزل بعد أن صفق الباب وراء ظهره..

لم تتملكني الحيرة في تلك اللحظة بل تنازعتني حتى أعمق نقطة في كياني.. و لكن من أسأل حتى لا أتسبب بكارثة..

أنا أعلم أن أبي يدير إحدى شركات جدي العقارية .. و هو قريبه من الدرجة الثانية..

درس إدارة الأعمال في جامعة القاهرة فرع الخرطوم و قد مكث عندهم في فترة دراسته .. و هو يكبر أمي بسنة واحدة.. و هي بدورها درست إدارة أعمال في جامعة الأحفاد للبنات.. و قد حكت لي أن محي الدين_ أبي_ كان يشرح لها ما صعُب عليها و أنها كانت تتحجج بذلك حتى لو لم تحتاج ليراجع معها..

وجوده كان يبعث الراحة في النفس..

و هكذا نمت بينهما علاقة حب عميقة تكللت بالزواج و بي كهدية من رب السماء..

و يا لي من هدية..

هربت من عينيها دمعة.. أحرقت قلبي قبل أن تمس خدها.. لم أستطع أن أجلس مكاني.. فذهبت و جلست إليها فأرتمت في حجري و أخذت بالبكاء.. انكفأت عليها لعلي أصير لها دثاراً يدفع عنها قسوة ليس لها ذنب أن تمسها سوى أنها ذنب أشخاص آخرين..

فتحت غدير الباب و هي تقهقه.. تنبهت لنا فأعتذرت و انسحبت من الغرفة بعدما أخذت غطاء و مخدة و قالت أنها ستبيت في الغرفة الأخرى..

و نظرت إليّ توصيني.. أن عزة يكفيها بكاء.. و يجب أن تخرج من جو الكآبة الذي تعيشه.. فأومأت لها أنْ حسناً..

و أغلقت الباب..

احتويتها بين ذراعي و طلبت منها أن تنام و غداً إذا رغبت سنكمل حديثنا..

وافقت .. و تكومت كطفلة تخاف أشباحاً تسكن الظلام أمامي.. و نامتْ

كنت أمرر يدي على شعرها الناعم الفاحم.. و أستمع لدقات قلبها المنتظمة الهادئة و هي تملأ صدري..

كم أنت قوية لتحملي كل العذاب وحدك يا عزة.. و نِمت.

صحوت على حركتها ..

صباح الخير.. أعتذر أن ضايقتك ليلة أمس و جعلتك تنامين بجانبي..

ابتسمت لها قائلة: كنت كصغار الملائكة.. لم تتحركي مطلقاً..

فقالت: صغار الملائكة ليسوا قذرين.. يعلوهم العار و يلطخهم دنس الخطيئة..

نهرتها دونما أن أشعر..

أرجوك ٱصمتي.. لا أريد سماع كلمة واحدة منك..

لماذا تصرين أن تجلدي نفسك بشيء ليس لك ذنب فيه؟؟

لماذا تصلبين نفسك و تعذبينها بأمر أنت ضحيته؟؟

عزة.. أنت أجمل ما قد يحدث لأحدهم..

ضحكت بتهكم و قالت: هذه الجملة تشبه التي قالها لي طارق..

عزة..( أنت أجمل ما حدث لي)..

و هو لم يعلم أنه ذاك الباب السريّ الذي جعلني أعرف من أنا.. و ابنة من أنا.. و أني حمل ثقيل ينوء به أعتى الناس..

هبت من جلستها تلك .. و إلتفتت إلي و هي تقول: سأذهب الليلة لمنزل العائلة.. هل تذهبين معي أرجوك.. لا أود أن أكون معهم وحدي..

وافقت على مضض..

و خرجنا أنا إلى الكلية و هي إلى مكتبها..

لم أفهم كلمة واحدة من ثلاث محاضرات .. كان عقلي مغيباً .. لا يريد أن يستوعب شيئاً غير قصة عزة العجيبة..

و كنت أستعجل الساعة أن تركض عقاربها و لكنها كانت تتحرك كساعة رملية..

انقضى نهار ذلك اليوم و أنا لم أدخل خبزة في جوفي.. ينتابني قلق غريب و أشعر أن هناك مصيبة تكاد تقع..

استغفرت الله ربي .. يبدو أنني لبست حذاء عزة لدقائق.. ياااااه.. كم هي قاسية هذه الدنيا..

تكيل لمن لا يستحق من أسوء ما فيها من مصايب و هموم و تعطي الأوغاد ملء كفيها..

جاءت نهاية اليوم و كأنها نهاية الدنيا.. و اسرعت للداخلية حيث وجدت عزة قد حضرت قبلي بوقت طويل و استعدت..

فحاولت أن أجهز نفسي سريعاً لنذهب..

و بالفعل وصلنا لبيت جدها.. حيث وجدناه يجلس في الحديقة كتمثال على مقعد..

يرتدي جلباباً أبيضاً و يعتمر عمامة..

لم تسعف عزة الكلمات في وصفه.. كان وجهه متجهماً بشكل مخيف.. مخيفٍ حقاً و يبعث على الرعب..

و عمق صوته يجعلك تبحث عن نفسك في عمق بئر.. قد تهرع إليها هرباً منه..

ألقينا عليه التحية و عرفتنا على بعضنا بإقتضاب و دخلنا الفيلا..

وجدنا مجموعة من النساء حيتهن و صعدنا إلى الطابق الثاني حيث غرفة والدتها..

فتحت الباب بعد أن طرقته بهدوء..

وجدنا إمرأة مسجاة على سرير خشبي كبير.. يتوسط الغرفة..

بجانبه صوفا متوسطة الحجم أشارت عليّ أن أجلس عليها.. و فعلتُ.

ذهبتْ إليها و قبلتها على جبينها.. و جلست على طرف السرير و احتوت يدها و قربتها من شفتيها و قبلتها..

و أنا أجيل بصري في الغرفة..

كل قطعة أثاث تحكي قصة من الرقي و الجمال.. المنضدة.. المرايا.. الخزانة..

لكن لا حياة تنبض في الأنحاء.. غير تلك الأصوات الخافتة المنتظمة لأجهزة المراقبة التي تربط أم عزة بالحياة ذاتها..

أحسب أنك عرفت أين أذهب عندما أغيب عنكم يومين أو أسبوعاً..

تدهورت حالة أمي بعد أن عرفت أنني ابنة غير شرعية..

و كان يستحيل عليّ العيش تحت سقف واحد مع مغتصب أمي و أتقاسم معه الهواء الذي أتنفسه..

قفزت عينيّ من جحريهما..

مغتصب أمك؟؟ يعيش هنا؟؟

عزة.. أشعر أن أنفاسي تهرب مني.. عزة.. أنا.. و سَقَطتُ مغشيّاً عليّ..

نسرين.. نسرين.. سمعت اسمي يأتي من بعيد.. شعرت بأطرافي باردة و أنفاسي متقطعة و فتحت عينيّ.. فوجدت عزة تنظر إليّ بجزع.. و الممرضة تقول: إنه مجرد انخفاض في ضغط الدم.. نتيجة للسهر أو التعب..

حمدا لله على سلامتك آنسة نسرين و استأذنتْ و خرجت من الغرفة..

استجمعت تتابع أنفاسي.. أين أنا يا عزة و ما الذي حدث؟؟

لم تنبس ببنت شفة.. إنما ناولتني كأس عصير ليمون و قامت بمساعدتي لأشربه.. لم أقدر أن أبتلع منه جرعتين إذ تذكرت آخر ما دار بيننا من حديث..

فأنتفضت من السرير و سألتها.. كيف يعيش من اغتصب أمك تحت سقف واحد معها؟؟

و إن كانت أمك أُغْتِصبتْ فأنتما ضحيتان لشخص واحد..

..توسلتها .. من هو..

إنه الشيخ عبد القادر يا نسرين..

هو جدي والد أمي و والدي..

لحظتها أظلمت على الغرفة برغم سطوع تلك الأضواء التي تدلت من السقف كعناقيد العنب..

فغرت فمي و لم تكن هناك كلمة تقال.. هممت أن أقوم من اضجاعتي تلك.. فلم تستجب أطرافي لرغبتي..

كنت كالذي وقعت عليه كسف من السماء.. بقيت ليلتي في تلك الغرفة الواسعة.. و كنت أشعر أنها أضيق علي من قبر..

لم تعد تلك الأبهة تبهر عينيّ.. بل باتت كل الأثاثات كبيادق شطرنج.. صغيرة و تجثم بين حديّ اللألوان.. الأبيض و الأسود..

و كلما رفعت رأسي لأنظر لعزة.. كنت أجدها تحدق في وجهي.. فألتفت للجهة الأخرى خوفاً عليها من ذلك الجمود الذي ٱكتساني رغم الدموع التي تغرقه..

يا الله.. يا الله.. يا الله..

من أين لكِ كل هذه القوة و ذاك التجمل و التجلد..

أربعة و عشرون عاماً و ما زال أمامك عمر ستعيشينه ضعفاً و أنتِ تحملين الوجع أطناناً..

أخيراً لم أستطع أن أتحمل فرفعت لها ذراعي أن هلمي إليّ.. و ضعنا بين دموعنا حتى نبه المؤذن للفجر..

أذكر أنها مسحت وجهي بكفيها و قبلت جبيني و قالت بصوتها المتهدج: ألم تكوني أحسن حالاً لو لم تعرفي..

تخيليني أنا و كأن كل لحظة من عمري أتت و صفعتني على وجهي.. كل عيد ميلاد جاء كخنجر يستل الفرحة مني و يورثني النجيع..

صارت كل الدنيا كمأتم كبير مفتوح .. أموت في الموتة ألف موتة..

استغفرت و طلبت أن نصلي ركعتين ريثما يؤذن للصلاة..

شدت على يدي فقمت معها و توضأنا و استقبلنا الشرق و كبرنا..

لم أصلي في حياتي بكل ذلك الخشوع..

حمدت ربي على نعمة أبي برغم تعنته و رجعيته.. و على ثرثرة أمي و تدخلها في كل تفاصيل حياتي..

شكرت ربي على تلك الغرف رطبة الجدران و على أبواب صدئة تضمني مع إخوتي تحت سقف أقسم أن يقاسمنا المطر كلما هطل..

ياااااااه.. لك يا الله الحمد و الشكر..

ضحكت بعفوية و هي تسألني: كل هذه دعوات؟؟

انتبهت أني كنت أرفع يدي لبعض الوقت و أنا اعتدت أن أطوي سجادتي من قبل أن أنهي التسليمة في جهتي اليسار..

لم أعقب و ذهبت نحو أريكة في الشرفة و قبعت فيها كمن يختبأ من عفريت..

جلست بجانبي و وجهها يبدو عليه الإرهاق و التعب..

عزة.. عليك أن تنالي قسطاً من النوم.. و ..

لم أكمل جملتي إذ سمعنا طرقاً خفيفاً على الباب..

تفضل .. بصوت فاتر ردت..

كانت وجدان الممرضة أتت تطمئن عليّ..

و بعد أن قاست ضغط دمي .. سألت عزة.. هل يحضرون لكم الشاي أم تنزلون للطابق السفلي؟؟

نسرين.. ما رأيك؟

احسست بأني أود الخروج من كل تلك الجدران التي تكاد تخنقني.. فقلت: هل يمكننا تناوله في الحديقة؟؟

أجابت عزة.. لما لا..

هيا بنا..

الحديقة .. مساحات من العشب الأخضر تتوسطها نافورة و تحيط بها أشجار ياسمين مشذبة و بعض شجيرات الريحان ..

في أحد زواياها توجد مظلة كبيرة تتناثر تحتها عدة مقاعد و طاولاتها..

و أحواض ورود مسرجة بإضاءة خفية.. تجعلها كتلك التي نقرأ عنها في الكتب و القصص الخرافية..

انتزعني من أفكاري تلك صوت الخادمة و هي تسألني عن عدد ملاعق السكر التي أتناولها مع الشاي.. فأخبرتها ثلاثة..

صبت الشاي و تركت طبقاً مليئاً بقطع من الكعك.. و دخلت الفيلا..

شربنا الشاي في صمت غريب..

لم يقطعه إلا أغاريد الأطيار بين الفينة و الأخرى..

و شيئاً فشيئاً تعالت أصوات الحياة خلف تلك الأسوار ، و الصبح يتمطى و تتثاءب أشعة الشمس مبشرة بالنهار..

يجب أن نذهب الآن يا عزة.. هذا ما قلته و وقفت على رجلي.. ترنحت قليلاً و لكني أمسكت بالطاولة أمامي حتى كادت أن تسقط الآنية أرضاً ..

حسناً يا نسرين.. و أمسكت بي كأم تخاف على صغيرها الضياع.. صعدنا الدرج و كان البيت هادئاً .. لم تتجاوز الساعة السابعة صباحاً و قد كنا خرجنا من منزلهم بعدما اطمئنت على أمها..

سأوصلك للكلية و من ثم سأذهب أنا إلى العمل.. و بعدها سآتي لإصطحابك.. إياك أن تتحركي حتى أحضر إليك نهاية اليوم.. قالت لي..

كان اليوم ثقيلاً طويلاً.. كأحد أيام تموز عصية النهار..

كنت كالذي خرج من قبره.. جسداً بلا روح..

و قد ازددت شحوباً و أنا أتقدم نحو سيارتها .. و قد كانت تتجادل مع رجل كاد ظله أن يبتلعها..

تبدو على ملامحه العدوانية و كان يلوح بيده متوعداً.. لم تثنه نظرات المارة و لا استغرابهم من صوته العالي..

و ما أن لمحني.. حتى وضع نظارته الشمسية و ركب سيارته و انطلق..

فتحت الباب و صعدت بعد أن أغلقت بابها بهدوء قالت لي:

هذا طارق ..و لم اسأل أو أناقش.. هل أسلفت أن ذلك اليوم كان ثقيلاً؟؟

حسناً هو ما يزال ثقيلاً و مؤلماً و قاتماً..

وصلت غرفتي و استلقيت على سريري.. لم تكن لدي الرغبة في تبديل ملابسي أو خلع حذائي .. أو حتى إلقاء التحية على أحد..

و لحظي العاثر جاءت المشرفة و بدأت بإنشاد الموشح المعتاد في حالة التأخير و المبيت خارجاً دون إذن مسبق..

و يا ليتها لم تفعل.. و يا ليتني أمسكت عليّ لساني..

اعتدلت في جلستي و أنا أغالب كل ما في صدري من حنق..

و فجأة وجدتُ نفسي أكيل لها كل الكلمات التي كتمها شهوراً.. تفجرت بكل ذاك الغضب الذي اعتراني منها و من اليومين الفائتين..

شعرت أني أنفاسي انتظمت و كذلك دقات قلبي.. و هي لا تصدق أني تفوهت بكل ذلك..

لم أحسب أنني سوف أطرد من الدار..

ببساطة طردت و لا مكان أذهب إليه..

ياااااه ما هذه اللعنة التي حلت عليّ..

أسقط في يدي.. رمقتني غدير بنظرة استغراب..

و قالت: ماذا ستفعلين؟؟

إمتحانات نهاية العام بقي عليها عدة أسابيع و تعلمين صعوبة أن تجدي غرفة قريبة من الجامعة و بهذا السعر..

و بكل هدوء الدنيا قالت عزة: ستسكن معي..

إلتفتنا إليها معاً..

أين بالضبط .. في فيلا جدك؟؟

أنت لم تسكني فيها.. فكيف تأخذين غيرك لتسكنا فيها.. باغتتها غدير بسؤالها..

نسرين.. سنتصل بأمل و هي لن تمانع استضافتك لأسبوع ريثما نجد حلاً.. هكذا ختمت غدير حديثها و هي تنظر بغبن ناحية عزة..

و دعوني أكن صريحة معكما..

و جلست على أقرب كرسي..

لم يكن هناك منطق لكل هذه الأشياء.. خروج من غير إذن و مبيت من دون مبرر..

هذا التعب الذي يظهر على وجهك نسرين.. تفوهك بالحماقات و أنت تعرفين أن هذه المشرفة تحديداً تترصدك و قد صرحت بذلك بشكل واضح..

أين عقلك و أنت في السنة النهائية و تحتاجين كل الوسائل المتوفرة للتحصيل..

و أعتذر عزة.. لكن لا أعتقد أن لديك مشكلةفهناك فيلا ضخمة بإنتظارك و عائلة يمكنك الإعتماد عليها..

نحن لسنا مثلك.. في هذه المدينة نحن غريبتان و لا نقوى نسافر لأهلنا إلا في الأعياد و المناسبات الرسمية..

نحن لم نولد في أسرة أبنوس و لم نلفّ في الحرير.

و خرجت من الغرفة بعد أن صفعت الباب..

لن تذهبي لتقيمي عند أمل.. أنا سبب هذه المشكلة ستقيمين معي أنا..

هذا ما قالته عزة.. فأجبتها بصوت كأنه آتٍ من قاع سحيق: أين؟؟ في فيلا عبد القادر!

أتمزحين؟؟

عزة أنا لم أستطع أن أتنفس بين تلك الجدران و تطلبين مني أن أقيم هناك..

أنت نفسك خرجت منها و تذهبين إليها في الشهر مرة واحدة..

لن أقوى.. صدقيني..

حسناً.. سأتصرف.. و أخذت هاتفها و خرجت من الغرفة ، تاركة إياي كالغريق يسأل نفسه ما عساه يفعل كي ينجو..

 دلفت غدير إلى الغرفة و لم تتكلم معي.. إنما أنزلت حقيبتي من فوق الخزانة و بدأت ترتب ملابسي و جمعت أحذيتي و وضعتها في الحقيبة الصغيرة التي قبعت تحت السرير تعانق الغبار دهراً..

ثم إلتفتت إليّ قائلة بحزم: لقد إتصلت على أمل و ليس لديها مانع أن تكملي باقي هذا الفصل في منزلها..

و لا تناقشيني ..

و جلست بجانبي و أنا كأني بلا صوت..

نسرين.. لا تغضبي مني.. لكن منذ أن توطدت علاقتك بعزة صرتِ أخرى..

ألم تلاحظي أننا ما عندنا كما السابق؟؟

ما عدنا نخرج معاً.. ما عادت لدينا قواسم مشتركة.. حتى أنك تركت الترحيل و أصبحت عزة من يوصلك صباح و مساء..

أنا لا أقول ذلك بدافع الغيرة منها..

و صمتت قليلاً.. حسناً من نخدع .. أنا أغار منها جداً فقد أخذتك مني تماماً..

أنا لا أفهم سر تعلقك بها لهذا الحد؟؟

هي تكبرك بما يقارب الأربعة أعوام و لكما شخصيتان مختلفتان و فوارق لا تحصى و لا تعد!!

ناهيكِ عن هذه الحادثة..

*غدير.. أنت لا تفهمين..

** حسناً.. كلي سمع.. ما الذي قلب كيانك بهذا الشكل؟؟

لا أريد أن أضغط عليك إلا أنك سوف تبقين عند أمل و لا جدال في ذلك.. و سوف أتصل بأمك أخبرها أن هناك صيانة في الداخلية و قد أتعبتك رائحة الدهان و أن أمل اقترحت أن تقيمي معها حتى تتحسن صحتك و الإمتحانات على الأبواب.. و سنجد حلاً لفترة البحث..

حتى لو اضطررت أن أبحث لنا عن داخلية أخرى..

ليس هناك ما يدفعك لفعل كل ذلك يا غدير.. أنا قادرة على تدبر أموري..

خرج صوتي مقبوضاً مبحوحاً..

لم تعد عزة برغم أن ساعتين قد مرتا منذ أخذت هاتفها و خرجت واعدة إياي بحل لهذه الكارثة التي أوقعت نفسي بها بغبائي..

حضر (العم الرضيّ) سائق حافلة الترحيل في ذلك الوقت و حملت غدير و معها ( خديجة) حقائبي و أشيائي و وضعوها في العربة..

ودعني من كان في بهو الداخلية بينما أدارت ( سنيّة) المشرفة وجهها للجهة الأخرى كأنها تستكثر النظر إليّ.. أو ربما استحت من أن يلحظ الجميع الشماته في ملامحها و فرحتها المكتومة في أنها أخيراً تخلصت مني و أنا من تعودت أن تقف لها في حلقها فيما يختص الخدمات و تتصدر معظم المشكلات و لا تنافقها مطلقاً..

عموماً ها أنا ذي أترك وراء ظهري أربعة أعوام و نيف .. في مكان كان بيتي و جدران أماني..

تعلقت خديجة برقبتي و همست من بين أدمعها..

من سوف يعطيني قطع الحلوى و يزيد لي أجرة الغسيل و يترك لي باقي النقود ..

من سيفتقد لي لو غبت و يناديني ليستشيرني في مظهره .. أو ليسمعني أغنية جديدة.. و اجهشتُ في بكاء صامت غرس خنجراً في قلبي..

قبلتها على رأسها و وعدتها أن حلواها لن تنقطع و أن غدير ستحضرها لها من الكلية كل يوم..

و عزة لم تعد بعد..

و قلبي يتلفت يبحث عنها قبل عيني.. و عندما هممت أستقل العربة إذ بي ألمح سيارتها في موقفها بجانب المخبز حيث اعتادت أن توقفها و تترك صبيان المخبز يرقبونها لها..

أمعنت النظر فإذا بها داخلها!

ساعتين .. و لم تكلف نفسها عناء أن تأتي لتنقذني من ذاك الموقف؟

ساعتين و أنا أسمع نصف حديث غدير معي و نصفي الآخر كان مؤملاً بأن تطل عليّ.. و تقول لي أي شيء.. أي شيء.. فقد كان ذلك كفيلاً أن يخفف عني قليلاً..

لكنها لم تأتِ..

مرت حافلة الرضي بجانبها ببطء لأن الشارع كان أشبه بطبق بيض فارغ.. كل خطوة تأخذك من حفرة و ترميك في التالية..

فرفعت رأسها .. كانت تنظر إليّ و كأنها تنظر من خلالي..

أوقفتُ الحافلة لأنزل لها إلا أن غدير أخبرت عم الرضي أن يواصل تحركه..

إلتصقت بزجاج النافذة أراقبها و هي ما تزال قابعة في سيارتها و مع تقاطع الشارع الرئيسي و نحن نلتف يميناً..

ترجلت من سيارتها و اتجهت للداخلية..

اعتراني احساس غريب.. و أرجعت ظهري للمقعد و اعتدلت في جلستي.. و مرارة تملأ فمي.. و دموع أبَتّ أن تعتقني من جبروتها و انهمرت كهطل يوم خريفيّ مكفهر السماء..

لم تتحدث معي غدير مطلقاً في تلك المسافة ، إنما اندمجت مع عم الرضي في مناقشة كل أمور السياسة و وضع البلد المزري و عطالة الخريجين و الأخطاء الطبية..

كنت كقطعة خشب تطفو على أمواج البحر.. تغمرها المياه لحظة و يلفحها ضوء الشمس لحظة..

لم تكن حركة المرور سلسة كما جرت العادة مع عزة..

عزة.. و أخرجت هاتفي من حقيبتي بيد مرتعشة و اتصلت عليها..

جرس و إثنان و انقطع الخط..

حاولته مرة ثانية فأتاني مشغولاً.. في المرة الثالثة لم تكلف نفسها عناء الرد..

وصلنا لمنزل أمل و هو منزل جميل مكون من طابقين..

الأول به بهوي إستقبال و غرفة و المطبخ الرئيسي..

يظهر ذوق أمها الأنيق في تنسيق الأثاث و ألوانه رغم بساطته .. الطابق الثاني يحوي غرف النوم و بهو صغير..

السطح فيه غرفة كبيرة و ركن يستخدم للتخزين و يستعمل كعريشة للغسيل و الكيّ..

و تتناثر فيه بعض أسرة الحديد و المقاعد..

استقبلني الجميع بترحاب بالغ بعدما حكت لهم أمل عن وعكتي الصحية بسبب الدهان..

غمزت لي غدير بعدما لاحظت استغرابي من سماع ذلك..

أعدت الخالة (حنان) الشاي و تحلقنا حوله و تبادلنا الأحاديث الممتعة و تعالت ضحكاتنا و والد أمل العم ( الطيب) يحكينا عن أيامهم في الكلية الحربية و عن كل ما فعله فيهم الرقباء في فترة التدريب.. و أخذ كعكة من الطبق و رفعها عاليّاً و قال أنها ذكرته كيف أنهم كانوا يرشون أولئك الرقباء بعلب السجائر و علب الكعك المنزلي المحلى بالسكر و التي يفوح منها رائحة السمن البلدي..

و أنهم تفننوا في الهروب من المعسكر إلى أن أمسك بهم القائد ذات ليلة و أنه أجلّ عقابهم لفصل الشتاء بحيث أنهم ٱعتقدوه نسيّ .. و لم يتذكروه إلا عندما تم استدعائهم لمكتبه في منتصف ليلة من أواسط كانون الثاني شديدة البرد ..

و أمر الرقباء أن يبقوا عليهم في حمامات ساحة التدريبات الخارجية على أن يبقوا تحت الماء حتى الثانية صباحاً..

تغير صوته مقلداً سعادة العميد.. و إن حاول أحد الرقباء الرفق بهم فإن مصيره معهم..

أُذن لصلاة العشاء .. فقام من مجلسه ذاك بعدما ضرب (حسام) على رأسه ممازحاً..

قم معي للصلاة.. لو تركتك سأذهب بك للمشفى من أكل ما تبقى من هذا الكعك..

حسام كان في الصف الثاني الثانوي مكتنز الوجه و قصير القامة.. شعره يميل للون البني المحمر و عيناه بنيتان كالشهد.. و كذلك نكهة حضوره..

قمنا بنقل أغراضي لغرفة أمل حيث وجدت أنها أفرغت  لي مكاناً في خزانتها و أضافت سريراً في غرفتها و لاحظت أن الغرفة صارت أوسع من آخر مرة كنّا فيها هنا.. فسألتها عن السبب..

فقالت أن عزة اقترحت عليها أن تخرج خزانة الكتب للبهو حتى يتسنى لها توسعة الغرفة و يمكن لحسام و مرام مطالعة الكتب التي يريدونها بدون أن يزعجوها..

تأففت غدير لذكر أمل لإسم عزة .. و اكتفيت أنا بالإبتسام..

اضجعت على سريري الجديد و أفرغت صديقتايّ أشيائي في الخزانة و خلدنا للنوم بعدما اعتذرنا عن تناول وجبة العشاء..

عادت نسرين لروتينها المعتاد شيئاً فشيئاً و تتابعت الأيام و عزة أضحت بالنسبة لها كسحابة صيفٍ عجول.. هطلت فجأة و رطبت وجه الأديم ثم ٱختفت..

لم تشعر في منزل أمل بالغرابة أو أنها دخيلة فكل أهل البيت عاملوها بمنتهى اللطف و أحست أنها في بيتها و بين أهلها كما يسمعها والدا أمل كلما أحسّا بها انزوت على نفسها ..

عمدت غدير ألا تذكر أمامها اسم عزة أبداً و كأنها لم تصدق أن صديقتها عادت إليها بالكامل..

و قد كانت غدير تحكي الجميع عن نسرين و مكوثها مع صديقتها و المعاملة التي تتلقاها منهم كأنها ابنتهم الضائعة من زمن.. و تترصد عزة لتقول كلامها ذاك و ترمقها بنظرة لئيمة..

تحملت عزة مختلف التعليقات المصادفة منها و المتعمد ، إلى أن تواجهتا مع غدير٠ و تدخلت سنيّة لصالح الأخيرة.. و هنا احتدم النقاش لدرجة صَعُب معها البقاء..

لم تمضِ ساعة إلا و قد حضرت سيدة في مقتبل العمر ، حسنة الهندام و دلفت إلى مكتب سنيّة التي اصطحبتها لغرفة عزة المشتركة و يظهر على وجهها الإضطراب..

قامت تلك السيدة بحزم أمتعة عزة و إخراجها للبهو حيث حملها العم الرضي إلى الساحة الخارجية للداخلية و تكفل ( عثمان) السائق بحملها للسيارة الواقفة أمام الداخلية..

تركت سريرها ذاك و فراشها لخديجة مع بعض الملابس و أشياء متفرقة..

و في تلك الأثناء رنّ هاتفها فردت.. أهلاً طارق..

حسناً سآتي حالاً .. و ذلك على مسمع من غدير و باقي فتيات الداخلية و خطت نحو المخرج.. لكنها توقفت قليلاً و أعادت أدراجها للغرفة كأنما نسيت شيئاً.. تبعتها غدير تلقائياً لتجدها فتحت درجاً داخلياً في خزانتها و أخذت منه دفتراً صغيراً.. و خرجت على عجل..

ألقت عزة تحية وداع مقتضبة على الجميع و شيعنها في فضول علهن يلمحن ذلك الطارق..

و فعلاً رأيّنه .. ينتظرها واضعاً يده على باب السيارة و عند وصولها له انحنى إليها متحدثاً و أخذ حقيبتها الصغيرة و وضعها في المقعد الخلفي.. بعدما أغلق الباب و اتجه نحو الداخلية بخطوات واثقة ..

ألجم حضوره و وسامته الطاغية ألسن الفتيات و هن يسمعنه يسأل سنيّة عن أي مستحقات مالية يجب على عزة دفعها..

فأجابته أنه تبقى لها مبلغ من المال عبارة عن فترتها المتبقية من الشهر الذي دفعته مقدماً..

أخبرها أن مساعدته أمنية سوف تحل معها هذا الأمر .. و أومأت أمنية برأسها.. ثم ناولها مفتاح سيارة عزة و قال لها: عزة في شقة في المنشية و ليس في فيلا الشيخ عبد القادر.. فأحضري هناك و قد تدبرت لكما إذناً لليوم..

أخفى عيونه الكبيرة خلف عدسات نظارته الشمسية و خرج..

تبعته العيون من خلفه حتى استقل سيارته مع عزة و تواروا عن الأنظار..

لم يكن في الداخلية حديثٌ ذلك اليوم إلا عن عزة و طارق..

و هل هناك أخصب من مخيلة فتيات الداخلية ؟

إحداهن قالت : أنهما متزوجان عرفيّاً و هذا السبب الحقيقي لمغادرة عزة.. أخرى أردفت: نسرين ضحية لها.. ربما أرادت أن تجرها لهذا الدرب.. لكن الحمد لله أنقذتها العناية الإلهية..

سرت التخمينات كالنار في الهشيم.. و لم تخلو من الإفتتان بالسيد طارق .. وصفنّه كخياط محترف يود خياطة بدلةً له..

و تركن كل ذاك و بدأن في إعادة مشهده عند خروج عزة للقائه و الهيام الذي طغى عليه و هو يحادثها و يأخذ حقيبتها و يغلق الباب عليها..

عند ذلك الحد صرخت فيهم غدير.. كفى!

دعونا من عزة.. أخذت شرورها معها و غادرت بلا رجعة..

و انفض الجمع كما ٱجتمع.. وصلت عزة و طارق لشقة المنشية.. التي كانت عبارة عن طابق كامل فيه مدخلان ..

الباب الأول يقود إلى بهو صغير تفتح فيه غرفة النوم الرئيسية و التي تحتوي حماماً كبيراً و حجرة داخلية صغيرة..

و غرفتين أخرتين تطلان على بعضهما تجمعهما صالة تفتح هي الأخرى على البهو و حمام يتوسطهما..

شرفة خارجية و غرفة غسيل و أخرى للتخزين يضمهما المطبخ الذي يفتح هو الآخر فيه..

الباب الثاني يؤدي للقسم الخاص بالضيوف.. فيه غرفتي استقبال و حمامين و شرفة كبيرة أخرى..

يغلب على الأثاث الطراز الحديث دونما تكلف.. و قد توسطت بهوه آية الكرسي..

قرأت عزة الآية كأنها تمتلىء بطهرها.. و جلست على أقرب أريكة لتريح نفسها..

جلس طارق عند قدميها و ترك لنفسه حرية أن يضع يديه على ركبتيها..

فابتسمت له بخجل و تخللت أصابعها خصلات شعره الأسود الموشى ببعض الشيب..

غمغم.. و الله أنت أجمل ما حدث لي في حياتي.. و قربت رأسه لتحتويه في حجرها و طبعت فوقه قبلة..

تنحنحت أمنية أمام الباب الذي نسيا أن يغلقاه ، فأعتدل طارق واقفاً .. بينما رفعت عزة رأسها ليواجه أمنية و رحبت بها أن تفضلي..

فقدمت لها سيدة خمسينية على أنها (نفيسة) التي سوف تكون مسؤولة من كل ما يتعلق بالشقة .. من نظافة و ترتيب و نظام.. كما أنها سوف تقوم بالطهي و الغسيل و الكي.. هنا اعترضت عزة أن الأمر لا يتطلب كل هذه المشقة..و وجهت كلامها لطارق..

لا أعتقد أني أحتاج كل هذا.. يكفي أن تحضر لي طعام الأسبوع و أنا كفيلة بباقي أعمال البيت..

كما أنني أنوي إغلاق هذا القسم و سأكفي بالجزء الآخر..

فرد عليها طارق: إن نفيسة من الثقات التي يعتمد عليها و أن هذا الترتيب هو الوحيد الذي سمح بموجبه السيد عبد القادر بمكوثك هنا..

امتعضت لذكر جدها.. و لكنها كتمت غيظها..

لاحظ طارق ذلك.. فطلب من أمنية و نفيسة بلطف أن تتفقدا الشقة و تحددا ما ينقصها من تموينات و احتياجات.. و يذهبا لجلبه من المتجر الذي يواجه البناية..

و أن يخبرا عثمان بأن يرفع الحقائب..

أتم عثمان مهمته و خرج بعدما عرض خدماته في أي لحظة احتاجت له عزة.. فشكرته و أنصرف..

تعلقت عينا طارق بها و هي تنتقل بين الغرف .. كأنه طفل يخاف على نفسه الضياع و هي أمانه..

شعرت بنظراته ، فباغتته مسائلة إياه.. ماذا هناك؟؟

تلعثم للحظة و قال: كيف لي أن أصرف نظري عنك و أنا الذي سلم قلبه طواعيةً لك من أول مرة وقعت عيناي عليكِ..

أنا الذي يعيش على أملٍ أنك ستتحدرين من عليائك يوماً و تجعلينني سيداً لقلبك..

إلتفتت للجهة الأخرى محاولة الهرب من كلماته.. لكنه أمسك بها و جذبها ناحيته و ضمها برفق إلى صدره لثواني..  و كادت أن تذوب فيه لو لا أن أبعدها عنه قليلاً و رفع بأصابعه وجهها .. و إلتقت عيونهما و فضحت ما حاولتْ جاهدة أن تخفيه عنه ..

و ضمته إليها .. فهمس تحججت بدراسة الجامعة .. ثم العمل لإثبات ذاتك و الآن لا عذر لكِ.. إلا لو أمسيتِ لا تحبينني أو أنني لا أزال ذلك الموظف لدى جدك!

تنهدت و قالت له: إن كل شيء بأوان..

أربعة أعوام و طارق في حياتها..

كرهته بداية حين حسبته أحد أذرع الشيخ عبد القادر التي تبقيها تحت قبضته..

لكنها مع الأيام اكتشفت أنه شخصية رائعة.. أسلوب عيشه و تعاطيه مع الحياة جعلتها تتعلق به.. ناهيك عن وسامته الآخاذة و أناقته..

ما برحت دروس قيادة السيارة الأسبوعية تعود لتفكيرها و تحمله لخوفها تارة و تغابيها تارة..

انتظر حتى سنتها النهائية في الجامعة و أخبرها بحبه لها و هو خلال العامين المنصرمين لم يتكبد عناء إخفاء مشاعره معها.. و إن تحفظ و جعلها على هيئة صداقة..

دق جرس الشقة ففتحه طارق .. و حمل بعض الأكياس عن نفيسة بعدما اعترضت هذه الأخيرة و أن الناس مقامات يا سيد طارق.. فضحك قائلاً: منذ زمن ليس ببعيد كنت أحمل أثقل منها لأمي.. فلا تهتمي و اعتبريني ابنك و كفاك حديثاً عن المقامات..

و بالمناسبة اسمي طارق عبد الرحمن و ليس السيد طارق..

أمعنت السيدة له بالدعوات و الحفظ و ببنت الحلال..

فنظر إلى عزة التي كانت تراقبه بجانب غرفة النوم الرئيسية.. اللهم آميين..

حسناً أنا ذاهب إلى المكتب فقد ضاع نصف اليوم..

أمنية يمكنك الذهاب مباشرة لمنزلك و خالة نفيسة عثمان سيوصلك بعد أن تنتهي لهذا اليوم و سوف يقوم بجلبك صباحاً..

و وجّه حديثه لأمنية ثانية: هل آخذك في طريقي أم تذهبين مع عثمان و الخالة نفيسة؟؟

أجابته عزة أنها تحتاج أمنية لتساعدها في إفراغ حقائبها و أنها ستوصلها في طريقها لرؤية أمها..

انصرف طارق متردداً.. كمن يترك روحه و يأخذ جسده بعيداً عنها.. ابتسمت عزة في وجهه و تبعته للخارج..

أمسكت بيده و ضغطت عليها .. فلثم أصابعها و همس..

أحبكِ.. جداً جداً..

أعلم .. همست هي الأخرى..

و نزل الدرج و هي تراقبه..

قامت نفيسة بترتيب الاغراض في البراد و المخزن و اشعلت بعض بخور( التيمان) في الشقة .. طرداً للشر من البيت يا عزيزتي.. هكذا أجابت استغراب عزة..

و بعد ما انتهت من ذلك  إستأذنت عزة في الذهاب .. فودعتها بعدما أعطتها نسخة عن مفتاح الشقة ..

أما أمنية فهي إنسانة تدلف الروح و القلب من أول وهلة.. تعمل معها في شركة عبد القادر لكنها تتبع لقسم طارق للموارد البشرية و هي في قسم الإدارة..

إلتقت بها في إحدى حفلات الشركة من بضعة شهور و جمع بينهما حديث ودود..

ساعدتها في التنظيم و أغلقت معها الجزء الآخر من البيت و أعادتا ترتيب الأثاث و طلبت عزة وجبة غداء تناولتاها و غادرتا الشقة.. أوصلت أمنية لبيتها و ذهبت هي لفيلا الرياض.. عادت عزة إلى شقتها في وقت متأخر .. و قد شغل بالها تدهور حالة أمها المفاجىء..

مكثت معاها قرابة الساعتين و جميع أفراد الأسرة حاضرون.. و الممرضة تتابع مع طبيبها تطور الحالة عبر الهاتف..

استقرت قليلاً في آخر نصف ساعة فأعطتها وجدان منوماً و طلبت من الجميع تركها لترتاح بما فيهم عزة..

فقد أحست أن وجودها يجعل مؤشرات أمها الحيوية تضطرب و يرتفع ضغط الدم..

امتثل أفراد العائلة للأمر و نزلوا للطابق الأرضي.. حيث اتصل محي الدين بطبيبها و سأله عن سبب تدهور حالة....

فأخبره أن هذا شيء متوقع للأسف.. و أن هذه العقاقير التي حقنتها وجدان في مضخة الدواء كفيلة أن تهدأ من وتيرة التدهور لحين وصوله من السفر.. و منذ آخر صورة مقطعية اتضح أن هناك كتلة متجلطة تتحرك في الدماغ و يصعب استئصالها.. و أنه يأمل ألا تؤثر على النظر و النطق و الوظائف الحيوية للمخ..

و أن الأمل بالله كبير..

*و نعم بالله.. شكراً يا دكتور..

أنهى محي الدين المكالمة و قلوب الحضور معلقة في وجهه. فأخبرهم برأي الطبيب و أن الأمر بيد الله..

أخفض بصره في ألم ثم ترك المجلس منصرفاً.. لحقت به عزة..

*بابا.. ألم يقترح الطبيب أن نعيدها لفحص جديد أو لعناية أكثر؟ مكوثها هنا لا يجعلني مطمئنة عليها..

**معزتي.. غرفة أمك مجهزة بأحدث الأجهزة و وجدان مؤهلة تماماً لتلافي أي خطر لا قدر الله.. و كما قال دكتور مصطفى. كله بيد الله و ليلطف بها و بنا.

حدثيني.. حتى متى ترفضين الإقامة معنا هنا؟؟

أتمنى أن أجد إجابة غير تلك التي تقولينها دائماً..

و هي أنك تودين أن تعيشي بحرية بعيداً عنا..

أنت ابنتي الوحيدة.. و عند هذه الكلمة رفعت عينيها إليه .. تود أن تتحداه قائلة أنها تعرف أنها ليست ابنته.. لم تكن ثمرة حبه لأمها.. و أنها ابنة غير شرعية .. تتمتع بكل ميزات البنت الوحيدة.. و وريثة واحدة من أعرق و أغنى عوائل الخرطوم..

و لكنها أشفقت عليه من كل ذلك..

هو لا يدرك علمها بالأمر..

و أنها سمعت حديثهم مع أمها و جدها عبد القادر.. في ذاك المساء المشؤوم..

كان طارق في زيارتهم ، و قد خرجت برفقته للحديقة حيث جلسا لشرب الشاي .. لكنه اضطر أن يستأذنها فقد جاءه هاتف بأمر يستدعي حضوره الشخصي المستعجل..

تذكر كيف ضمتها عيناه بكل حب الدنيا و هو يمسك بأصابعها في يده و يداعبها قائلاً : متى سوف تلبسين حروف اسمي هنا.. و ضغط عليها برفق.. متى سآخذك من يدك و أقدمك للجميع على أنك عزة محي الدين.. مدام طارق عبد الرحمن..

تذّكُرُ أن قلبها صمتّ.. أجل صمت لدقيقة كاملة.. و أن كل الكون من حولها توقف عن الحركة و التنفس و الدوران..

شعرت بأنها تحررت من الجاذبية و أن ما يبقيها على هذه الأرض.. يده التي تمسك بيدها..

كانت هذه المرة الأولى التي يخبرها طارق صراحة أنه يود أن يتقدم لخطبتها بشكل رسمي..

و أنها تبعته بنظرها حتى استقل سيارته و انطلق..

حملت نفسها بما تبقى لها من وعي و دخلت البهو ..

تخطو كفراشة .. لا يُسمع خطرها من وردة لأخرى.. استوقفتها نبرات صوت أمها تتحدث بمرارة عن : ليس ذنبها و أنت تعلم..

و إن كان شعور طارق نحوها بهذا الشكل فمن حقه أن يعرف الحقيقة..

طالما هو كما تصفه يا أبي.. فسوف يقبل بها و لن يؤثر ذلك في رغبته بها..

فهمت أن الحديث يدور عنها..

لكنها لم تفهم تماماً معناه..

أصاخت سمعها فتبينت صوت عبد القادر يرد عليها بحزم: ليس من حق مخلوق أن يعرف هذا السر..

عزة ابنتنا جميعاً من لحمنا و دمنا.. و أنا لا أرضى مطلقاً أن يوصمها أحد بهذا العار حتى أنتم.. هل تسمعون؟؟

جاء صوت وفاء مترجيّاً: محي الدين قل شيئاً.. هي تحمل اسمك و ليست من صلبك..

ألا تخاف من الله..

مادت الأرض بها و اختلطت الألوان و الأضواء أمام عينيها..

و سقطت.. و سقطت كل الأمنيات و الأحلام التي حفتها من الحديقة حتى وصلت هنا.

حيث كانت تنتظرها هذه المقصلة التي قصمت ظهرها..

*كيف وجدتِ الشقة؟؟

أعادها سؤال محي الدين للواقع..

نعم .. إنها جيدةاجابت في اقتضاب..

سأذهب الآن فقد تأخر الوقت..

احتضنها في محبة و راقب سيارتها تبتعد ..

أخذت تلك الذكرى تدور في رأسها حتى وصلت لشقتها.. تعالت نغمة رنين المنبه..

Bad at love Halsey..

معلنة تمام السادسة و النصف صباحاً..

فتحت نصف عينها و تحسست مكان الهاتف في المنضدة جوار سريرها.. لكنها لم تصل إليه..

اعتدلت و مدت يدها و إلتقطته و همت أن تغلقه ، لكنها تركته علّه يهز نعاسها و يُسَاقِط عنها كسلها..

أنارت الشاشة تطلب إذناً بالغفوة .. أو إيقاف التنبيه..

أوفقته و جلست على طرف سريرها..

تثاءبت كديسمٍ يهم سباتاً و كأنها نسيت أين نامت..

استغفرت ثم قامت تحملها خطوات خدرة نحو الحمام..

بعد قليل سمعت صوت مفتاح يتحرك داخل مزلاج باب الشقة..

صرير خفيف و أُغلق الباب..

استجمعت ما قد تناثر من شجاعتها و أخرجت رأسها من غرفة النوم لتجد ضوء الصالة مضاء و هناك حركة في المطبخ..

في تلك اللحظة تذكرت الخالة نفيسة.. و نادت عليها

*صباح الخير يا خالة نفيسة..

** صباح النور يا عزة أتمنى ألا أكون قد أيقظتك..

فأردفت أبداً.. لقد ٱستيقظت مبكراً..

*سأحضر الشاي ريثما تجهزين للخروج..

**حسناً.. سأذهب الآن..

جلست إلى الطاولة و شربت كوباً من شاي الحليب و تناولت معه قطع من ( اللقيمات) كانت نفيسة قد أحضرتها من منزلها..

ودعتها بعد أن أوصتها ألا تتعب نفسها في إعداد وجبة غداء دسمة.. يكفيها صنفان و معهما سلطة خضار و كوب عصير..

ركبت سيارتها و توجهت للمكتب..

في تلك الأثناء كانت نسرين تقوم بتصوير أوراق امتحانات في مكتبة الجامعة..

تكدست أمامها مجموعات من المجلدات و ملفات من أوراق المحاضرات.. دفعت مبلغ المال و حملت كل تلك الأكوام و أدخلتها في حقيبة ظهر كبيرة ينوء بحملها ظهر شاب..

تجمهر الطلاب أمام لوحة الإعلانات و أخذت صيحاتهم تملأ المكان.. فها هو جدول الإمتحان بتصدر اللوح و كذلك أسماء الطلاب و أرقام جلوسهم و قائمة المحرومين من الجلوس للإمتحان..

جلست على مقعد بعيد عن الزحام .. فجاء إليها وليد مبتسماً..

الآنسة نسرين.. هل سيأتي الجدول و رقم الجلوس بأقدامهما إليكِ؟

بادلته نظرة باردة و قد كانت لا تحب الحديث إليه ثم قالت: انتظر حتى يصدر الرعاء..

فرمقها بغيظ و ذهب..

ضحكت أمل و غدير من تصرفها مع وليد و بادرتها غدير.. يا لك من متعجرفة..

هذا الشاب تكاد فتيات الجامعة أن يسيل لعابهن بمجرد مروره بجانبهن.. و أنت تعاملينه بهذه الطريقة؟؟

فقالت أمل.. بل هي تلعب دور صعبة المنال..

و استمرت ضحكاتهما فما كان منها إلا أن تركتهم و حقيبتها الثقيلة تلك و ذهبت للوح الإعلانات..

وجدت أنها محرومة من دخول مادة التكاليف.. و هي أهم مادة في تخصصها.. بل و أصعب ملحق و أقسى قسم في تعامله مع الطلاب..

انهارت و أظلمت الدنيا في وجهها.. ماذا تفعل.. و ليس هناك عذر لها لتقدمه للجنة شوؤن الطلاب ..

لقد جاء وقت دفع ثمن الإستهتار و التغيب من دون عذر رسمي..

ماذا تفعل؟؟

جرجرت نفسها حيث تركت صديقتيها و أخبرتهما بمصيبتها..

خيم صمت مرير بينهم ثم غمغمت غدير بشيء لم تسمعه نسرين.. بينما قرصتها أمل في يدها حتى صدرت منها آهة مرتفعة..

بحلقت فيهما نسرين بحسرة..

أنا أفكر في حل لمشكلتي و أنتما تمازحان بعضكما؟؟

قالت أمل و هي تعبث بقلم بين يديها..

الحل بيد عزة.

**عزة من؟؟

هنا أدارت غدير ظهرها و همت بالمغادرة فأمسكتها أمل و جذبتها بقوة كادت أن تسقطها..

*غدير.. هذا مستقبل و تقدير تخرج.. يجب أن تدعي عنك هذه الأفكار الطفولية و تضعي مصلحة نسرين أولاً..

نسرين واصلت بحلقتها بعته..

**عزة محي الدين؟؟

ما علاقة عزة محي الدين بمشكلتي!!

هنا تدخلت غدير..

° ألم تكن هي سبباً في تلك المحاضرات الضائعة؟؟

أسبوع العزاء.. و الحضور المتأخر كل يوم و التالي للجامعة.. و المناسبات التي كنت تخرجين لأجلها باكراً من الجامعة ضاربة بكل تحذيراتي عرض الحائط؟؟

عارضتها أمل..

*أنا لا يهمني كل ما قلت يا غدير..

و ألتفتت إلىٰ نسرين التي خفضت نظرها للأرض بعد سماع محاضرة غدير و أدركت ما آلت إليه الأمور..

*يملك عبد القادر العبيد مقعداً في مجلس الجامعة الأكاديمي.. و يمكنه مساعدتك في تقديم استرحام للقسم..

و حسب ما علمت أن عزة قد عملت لفصل دراسي كامل في هيئة التدريس و نالت درجة الماجستير من جامعتنا..

** لم تتطرق عزة أبداً لهذا الأمر و لم تخبرني به..

من أين لك بكل هذه المعلومات..

*ألم تلاحظي كيف هي عزة؟؟

كتومة و متقوقعة على نفسها!! إبتلعت ريقها و واصلت..

هل تذكرين آخر زيارة لها للجامعة سمعت أستاذة آمال تتحسر على عدم مواصلتها للتدريس في الجامعة و أنها من الطالبات المجتهدات اللواتي أثبتن جدارتهن من غير التخفي وراء أسماء أسرهن العريقة أو مناصبهم الأكاديمية و الإدارية..

يجب أن تتصلي بعزة يا نسرين.. متأكدة أنها لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا المأزق الذي وجدت نفسك فيه..

قولي شيئاً يا غدير.. بنبرة مرتفعة خاطبت غدير؛

التي لم تفعل شيئاً غير التململ في جلستها..

تضاربت الأفكار في رأس نسرين .. هي لن تستطيع مطلقاً أن تتصل على عزة .. ناهيك عن الطلب منها أن تتوسط لها في الجامعة..

لا بد أن هناك حلاً آخراً..

و لحظها مرّ من أمامهم أستاذ أحمد مساعد التدريس فأستوقفته و بدأت تحاول صياغة مشكلتها بشكل لا يجعلها تستجديه حلاً.. عادت لمقعدها محبطة جداً.. فقد كان واضحاً بشأن هذا الحرمان، فمجلس الكلية الأكاديمي أقره بعد الإستهتار الذي قابل به الطلاب مرونة قوانين الجامعة..

و كادت أن تبكي..

*هيا يا نسرين للبيت و غداً لها رب يحلها من حيث لا ندري..

و فكري بجدية في طلب مساعدة عزة.. و إن لم تفعلي فسأضطر لأتصل بها أنا..

**لا داعي يا أمل.. سأرضى بما قسم لي الله و لن أتسول أحدهم المساعدة..

هل نسيت أنها لم تكلف نفسها عناء السؤال عني و لو مرة و لم تزرني في بيتكم و هي تعلم أين يقع!

لن أتصل بها حتى و لو قمت بإعادة السنة.. حسمت نسرين الجدال بتلك الجمل و صمت الجميع..

استقلت أمل و نسرين المواصلات في حين انتظرت غدير ترحيل الداخلية..

لم تستطع غدير أن تنزع نسرين و نظرتها التائهة من خاطرها و لا كلمات أمل التي تتهمها فيها بالأنانية..

فأمسكت بهاتفها السيار و ..

0912230...

جاءها الصوت من الجهة الآخرى..

ألو غدير.. هل حدث شيء لنسرين؟؟

احتارت غدير بماذا تجيب.. لكنها استجمعت نبرات صوتها و قالت: مرحبا عزة.. نعم إن الأمر يخص نسرين.. هي بخير نوعاً ما و لكننا نحتاج مساعدتك..

هل يمكننا أن نلتقي في مكان ما؟؟  مطعم مثلاً!

*أنتِ و نسرين؟؟

** لا أنا فقط.. هذا موضوع يطول شرحه..

حسناً.. سأمر عليك في الداخلية حوالي السادسة مساء اليوم.. هل هذا الوقت يناسبك؟؟

ردت غدير بحماس: أجل.. إذن حتى المساء.. في أمان الله..

في أمان الله و أغلقت عزة الهاتف و قد ٱنشغل بالها على نسرين..

هل حدث لها مكروه.. هل هناك مشكلة في بيت أمل؟

هل رفض أبوها مكوثها معهم!!.خطرت ألف هل في ذهنها و لم تجد إجابة شافية لواحدة منها..

السادسة ليست ببعيد..

و في تمام الرابعة لم تستطع عزة أن تصبر.. همت أن تتصل بنسرين.. لكن ماذا ستقول لها؟؟

ما هو مبررها كي تنقطع عنها بهذا الشكل؟

هل من المنطق أن تصغي للأحاديث التي تآكلتها و تتناسى لأجل الناس أعز صديقة حظيت بها أبداً..

هل كانت تحميها من الشائعات؟؟

من تحاول أن تقنع!

وجدت نفسها أمام الداخلية في تمام الرابعة و النصف..

أطفأت محرك السيارة و تسمرت مكانها و هي تنظر للداخلية التي فارقتها من أسبوعين و كأنها البارحة..

زفرت.. كل القلق و النزق اللذان جثما على صدرها و نزلت.. دفعت الباب و دلفت إلى داخل الداخلية ، حيث فوجئت بسنية تقف عن كرسيها و كأن تياراً سرى في جسدها و رحبت بها على غير العادة.. طلبت منها بتهذيب أن تنادي غدير..

و لكن المشرفة أصرت أن تذهب للغرفة بدلاً أن تنتظر في البهو.. فجهاز التبريد معطل..

شكرتها بإستغراب و صعدت الدرج حيث توقف قلبها أمام الغرفة التي تحمل الرقم 4 ..

حاولت أن تمد يدها لتمسك قبضة الباب و لكن كأن يدها فقدت التواصل مع أوامرها .. ضغطت على نفسها و أمسكت قبضة الباب فوجدتها باردة..

باردة كتلك القبضة التي عاناها قلبها و غدير تخبرها ان نسرين في مشكلة.. تصببت عرقاً من فكرة أن تكون نسرين مسجاة على سريرها بالداخل.. أو أن ..  لم تكن تريد أن تتلاعب بها الظنون أكثر من ذلك و طرقت الباب..

فتحت غدير الباب و وجدت عزة أمامها..

بادرتها غدير .. كنت أعلم أنك لن تستطيعي الصبر حتى السادسة.. تفضلي..

دخلت عزة الغرفة.. فاحتشدت الدموع أمامها كستار يحجب جمهور الذكريات عن ناظريها..

تفلتت منها دمعة حاولت مسحتها سريعاً لكن غدير لمحتها..

جلست في طرف الكرسي الذي اعتادت أن يضمها قديماً إن هي أرادت أن تطالع حركة المرور من شرفة الغرفة.. أو رغبت أن تحتسي كوب شاي..

و خيم صمت ثقيل.. شعرت فيه غدير بتململ عزة و رغبتها في معرفة ما الذي أصاب نسرين و جعلها تتصل عليها و تطلب منها ملاقاتها..

*أولاً شكراً لحضوركِ.. أعلم أنني لا أستحق مجرد ردك على إتصالي ناهيك عن الحضور.. فشكراً مرة أخرى..

زمّت عزة شفتيها.. كأنها تستعجلها لتترك هذه الترهات و تدخل في صلب الموضوع..

عزة.. نسرين حُرمت من الجلوس لإمتحان التكاليف في نهاية السنة.. و أنتِ تعلمين أثر ذلك عليها.. فقد حذرها العميد من هذا التخصص لصعوبته و لكنها أصرت بعنادها الذي تعلمين..

و قد تفوقت في الفصل الأول و الآن بعدما قرر المجلس الأكاديمي احتساب نسبة الغياب.. منعت من الإمتحان..

**هل طلبت منك نسرين أن تتصلي بي و تسأليني المساعدة..

نفت غدير ذلك جملة و تفصيلاً.. و أقرت لها أنها لم تستحسن الفكرة بالأصل لكن أمل هي السبب..

أمل هي من فتحت عيني على حقيقتي البشعة.. عزة أعمتني غيرتي من علاقتك مع نسرين.. تصوري أن يصادر أحدهم ظلك.. شعرت بالخواء و هي كل يوم تبتعد عني ألف سنة ضوئية و تقترب منك..

أعلم أنني تعاملت معك بلؤم و قسوة.. فقد حمّلتك لوم فقدان نسرين فرصتها هنا في الداخلية و قلت كلاماً لم يجدر بي التفوه به.. أنا آسفة حقاً.. كانت كلماتها تقطر ندماً و صدقاً.. حتى رقَّ لها قلب عزة فربتت على ظهرها و ضمتها إليها قائلة: إن من الطبيعي أن تشعري هكذا..

فقد توطدت علاقتنا سريعاً مع أنها كانت تضمك و أمل معاً..

إلا أنه منذ وفاة جدتي صارت نسرين أقرب إلي.. و أصدقك القول أنا لم أحظَ مطلقاً بصديقة مقربة..

سوف نقوم بحل إشكال نسرين و لن أتدخل مباشرة حتى لا تشعر أنها تدين لي بشيء..

غداً بإذن الله سأتحدث مع أحد أعضاء المجلس و أرى ماذا سيقول و سأجعل طبيب العائلة يستخرج لها شهادة مرضية ربما نحتاجها لنُدَعِّم موقفها..

و الآن.. هيا بنا.

إلى أين؟ سألتها غدير..

**لقد كان يفترض أن نتقابل في مطعم و أنا جئت باكراً..

لذا أنا أدعوك للغداء.. و لا سبيل للرفض..

أكملي تجهيز نفسك و سآخذ لك إذناً من سنية و أنتظرك في السيارة خارجاً..

ابتسمت غدير موافقة..

و أسندت ظهرها للباب بعد انصراف عزة..

و حدثت نفسها.. من أي طينة أنت مخلوقة يا عزة..

و بدأت تستعد..

في تلك الأثناء أشعلت عزة محرك سيارتها بعدما أستأذنت لغدير..

و بدأ هاتفها يعلو بالنغمة الحبيبة ..

ألو.. سيدة أيامي..

ضحكت و ردت و عليكم الألو و رحمة الله و بركاته..

**هل تعلم أنك الآن في هذه اللحظة تحديداً كنت في بالي..

أريد منك خدمة العمر يا طارق..

رغباتك هدايا حبيبتي..

لكن أين أنت؟؟

الخالة نفيسة تريد الذهاب لبيتها و قد تأخرتِ عليها رغم أنك خرجت باكراً من المكتب!

**لقد نسيت الخالة نفيسة تماماً.. أرجوك دع عثمان يوصلها و ليمنحها خمسين جنيهاً و سوف أعطيه إياها عند حضوري للشقة..

*حسناً.. سوف أتصل عليها الآن.. و لكنك ستخبرينني ما الذي طرأ عليك اليوم..

** لم تنسَ أنني طلبت منك معروفاً؟؟

أليس كذلك؟

كيف أنسى و دمي يجري في عروقي مذكراً إيايّ بكِ..

**ما رأيك إذن لو دعوتك لغداء متأخر ؟؟

لك ذلك.. و لحسن حظك لم أتناول الغداء بعد..

**نلتقي هناك.. هل يناسبك ذلك؟In & Out

سأحضر بالتأكيد..

إلى اللقاء.. وداعاً..

فتحت غدير باب السيارة و انطلقتا .. وصلتا للمطعم و أختارتا الطاولة المقابلة للواجهة الزجاجية..

طلبت عزة عصيراً ريثما يصل طارق ، الذي لم يستغرق طويلاً ليحضر..

عرفته على غدير و لكنها لم تجد صفة تدعوه بها غير أستاذ طارق عبد الرحمن .. مدير الموارد البشرية في شركة المباني العقارية حيث أعمل..

رمقها بنظرة مستنكرة.. و قبض على يدها و خاطب غدير..

*نحن أكثر من ذلك و لكنها ترفض الإعتراف..

هي مدام طارق عبد الرحمن.. بعد عمرٍ طويل يبدو.. و أفلت يدها في حركة مسرحية مستفزة..

تشبثت يدها بكفه.. كأنها تعتذر عن تصرفها..

و وجهت حديثها لغدير التي أخذت تنقل بصرها بينهما..

يتصرفان بشكل طفولي لا يناسبهما بتاتاً..

كأنهما ثنائي فالس يرقصان لأول مرة معاً و أحدهما نشاز.. لا يفهم الإيقاع..

**طارق.. طارق.. حسناً..

طارق حبيبي و لم نتخذ خطوة جادة بعد نسبة لظروف عائلية..

أفتر ثغره عن أجمل ابتسامة يمكن للعين البشرية أن تراها..

ترسم لحيته الخفيفة مشهد رمال تعاقبت عليها موجات البحر.. و تظهر ثناياه كحبات لؤلؤ لفظها في لحظة حبور..

دار كل ذلك في ذهن غدير و هي تهيم فيه..

ضربتها عزة برجلها تحت الطاولة.. تنبهت و اعتدلت في مقعدها..

***يستحسن أن تطلبوا الطعام.. زمني يكاد ينتهي و لن أجد ما آكله لو عدت للداخلية بجوعي هذا..

ضحكوا جميعاً..

قدمت لهم نادلة سمراء مجدولة الشعر قوائم الطعام و اتبعته بطبق من الخبز الشهي .. توالت أطباق الطعام.. بطاطا مقلية .. أصابع جبنة الموزاريلا المقرمشة..

اسكالوب بانيه.. و أخذوا يتندرون على أسماء الأطباق و يتبادلون الضحكات..

** تنقصنا نسرين.. قالتها بمرارة عزة..

تنحنح طارق.. فهو يعلم أن علاقتهما توترت جداٌ مؤخراً و أن عزة قد حكت له عنها و أنها تعتبرها كأختها الصغرى التي لم تحظ بها..

*ما هي الخدمة التي تريدينها مني يا مدام..

ممازحاً و محاولاً كسر الجليد الذي ٱكتسته اللحظة..

**الموضوع يتعلق بنسرين..

علت وجهه علامات تعجب ، فتولت غدير الحديث..

*** نسرين في سنتها النهائية و قد حُرمت من الجلوس لإمتحانات المادة الأساسية في تخصصها..

و قد قصدت عزة لحل هذه المشكلة و وعدتني أنها ستحدث أحد أعضاءالمجلس الأكاديمي..

و أنا أحد أولئك الأعضاء.. و إلتفت لعزة التي هزّت كتفيها بيأس..

** تعلم أنني لن أستطيع طلب ذلك من جدي عبد القادر فهو رئيس مجلس أمناء الجامعة.. و أنت أقرب منقذ لي.. أرجوك افعل ما بوسعك لمساعدتها..

حتى لو كان معنى ذلك أن أطلب من جدك خدمة.. و أنت تعلمين أنني لا أحب ذلك؟؟

شبكت أصابعها أمامها في الطاولة.. و أجابت نعم..

لم تملك غدير غير الصمت في هذه المساجلة..

تفث الهواء من بين شفتيه بعد أن مطاهما و أخرج هاتفه و أجرى مكالمة هاتفية لم تتبين الفتيات محتواها لأنه قام عن الطاولة و اتجه لمظلة المطعم الخارجية..

ٱشرئبت أعناقهما تحاولان قراءة وجهه أو حركة جسده..

و بعد قليل جلس.. و وجهه تعلوه نظرة جادة..

*كنت أتحدث مع سيد أحمد و قد شرحت له أنها كانت مريضة و أنها لم تستطع الذهاب لعيادات الجامعة نسبة لأنها تقيم مع صديقتها التي أصر والداها على علاجها ..

قَبِلَ استثنائها من الحرمان بشرط أن تجلب عذراً مرضياً بعشرة أيام على أقل تقدير موثقاً من طبيبها المعالج و نسخة عن وصفتها العلاجية..

أعتقد أن عيادة دكتور مصطفى ستفي بالغرض.. سوف أطلب من وجدان إنجاز ذلك.. و لكني بحاجة لإسمها الثنائي و تاريخ تغيبها..

** نسرين حسين.. و يمكنك احتساب أسبوع وفاة جدتي زهور و باقي الأيام نستخرج لها إجازة مرضية أخرى..

هي تعاني الأزما ، من السهل الإنتكاس بعد أخذ العلاجات..

*** لا أعرف كيف أشكركما..

لقد أرحتما قلبي و ألقيتما عن كاهلي حملاً ثقيلاً..

لكن تكمن المشكلة في كيفية اقناع نسرين بقبول هذه المساعدة منك عزة..

في آخر نقاش لنا آثرت إعادة السنة على أن تطلب منك التدخل لحل هذا الأمر..

لا يبدو أن هناك مشكلة يا غدير.. مهما يكن هن صديقات و الصديق عند الضيق..

و هي لم تفعل شيئاً.. أنا الذي توليت الحل و حتى التقارير الطبية سأحضرها أنا..

و إن حسبتِ أنها سترفض يمكنك اختراع أي وسيلة تقنعينها بها..

هيا.. لقد مرّ الوقت سريعاً لا نريد أن تفترسك مشرفتكم تلك يا غدير.. و سانحة جميلة جمعتنا.. آمل أن نلتقي أخرى.

ودعها طارق بهذه الكلمات و أستقل كلٌ سيارته..

وصلت غدير للداخلية في وقت قصير.. و من خلال نافذة السيارة شكرت عزة على الدعوة و الطعام اللذيذ و الصحبة الممتعة..

ودعتها على وعد أن تخبرها بما ستؤول له الأمور مع نسرين..

استلقت غدير على السرير و هي تفكر كيف ستقنع نسرين ..

داهمها النعاس و نامت..

 * أتمنى أن أعلم من أي صوان خُلِق هذا الرأس!!

لم أصادف أحداً بكل هذا العناد..

نسرين.. هذا حصاد سنين عمرك كلها.. كيف تلقين بتعبك بهذا الشكل.. و فقط من أجل أن عزة حاولت أن تساعدك..

بغضب خاطبتها غدير بعدما رفضت أن يكون لعزة دخل في حل موضوعها..

**أخبرتك أنني لا أود أن يكون لعزة وجود مرة أخرى في حياتي..

يكفي ما مررت به..

هذا بالضبط ما كانت تخافه.. هي لم تفعل شيئاً فقط طارق هو من تولى حل الإشكال..

طارق.. و من أين يعرفني طارق ليسديني خدمة؟؟

غدير.. أرجوك.

سأجد حلاً..

*** غدير اتركيها سأحاول أن أجد منفذاً مع ممثل الطلاب..

أمل لا تخدعي نفسك بأمنيات زائفة.. ليس هناك طريقة لتلافي الحرمان إلا من خلال تلك المكالمة و تلك التقارير الطبية..

تركت نسرين ظل الشجرة التي وقفن تحتها يتجاذبن حديثهن و كل خطوة تبتعد فيها عن صديقتيها أرادت أن تبتعد عن عزة..

لماذا تطاردها كشبحٍ متراءٍ.. اعتاد أن يكون حضوراً في كل ما يخصها..

ألم يكفها أنها جعلتها تتخبط أياماً في احاسيسها.. لم تعرف تقلباً في مزاجها و لا اعترتها كآبة كتلك التي اختبرتها و هي بصحبتها..

لم تستطع قدماها مواصلة الهروب.. و عندما توقفت ..

غزاها ذلك العطر الذي تحفظ أكثر من حروف اسمها..

و خارت قوى كبريائها و تحطم تمثال العناد الذي استنصرت به..

نسرين.. و بتردد أمسكت عزة كتفها لتجعلها تلتفت ناحيتها..

و إلتقت عيونهما..

لم تتبين أي منهما ملامح الأخرى.. إنما استطاع ذاك الشوق أن يشكل ملامح جديدة و يرسم تفاصيلاً أعجز عن كتابتها ها هنا..

تشبثت نسرين بعزة .. كأنها حلمٌ تخاف أن تسرقه منها إستفاقة.. كزفرة تحبسها.. لو أفلتت منها لكانت آخر أنفاسها مع الأحياء..

أبعدتها عزة قليلاً عنها و تأملتها..

نسرين..

دفنت نسرين وجهها في صدر عزة و أجهشت بالبكاء..

كان المارة من الطلاب يرمقونهما بتعجب و استغراب..

من خلال تهدج صوتها .. نطقت نسرين اسمها.. و لم تتبين عزة باقي كلماتها..

ضمتها لتخفف من ارتعاشتها..

**يااااه لو تعلمين كم اشتقت لهذا العطر..

ضحكت عزة من خلال دموعها..

*فقط اشتقتِ لعطري.. سأهديك قارورة منه..

** عزة..

*اممممم..

** لا أريد أن أبتعد عنك.. أشعر أن قلبي سيتوقف.. أخاف لو تركتك أن تختفي.. و أني أهلوس و أنك لست حقيقية.. و اختلطت ضحكاتها بشهقات بكاء..

*دعينا ندخل لملاقاة دكتور سيد أحمد.. أعتقد أننا أعطينا الجامعة مادة دسمة يستطيعون منها صناعة مسلسل لا متناهٍ من الأحاديث المتناقلة..

طرقت الباب برفق.. فقابلتها رجاء مساعدة رئيس القسم و دار بينهما حديث مقتضب سمحت بعده بدخولهما إليه في غرفة الإجتماعات..

أبرزت له المظروف البني الكبير الذي يحتوي التقارير التي طلبها و توصية مكتوبة من طارق..

وضعه فوق كومة من الأوراق على مكتبه بعدما اتطلع على محتواها و طلب من رجاء إدراج صورة عن كل ورقة في سجل الإستثناءات و شطب اسم نسرين عن قائمة المحرومين من الجلوس للإمتحان..

هذا كل شيء.. تحياتي لأستاذ طارق و لبروفيسر عبد القادر..

قالها الدكتور بنفاذ صبر.. و هو يطلب منهم المغادرة ضمنياً..

رأيتِ.. هذا كل ما في الأمر..

لم يكن هناك من داعٍ لكل تلك الدراما من قِبَلِكِ.. خاطبتها عزة

**عزة.. و استوقفتها..

*ليس هنا.. هل لديك مانع لو أخذتك لمكان ما؟؟

هزت رأسها نافية.. و لكنها أردفت: يجب أن أخبر أمل و غدير ..

تحدثت إليهما.. و إلا كيف كنت سأجدك وسط تلك الفوضى من الأشخاص؟؟

هيا بنا.. هل سبق أن رأيتم لهفة طفل يتعلق في ذراع أمه التي مكثت في غيبوبة لأعوام و عادت إليه؟؟

هل ٱختبرتم فرحة أوبة مغترب أمضى نص عمره في السفر و هو يملأ رئتيه من هواء وطنه؟؟

هل سجدتم لله شكراً في صحن بيته بعدما أنعم عليكم بالنظر إلى سواد أستار بيته العتيق.. فشعّ ضوء أبيض في دواخلكم؟؟

إن لم تفعلوا أحد هذه الأشياء فأنا عاجزة حقاً أن أصف ما أحسته الصديقتان بصحبة بعضهما..

لم يسعفهما الزمن الذي أمضيتاه تحكيان لبعضهما ما بعثرته تلك الأسابيع الفراق منهما..

لم يوفتا تفصيلاً صغيراً من تلقاء سردهما ، و إن تفلّت شيء استدركتاه.. كأنما تودان أن تختزلا الزمن في خارطة محددة و تؤطراه..

كادت السماء أن تلتهم الشمس مغيباً .. و ألبس الشفق الدنيا ثوباً قرمزيّاً أنيقاً..

ركنت عزة سيارتها بجانب باب منزل أمل..

تسرب الوقت من بين أيادينا و نحن بعد لم نكمل نصف ما يفترض بنا الحديث عنه..

سأنتظر بفارغ الصبر أن تنتهي هذه الإمتحانات..

**ما رأيك لو جئنا مع الفتيات و أقمنا معك.. فترة معسكر مغلق للمذاكرة و الإستعداد للإمتحان؟؟

هذه فكرة لامعة.. لماذا لم تخطر ببالي..

حسناً .. انزلي.. و أطفأت محرك السيارة..

رحبت أسرة أمل بعزة و أصروا على تقديم واجب الضيافة.. و الذي رحبت به و استمتعت به جداً لا سيما مع ثرثرتهم المحببة..

و عندما همت بالرحيل..

أخبرت سعادة العميد أنها تقيم معسكراً للفتيات من أجل التحصيل و أنه بعد إذنه ستأتي لإصطحابهم غداً و أنه مرحب بزيارتهم لهن متى ما شاؤوا..

وافق العم الطيب على شرط أن تذهب معهم والدة أمل حنان لتطمئن على الوضع..

لم يكن هناك ما يمنع.. و بالفعل في اليوم التالي كان عثمان يصحب غدير من الداخلية لشقة المنشية بينما أتت هي إلى بيت أمل حيث وجدتهم مستعدين للمغادرة..

كانت الخالة نفيسة قد أعدت مائدة شهية بإنتظارهم.. و رتبت غرفة الضيوف و جهزت عدة أطباق للعشاء و تركتها في منضدة المطبخ و غطتها بعناية..

لم تستطع الفتيات إقناعها بتناول الغداء معهن ، إلا أن حنان استطاعت بسحر كلماتها أن تجلسها على رأس المائدة..

و عندما احتجت الفتيات لنجاحها.. قالت مداعبة إياهن أن تستطيع أن تلعب برأس عميد أركان حرب ، ناهيك عن سيدة مثلها..

كانت أمسية جميلة أمضتها الفتيات مع بعضهن و حان وقت النوم..

هنا تحدثت إليهن عزة أن ذاك كان يوما مفتوحاً و من الغد سيكون الوضع مختلفاً..

لن يكون هناك غير أكوام الورق و الدفاتر..

ألو.. مرحبا عثمان.. حسناً .. شكراً جزيلاً و آسفة لجعلك تعمل خارج دوامك..

أدام الله فضله عليك.. في أمان الله..

أمل.. وصلت أمك قبل قليل لمنزلها بسلام الحمد لله.. كان هذا السائق يطمئني عليها..

تصبحن على خير.. و أظلمت الشقة..

الصلاة خير من النوم.. الصلاة خير من النوم..

الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله..

تثاءبت غدير و هي تسحب الغطاء محاولة أن تستبقي النوم بين جفونها ما استطاعت لذلك سبيلاً..

لكن هيهات فحركة أمل و نسرين جعلتها تنتفض فيهما..

*هدوووووء.. هدوووووء.. ما يزال الظلام يخيم على الدنيا..

** الصلاة يا غدير.. و يمكنك استغلال هذا الهدوء الذي تطلبينه للمذاكرة..

نفضت عنها الغطاء نزولاً عند إلحاح الفتيات .. و احتجت: دعوني أبقى أطول فترة داخل هذا الفراش الوثير..

سأقول لكما أمراً.. سأذاكر فيه..

و سأترك لكما تلك الكراسي الصلبة..

**يمكنك أخذه معكِ لو احرزت علامات جيدة في الإمتحانات.. عقبت عزة ضاحكة..

فقد حضرت لتتأكد من إستيقاظهن..

اكتفت غدير برسم ابتسامة بلهاء على وجهها من الإحراج..

حضرت الخالة نفيسة باكراً و كعادتها جلبت معها شيئاً لشرب شاي الصباح..

فرغ الجميع من تناول الشاي .. و توجهت كل واحدة منهن لغرفة و كان نصيب نسرين بالطبع غرفة عزة..

**سأعود باكراً اليوم بإذن الله.. أرجو أن تتعاملوا و كأن الشقة غرفتنا البائسة تلك.. و لا تردد واحدة منكن أن تطلب أي شيء إطلاقاً..

أوصيت الخالة نفيسة أن تحضر فطوراً دسماً لكُنّ .. و قد لاحظت أننا نسينا العشاء في النضد ليلة أمس.. عليه استعدوا للتعويض..

في أمان الله.. أريد أن أخرج قبل الإزدحام..

قاربت الوقت الساعة الثانية ظهراً حيث رنّ هاتف نفيسة..

و أغلقته و توجهت للبهو حيث تأخذ الفتيات فترة راحة..

كانت هذه عزة و هي تعتذر عن الحضور باكراً.. قالت أن لديها سلسلة إجتماعات لا تدري متى ستنتهي.. و أنه يمكنني إعداد الغداء لكنّ و هي سوف تتغدى في المكتب..

أصاب نسرين إحباط مفاجئ.. فقد أمِلت أن تستغل فترة العصر في الدردشة معها .. تعدت الساعة الثامنة مساء..

غادرت نفيسة الشقة بعد أن جهزت طعام العشاء و أوصت الفتيات ألا تجده في مكانه صباحاً..

لقد أنجزن شوطاً جيداً في المذاكرة و جلسن أمام شاشة التلفاز ..

فتحت عزة الباب ببطء و دفعته بقدمها.. فأحدث صريراً خفيفاً ..

تلقتها الفتيات بإبتسامة و قمن لمساعدتها فيما تحمله بين يديها..

*أحضرت لكنّ قالب حلوى و أتمنى أنكنّ تستحيقنه!

كيف كانت المذاكرة اليوم؟؟

أجبنها بحماس أنهن قطعن فيها شوطاً كبيراً..

تركتهن يحضرن أدوات المائدة و الصحون ..

تولت أمل الشاي و قامت معها نسرين.. بينما  كانت غدير تخرج الأشياء من الأكياس..

دخلت عزة لغرفتها.. و ريثما أُعِدتْ الطاولة كانت قد فرغت من الإستحمام و بدلت ملابسها و جلست بينهن..

**يا خوفي من الخالة نفيسة غمغمت أمل..

انتبهت أنهنّ يحملقن فيها فتابعت: بعد هذه الحفلة أين سنجد مكاناً للعشاء الذي ينظر  إلينا من المطبخ!!

ضحكوا حتى أراقت نسرين الشاي الحار على نفسها فأسرعت عزة و ساعدتها بسكب كوب ماء بارد على رجلها التي ٱحمرت مباشرة..

*تعالي معي لغرفتي.. لدي مرهم مضاد للحريق..

سندتها غدير و أدخلتها الغرفة و تركت أمل هناك تنظف السائل المسكوب على الأرضية..

وضعت عزة بعض المرهم في كف نسرين و طلبت منها أن تمررها على مكان الحرق..

*بسيطة.. لا تقلقن يا فتيات..

أخرجت نسرين كلماتها هذه من بين أسنانها.. محاولة أن تخفي ألمها من الجميع..

لكن أمل قالت أنه من الأفضل أن يذهبوا للمركز الطبي القريب أو على أقل إفتراض أن يذهبوا للصيدلية في ناصية البناية..

رفضت نسرين ذلك.. فقالت عزة: الليل في أوله و لو احتجنا لأي شيء لا قدر الله السيارة متوقفة في الأسفل..

الآن سترفعين رجلك على هذا المسند و سنقوم بتجفيف مكان الحرق من الرطوبة و نزيد من كثافة المرهم..

ارتاحي الآن و سنحضر لك صحنك هنا و سنكمل ليلتنا إلى جوارك..

**شكراً .. لكني أفضل كوب عصير بارد على قدح الشاي..

و تشاركن الضحك عليها و أخذن يغظنها بأنها نهمة و لا تستطيع مقاومة الحلوى..

و أنها قليلة الإنتباه و متعجلة دائماً..

بعد ذلك تعاونت أمل و غدير في غسل الآنية و تنظيف البهو و ذهبن لغرفتهن بعدما تمنين ليلة سعيدة لنسرين التي آثرت عزة أن تبيت معها في غرفتها..

هل رأيت كم كنت مخطئة في نظرتك لعزة يا غدير؟

عاتبت أمل غدير..

*تعاملنا على أننا أخواتها و يكفي أنها تسخر كل ما بيدها لتجعلنا نشعر بالراحة..

هل تعلمين أننا لو لم نحرز درجات مشرفة بعد هذه الدعة و الرفاهية التي ننعم بها الآن سنكون مجرد عقول فارغة و غبية..

** معك كل الحق فيما تقولين..

أجل كنت أظلمها و أراها بزاوية ضيقة و غير منصفة..

أطفأت الأضواء الرئيسية و خفتت إضاءة الغرفة.. و بدأت أنوار السيارات ترسم لوحات على الستارة .. تطول ظلالها و تقصر.. تشكل أطيافاً ترتمي بين الأثاث و الأرضية الرخامية..

فتحت عزة الباب و عدلت أغطية أمل و غدير و أغلقت الباب خلفها بهدوء.

فتحت باب الشرفة الزجاجي الذي يطل على الحديقة الصغيرة أمام البناية..

داعب وجهها نسيم عليل.. و ملأ مسامعها ضجيج الشارع و أصوات المارة و السيارات..

اهتز هاتفها.. رفعته بضجر..

كان جدها عبد القادر..

ألو ..

**ألو عزة.. هل أيقظتك؟؟

لا.. لم أنم بعد..

**هذا جيد.. أود فقط أن أعرف لماذا اختلفت مع طارق في خطته للعام الجديد..

لقد عرضها عليّ و على محي الدين و قد وجدناها مفيدة للمدى البعيد للشركة..

*لكنها ذات أثر سيء على العمال و الموظفين على حد سواء..

خطته للتأمين الطبي غير مجدية و ينتفع بها الموظفين ذوي الرواتب العالية بينما الفئات الأقل فتتضرر بشكل مباشر..

و قد قدمت خطة بديلة.. سأشرحها لك في اجتماع الغد.. هذا إذا جئت طبعاً..

**هذا ما يعجبني فيك..

حماسك و بصيرتك الإدارية النافذة.. أنت ابنتي حقاً..

أظلمت الدنيا في عينها للحظات..

و تمنت لو أمكنها أن تصيح بأعلى صوتها و تقول له أعلم.. أنا أعلم أنني ابنتك.. أني نتيجة تعديك على ابنتك و اغتصابك لها..

**تأخر الوقت.. غداً بإذن الله حضري نفسك لإجتماع موسع و ربما سيشمل كافة رؤساء إدارة المجموعة..

تصبحين على خير..

و قبل أن أنسى يوم الجمعة القادم أحضري صديقاتك للفيلا.. فقد حضرت لإقامة مأدبة لهن..

وداعاً..

وداعاً..

كيف ينقلها هذا الرجل من قمة الكراهية و الإشمئزاز إلى أن تركن لطيبة تستشفها من أصداء القسوة التي تظهرها ملامحه..

و لاحظت أنه هذه الأيام قد لان جانبه قليلاً..

فقد اتصل عليهم في الإجتماع معتذراً عن حضوره و عبر السماعة الخارجية أوصاهم أن يستمتعوا بالإجتماع و يستغلوا غيابه.. مما دفع بالرؤوس أن تتلفت استغراباً..

هل هذا هو الشيخ عبد القادر أم تلبسته روح أخرى..

و لم يستطع أحد أن يسترد تتابع أنفاسه إلا بعد أن أطلق طارق ضحكة مدوية.. ثم شاركه الباقون..

لن توصينا يا سيدي و واصل الحضور الضحك بتوتر.. كأنهم يظنون أنهم في برنامج كاميرا خفية و أن سيظهر فجأة و يخصم من معاشهم عدد الدقائق التي ضحكوا فيها..

تنهدت في ضيق..

رغم ثنائه على أدائها و تقديره لموهبتها فهو ينكأ جرحها و يذكرها بعدم شرعيتها و ينسبها إليه جهراً..

ركلت الطاولة الصغيرة التي كانت تجثم أمامها.. فأجفلها صوت نسرين..

*ما ذنبها.. و انحنت لتعيدها لمكانها ، إلا أن عزة سبقتها..

**ما الذي أيقظك أنت؟؟ هل تؤلمك رجلك؟؟ هل تورمت؟؟

*لحظة .. لحــظة.. دعيني أستوعب دفق هذه الأسئلة لأجيبك..

أمسكت يدها بحنو و أجلستها برفق على الأريكة بجانبها..

أنا على ما يرام.. إنما وجدتك لست بجانبي فجئت بحثاً عنك..

**لقد عرجت على غدير و أمل في غرفتهن.. و جئت هنا لأريح رأسي من التفكير..

كانت اجتماعات اليوم مرهقة بشكل مؤلم و كذلك...

*ماذا هناك.. تكلمي..

**تشاجرت مع طارق اليوم و نعته بأنه ذو عقلية متحيزة لرؤوس المال و أنه نسي أن الشركة تقوم على العمال و الموظفين البسيطين..

هل تتخيلين أنه اقترح أن يؤمن على العمالة بأقل فئات التأمين البرونزية .

و على المدراء و الموظفين ذوي الرتب العالية بالفئات الماسية؟

أغاظني بحيث جعلني أقول له أن ذوي الرواتب الضخمة هم من يجب علينا سحب التأمين عنهم و ترك فرص العلاج للأقل دخلاً.. بل و أقترحت أن تتوالى مجموعة الشركات مهمة دفع أقساط أبناء العمال الجامعية..

تصوري أن جدي لديه حوالي خمسين مقعد مجاني في خمس جامعات خاصة ناهيك عن علاقاته بمدراء الجامعات الحكومية.. أليس الأجدر أن يصب الإهتمام بأولئك الأقل حظاً..

و أبدت قهرها بزفرة..

و بماذا عقب طارق على خطتك..

**رد عليّ بإمتعاض قائلاً : أنني صاحبة الشركة و يحق لي أن أتصرف كيف أشاء.. و غادر الإجتماع وسط دهشة الجميع..

و اتصلت عليه حوالي عشرة مرات و لم يرد على واحد من اتصالاتي.. كما أنني أرسلت إليه رسائل في الواتساب و قد استلمها و لم يكلف نفسه عناء الرد علي..

لا عليك.. سيأتي الغد بفرج من عند ربه..

و لا أعتقد أن طارق سيخلط الأوراق و لن يفصل بين أشيائه..

لقد حكت لنا غدير عن لقائها به.. و أنه كان يظهر عليه أنه متيم بكِ .. مدام طارق عبد الرحمن..

تبسمت عزة في جزل و أقامت نسرين و جعلتها تستند عليها و أخذتها للغرفة حيث رفعت لها رجلها على المسند و غطتها بشرشف قطني خفيف ثم بغطاء سميك..

أشعلت الأضواء الخفية في السقف و قامت بإطفاء إنارة الغرفة..

تصبحين على خير.. و طبعت قبلة على جبين نسرين.. و أنت خير كل هذه الدنيا يا عزة.. ردت عليها

و استسلمتا للنوم.. فتحت نسرين عينيها رويداً رويداً و كأن ثقل العالم أعتلاهما.. شعرت ببلل على جبينها.. رفعت يدها في وهن فوجدت منشفة صغيرة .. و ما كادت تزيلها حتى دخلت عليها الخالة نفيسة..

صباح الخير.. كيف تشعرين الآن؟؟

**صباح النور.. لا أدري .. أشعر بتعب و عيناي تؤلمانني.. و أشعر بالبرد الشديد.. و أرادت نسرين أن تتحرك لكنها صرخت متألمة..

نظرت إلى رجلها فوجدتها محمرة بشدة..

و مع صرختها تلك دفعت أمل الباب و دخلت مسرعة..

***هل استيقظتْ؟؟

*نعم .. منذ قليل.. هل أستدعي عثمان؟؟

**أخبروني.. ما الذي يحدث لي؟؟

***بعد خروج عزة و غدير صباحاً سمعتك الخالة نفيسة تصدرين أصواتاً غريبة و كأنك تهذين .. فتحت الباب و وجدتك مصابة بالحمى..

فصنعت لك هذه الكمادات الباردة على أمل أن تنخفض درجة حرارتك.. و بالفعل انخفضت و عدت للنوم مرة أخرى..

و قد كنت أحرسك..

*لقد أردت أن أتصل على عزة يا ابنتي ، لكن أمل منعتني..

*** خالة نفيسة.. عزة لديها إجتماعات مهمة اليوم.. ألم تسمعيها صباحاً..

أومأت المرأة برأسها موافقة..

***عوضاً عن ذلك سنأخذك للمشفى مع عثمان.. يبدو أن إلتهاباً أصاب قدمك..

هيا.. سأساعدك لتتجهزي..

أوقف عثمان السيارة أمام المركز الطبي و هرع لجلب كرسي متحرك بينما ساعدت أمل نسرين بالجلوس عليه..

دفعها عثمان للداخل و لم تمر دقائق حتى أتى ممرض شاب و صحبها لغرفة العمليات الصغيرة حيث ينتظرها طبيب طوارىء و طاقم من ممرضتين أخرتين..

بلطف منع الطبيب الجميع من الدخول.. بعد أن طمأنهم عليها

و طلب منهم الجلوس في الإستراحة و أن أحداً ما سوف يخبرهم بالمستجدات..

ذرعت أمل الممر ذهاباً و إياباً و عثمان يراقبها في قلق مماثل..

انقضى الوقت ببطء قاتل..

و برغم إزدحام المركز و الحركة المضطردة داخله أحست أمل أنها وحيدة.. و أنها تقف بين هذه الجدران بمفردها.. إلى أن لاحظت أن هناك رجلاً يتحدث إلى عثمان.. الذي تظهر عليه علامات الإضطراب..

خافت أن يكون حدث لنسرين شيء فهرولت مسرعة حتى كادت أن تسقط لو أن ذراع ذلك الرجل ثبتتها في اللحظة الأخيرة..

عرفه عثمان عليها ..

*هذه أمل الطيب أستاذ طارق..

**آهاااا.. أنت طارق..

غضن جبينه و انفرجت شفتاه مبتسماً..

***نعم أنا طارق.. هل تتحدثن عني كثيراً..

في تلك اللحظة تمنت لو أنها تملك عباءة الإخفاء..

كتم عثمان ضحكته أمام الإحراج الذي شعرت به أمل و ظهر على ملامح وجهها..

مد طارق يده لها مصافحاً و بعد جهد واتتها القدرة أن ترفع يدها إليه..

في تلك الأثناء خرج عليهم ذات الممرض الذي اصطحب نسرين للعيادة الداخلية و أرشدهم للغرفة التي حولت إليها..

دخلوا عليها فوجدوا الطبيب يتحدث إليها.. سلم  طارق و عرفه على نفسه و أخذه للخارج بينما يتحدثان..

اقتربت أمل من نسرين و سألتها كيف تشعر..

حكت لها نسرين كيف أن الطبيب قال أن الحرق سطحي لكن بسبب حساسية جلدها فقد تسبب بإلتهاب بسيط مما كان أدى بدوره للحمى.. و قد قاموا بتنظيف مكان الحرق و أعطوها إبرة مسكنة..

و بعد قليل دخل عليهم طارق و بصحبته عثمان يدفع كرسيّاً متحركاً..

*لقد سمح لك الطبيب بالخروج على أن تأتي في اليومين التاليين حتى يتأكد من شفاء الحرق.. هيا بنا..

ثم أردف و هم يسيرون في الممر لقد اتصلت عليّ الخالة نفيسة و أرادت أن تطمئن عليك..

شكرته الفتيات لتكبده العناء و لإضاعة وقته..

*على الرحب و السعة.. أنتن عزيزات علينا جداً..

وضع نظارته الشمسية على عينيه و انطلق في حال سبيله..

وصلوا إلى الشقة و نزلت نفيسة لمساعدة الفتيات و معها غدير التي حضرت من الجامعة..

قد اتصلت بكم مراراً و أكتشفت أنكم تركتم  هواتفكم هنا؟؟

لماذا لم تتصلوا بي؟؟

و اغرورقت عيناها بالدموع..

**كيف نتصل بك أو نرد على مكالماتك و قد تركنا هواتفنا هنا كما قلت يا غدير.. أجابتها نسرين..

فتملصت من يدها و ضمتها عليها و همست في أذنها..

لم نكن نريد أن نشغل بالك.. كان ذلك اليوم بمثابة عطلة رسمية عن المذاكرة للفتيات..

و صُبّ اهتمام الجميع بكيفية إخبار عزة عما حدث.. و اتفقوا على عدم إخبارها.. ليتفادوا ببساطة غضبها..

لأنها أوصت نفيسة بالحرف الواحد.. هنّ أمانة في عنقي و عند خروجي يكنّ في عنقك ،

و لأعفيك من كل شيء ليس عليك سوى الإتصال بي عند حدوث شيء..

بتلك البساطة .. و قد خالفت ذلك..

بمساعدة من الجميع..

*حسناً سوف نأخذ نسرين للعيادة للمراجعة؟؟

**سؤال سهل الإجابة يا أمل.. عندما تغادر عزة سنأخذها مع عثمان..

*غداً الجمعة!

** و ماذا هناك؟؟ هل ستذهبين للبيت؟؟

غدير.. أوَ لسنا مدعوون إلى فيلا جدها للغداء..

ردت عليها من بين أسنانها بعدما زمت شفتيها في غيظ..

ضربت غدير جبينها بكفها..

**يا الله لقد نسيت تماماً..

*** ليست بمشكلة.. سأطلب من وجدان الكشف على ساقي..

نظرت الفتاتان لبعضهما ثم نقلتا بصرهما لنسرين..

 سألتاها: و من هي وجدان ؟؟

حكت لهما نسرين عنها و طلبت منهما نسيان هذا الأمر و ألا تنزلق ألسنتهم عرضاً أمام عزة..

فهي تعلم ما الذي تعنيه دعوة الغد.. و ما تعنيه هذه الأيام بشكل عام..

وضعت عزة كوب الماء من يدها بعصبية و هي تزدرد الجرعة بصعوبة..

*حسناً سادتي.. أنا وضعت كل ما خطر ببالي من حلول.. و إن كنتم تعتقدون أن تجربتي الإدارية لا تستحق النظر إليها بإعتبار ، مقارنة مع خبرة السيد طارق عبد الرحمن الذي لم يعتبر حضور الإجتماع ضروريّاً نسبة لعلمه المسبق بنتيجته ، و فُتح الباب عند تلك الجملة تحديداً..

كأنه وُضِع هناك ليقطع تسلسل حديثها و يفري حبل أفكارها..

حدقت فيه للحظة.. ضاع فيها كل جلدها و عزيمتها بالفوز في هذه المعركة المعلنة بينهما.. و التي تميل كفتها لصالحه..

هو إداري لا يشق له غبار.. خبرته و بعد نظره أكسب الشركة على مدار السنوات المنصرمة عدة مشاريع ساهمت في صقل اسم الشركة و وضعها في مقدمة شركات المقاولات في البلاد..

و تأتي هي بخطة أخرى تنسف بها تقاريره و خطته الخمسية المستقبلية للشركة..

**هل فاتني شيء؟؟

*نعم سيد طارق.. فاتك كل الإجتماع..

تصنم أمام نبرة صوتها الجافة و الصارمة..

ضغط على أسنانه بشكل أبرز عظام وجنتيه.. فصار كنمر يترصد غزالة ليفترسها في حين غفلة منها و عزم منه..

**يمكنني الإستيعاب بسرعة.. فقط الخطوط العريضة عزة..

*أستاذة عزة لو سمحت سيد طارق..

فتح عينيه عن آخرهما و كاد فعلاً أن يفترسها و أراد أن ينقض عليها ، لكنه أدرك أن كل المجلس ينتظر حدوث فضيحة.. فكتم غيظه و أعتذر منها..

**أعتذر أستاذة عزة.. و أرجوك تقبلي أسفي العميق فقد ٱضطررت للذهاب للمستشفى من أجل حالة طارئة ، و أنت تعلمين كما الجميع هنا_ و أشار بيده نحوهم_ أني أحترم مواعيدي و الأهم من ذلك الأشخاص و وقتهم الذي يمنحونه لي..

شمل غرفة الإجتماعات سكون غريب.. لم يتخلله غير أصوات أجهزة لتبريد و أنفاس الحضور.

تأرجح الشيخ عبد القادر في كرسيه الوثير.. كاسراً ذاك الجمود الذي لفّ أعضاء المجلس..

و قال بصوت عميق: يبدو أن الجو مشحون بشكل مفرط في هذا الإجتماع..

ما رأيكم أن نمنح أنفسنا فرصة في التفكير و استخلاص نقاط القوة و الضعف في كِلا الخطتين..

يوم الإثنين بإذن الله نجلس أخرى.. و هو ولي التوفيق ..

و ٱنفض الإجتماع على ذلك.. صفق طارق باب شقته و دخل غرفته و عامل بابها بالمثل ، حتى أن الفزع تمكن من قلب الحاجة سيدة..

و مشت بخطاها البطيئة و هي تشد على عكازتها.. و وقفت أمام بابه..

*طارق.. ماذا جرى يا ولدي؟؟

بعد دقيقتين أو أكثر فتح الباب بذات العنف..

حتى كاد الهواء أن يلفح ثوب والدته عن جسدها..

** آسف أمي.. لم أشأ أن أزعجك..

هزت كتفه في عطف..

*لا عليك.. إنما هل هناك خطب ما؟

إنهار في أقرب مقعد و جلست بهدوء بجانبه و لم تنبس ببنت شفة.. منتظرة أن يخبرها بالذي قلب كيانه لهذه الدرجة..

فهي لمْ ترَ ابنها في هذا المزاج الحاد.. و علامات الغضب تظهر في تقطيبة جبينه و إقتران حاجبيه و حركة فكه المتوترة..

و عندما طال الصمت.. مررت كفها على يده و ربتت عليها..

نظر إليها و كأنها مرآة يخاطب نفسه من خلالها و عيناه شاردتان

**عزة محي الدين..

*ابنة وفاء عبد القادر تلك التي أخبرتني بشأنها؟؟

لا تقل لي أنها خُطِبَتْ!

**لا يا أمي.. و صراحة بات الأمر لا يعنيني..

كيف ذلك يا طارق.. طريقة حديثك عنها و مدحك إياها و أنها الوحيدة التي جعلتك تفكر بشكل جاد في الزواج؟

كيف تأتي بعد هذا و تقول أن أمرها لا يعنيك؟؟

** يبدو أن كل ما رسمته في عقلي لم يكن سوى محض خيال..

كيف أن وريثة واحدة من أكبر شركات السودان سوف تتحدر من عليائها و تقبل بي!

*طارق.. لا تقلل من شأن نفسك يا ولدي..

فأنت شاب كامل و لله الكمال.. شهادة و منصب و وسامة.. و ألف ألف فتاة تتمناك..

** و أنا لا أتمنى سواها..

ٱحكي لي ما حدث بينكما.. هل أساءت إليك أو جرحت كبريائك بأنك أقل من مستواها؟؟

لا تجعلني أتخبط في تخميناتي..

**حسناً.. حدث ذلك في الشركة.. و بدأ يقص عليها ما جرى..

أمضت سيدة تلك الليلة تتقلب في فراشها قلقة على وحيدها.. فقد أخذ الموت والده و أخته الكبرى في حادث منذ عقدين من الزمان..

لم تتوانى جهداً في توفير كل متطلبات الحياة الكريمة له.. نذرت نفسها له بالكامل ، برغم صغر سنها فقد رفضت الزواج مرة أخرى و بقيت وفية لذكرى والده..

زرعت فيه كل صفات عبد الرحمن.. كانت تحكيه عنه كأنه رجل خلق من تراب الجنة و عُجنت طينته بنورانية الملائكة..

و ها هو طارق يمثل أمامها قطعة من والده.. تفوق في دراسته .. محموداً في أخلاقه .. رجل تفخر كل أم بإبن كماه..

و لكن قلبها يؤلمها بشدة.. لأنها تدري أنه لم يعط قلبه من قبل لأنثى.. لم يرسم عالماً تشاركه تفاصيله فيه من قبل أنثى..

لم تشاهده متحمساً إلا بشأن عزة..

و ها هي عزة تكسر قلبه..

فقد أخبرها بأنه و برغم  محاولاتها اليائسة لإخفاء حبها الظاهر له فإنها تؤجل إعلان ذلك الحب و تتويجه ..

و تنظر لإعلانه للملأ بأنه خطوة متهورة و غير محسوبة العواقب..

*اللهم خفف عن فلذة كبدي ما يعانيه فأنت على ذلك قدير..

إن كان له خير فيها فيسرها له و إن كان شراً ربي فٱصرفه بقدرتك يا الله..

و سحبت عليها الغطاء و توسدت يدها و نامت..

بينما طارق لا يدري ما يصنع.. تؤلمه أصابع يده من كثرة ضربه لمقود السيارة و يؤلمه قلبه الذي تتجاذبه الظنون و يعتصره الوجع..

من أين جاء كل ذلك الجفاء؟؟

ما الذي تغيير بين ليلة و ضحاها.. هل ظهر في الصورة أحد مدللي أسرة برجوازية و أحتل حيز إهتمامها؟؟

هل لأن جدها ينوي تسليم مجموعة الشركات إليها و تحاول إثبات ذاتها؟؟

هي تعلم أنه الداعم الدائم لها في كل ما يتعلق بالعمل و كافة تفاصيله..

هو يذكر تماماً أنه لم يبخل عليها بخبرته و لا جهده .. و أنه أشد ما يكون فخراً بإنجازاتها و نجاحاتها..

هي تعلم جيداً أنها حب عمره و سيدة أيامه و نبض قلبه و شق روحه..

و تأتي بعد كل ذلك و تتصرف معه على هذا النحو و أمام مجلس إدارة المجموعة كاملة و بوجود جدها .. جدها الذي أخبرته صراحة أنها تكرهه..

هل تحتمي بسطوته و تجلدني بحبها و سطوته عليّ؟

تمنى لو أن يقوى يصرخ بأعلى صوته.. لو أن كل الذي يعتمل في قلبه يتحول إلى قنبلة .. فتنفجر و تأخذه عن هذه الحياة..

ارتمى على سريره بقهر و أخذت الدموع تنساب على وجهه و تبلل لحيته..

عزة محي الدين.. يا بعض أنفاسي.. سأموت قبل أن أتنسمك..

 *عزة.. ٱستوقفها صوت صارم..

**نعم بابا..

أستاذ محي الدين إذا لم يكن لديك مانع ..

شعرت بفداحة ما صنعت مع طارق مع سماعها لتلك الجملة..

**لم أقصد أن أحرجه يا أبي..

*أجل.. هذا هو شعور طارق.. الإحراج أمام مجلس الإدارة.. و ربما أفظع!

كل من كان في تلك الغرفة يعلم نوايا طارق نحوك.. كلهم لديه نظريته في نهاية تلك العلاقة التي تربطه بالعائلة..

هل هو مجرد متسلق يسعى لثروة من خلالك؟

أم هو مجتهد يسعى للثروة و أيضاً من خلالك؟؟

أو أنه.. شاب صالح و رجل أعمال لامع.. حسب وجهة نظري الخاصة و رفيق عمر يتمناه كل أب لإبنته..

لو كان للمظروف الذي تحمله أن يصرخ من شدة إحكام قبضتها عليه.. لفعل..

*لم يكن لكِ مطلقاً أن تحدثيه بتلك الطريقة..

هو مدير الموارد البشرية و أنت موظفة في إدارة أخرى..

أين كياستك!!  أم أنك تعاملت معه على أساس أنك صاحبة الشركة و هو أحد موظفيك!

إحمّر وجهها مع تصاعد نبرة أبيها..

*في كِلا الحالتين لقد نسفت خطتك بالكامل.. أليس من منظورك الذي حاولت ترسيخه في الإجتماعات السابقة أن يأتي الموظف قبل صاحب رأس المال؟؟

لم أعهدك غير منصفة يا عزة..

لمَ كلّتِ له بميزان أعرج!

هل هناك ما يجب أن أعرفه .. هل أخذت علاقتكما منحى آخر..

**أبي.. و قد تلعثمت من صراحته..

*معزتي.. لقد فاتحنا طارق أنا و جدك برغبته في الإرتباط بك.. و أنت من تصر على التأجيل بداعي أسباب واهية..

صغيرتي.. اعلمي أنه و مهما أحب الرجل فينا أنثى و لم تبادله مشاعره ، فإنه يأتي فيه يوم يخنق فيه حبه و لو أودى ذلك بحياته..

فلو كنتِ تحملين لطارق احساساً يؤهله لتقضي باقي عمرك معه.. فأرجوك .. أرجوك حاولي اصلاح ما أفسدته اليوم..

و تركها و انصرف..

نزلت السلالم درجة درجة و هي تمسك بخطواتها خطوة خطوة .. كأنما تخاف لو أنها تسقط..

وصلت بهو الشركة الرئيسي..

كان هناك بعض الموظفين الذين كفوا عن الحديث بمجرد رؤيتهم لها..

و ظهرت على بعضهم علامات الإرتباك ، فعلمت أنهم كانوا يتحدثون حتماً عن ذلك المشهد الذي افتعلته أمام الجميع..

رمقتهم بنظرة تنم عن معرفتها بما كان يدور همسهم عنه.. ثم رفعت رأسها و توالت خطواتها للخارج..

عند وصولها لسيارتها وجدت أحد الإطارات قد فرغ منه الهواء.. فركلته بقدمها بحركة عنيفة ، أوقعت على إثرها حقيبة يدها و تحطم هاتفها الخلوي فوراً..

شعرت أن الأرض ضاقت عليها بقدر ما تتسع أمامها..

تركت كل شيء في مكانه.. و اتجهت إلى حارس الأمن و الذي كان يراقب عن كثب ثورتها..

ألقت عليه التحية و طلبت منه أن يتصل بالشركة و يخبرها إذا ما توفر سائق ليصلح لها الإطار أو بأقل تقدير أن يوصلها..

لم يتوفر أحد و عبّر لها هو عن أسفه كونه لا يستطيع ترك موقعه ليصلحه لها..

قاربت الساعة السادسة و النص .. و قد فاتها ترحيل الموظفين .. و لا تدري ماذا تصنع..

ذهبت إلى حيث تركت أغراضها ملقاة في جانب سيارتها و انحنت عليها تجمع شتاتها حيث توقفت أمامها سيارة.. رفعت رأسها لتجده عثمان..

تنفست الصعداء .. هبط عن كاهلها حمل كجبل أحد همّاً..

سألها عن سبب تأخرها في العودة للبيت فقصت عليه الحكاية..

فقال لها أنه يحتاج أن يذهب لمكان ما أولاً و لولا ذلك لأعطاها السيارة لتذهب إلى المنزل بينما هو يقوم بإصلاح الإطار و جلب السيارة للبيت..

تردد قبل أن يطلب إليها أن ترافقه حتى لا تجلس هنا وحيدة..

وافقت بسرعة لأن ساقيها ما عادتا تستطيعان حملها..

جلست في المقعد الخلفي و أغمضت عينها و لم يمر زمن طويل حتى استسلمت للنوم..

كانت حركة المرور سلسة في البداية ثم ظهرت بعض الإختناقات المرورية.. استيقظت على صوت بوق طويل و مكابح كادت تلقيها من مقعدها.. أمسكت بظهر المقعد الأمامي و تلفتت بدهشة المخمور..

أين نحن يا عثمان؟؟

** في شارع الإمام المهدي شرق..

*أعتذر جداً .. يبدو أنني غفوت من أثر التعب.. كان اليوم طويلاً..

نظر لها من خلال مرايا السيارة.. و أومأ أنه لا عليها..

إتجهت السيارة يميناً للشارع العاشر و توقفت أمام مركز الدكتورة سلمى لعلاج الكُلى..

استغربت هذه المحطة.. و لم تكن سريعة كفاية لتسأل عثمان الذي نزل مسرعاً و دخل المركز..

مرت ربع ساعة و إذا به عثمان يخرج و هو يسند شبحاً و يتجه به للسيارة ، فما كان منها إلا أن فتحت الباب بحركة تلقائية و تنحت جانباً..

ألجمتها المفاجأة.. وجدت نفسها وجهاً لوجه مع عبد القادر العبيد في أكثر حالاته ضعفاً.. بالكاد استطاع الإبتسام في وجهها .. أرخى رموشه و تنفس بعمق..

*عزة.. أنت أول من يعرف من العائلة..

لم تستطع بعد أن تتخلص من عقدة لسانها..

و زفر هواء رئتيه تعِباً..

تم تشخيصي بضمور في الكلية اليمنى و الأخرى تعمل بنسبة ٣٠٪ من جهدها الكامل..

و كما رأيت أنا أخضع للغسيل الآن.. و قد إزداد سوء الحالة مما اضطرني لزيادة مرات زيارتي للمركز..

و من دون أن تشعر وجدت نفسها تحتضنه و أخذت تبكي بحرقة ..

نسيت كل تلك الكراهية التي نخرت قلبها تجاهه.. تمنت أن يكون كل هذا حلماً و سوف تستيقظ منه..

ربّت على ظهرها و ضمها إليه بيده المرتعشة.. و طلب منها أن تعده بالإحتفاظ بهذا الأمر سراً.. مؤكداً لها أن صحته في تحسن مضطرد.. و أنه سيجد الوقت الملائم ليخبر العائلة..

حاول عثمان أن يختار أكثر الشوارع ملائمة لحالة الشيخ الصحية.. و بالرغم من إجتهاده إلا أن شوارع الخرطوم أقسمت أن ترسم على ملامح الرجل بعض ألمها..

وصلت السيارة لفيلا الرياض..

ترجل سيدها عن راحلته مهزوماً.. مُنْحَنِي القامة.. يرتعش كقرير تعبث به أيادي كانون..

و هي تتشبث بذراعه خوفاً عليه لو يسقط..

كان محي الدين ينهي بعض أوراق العمل في مكتبه عند مدخل الفيلا..  عندما سمع صوت عزة فترك ما بيده فوراً و خرج للبهو ليجد عبد القادر في يدها و هي تساعده ليصعد غرفته.. هرول ناحيتهم و تناوله منها و سأل قلِقاً ما الذي جرى..

فأجابته عزة سريعاً أن سيارتها تعطلت و أن جدها مرّ بالشركة لأنه نسي توقيع بعض الأوراق و وجدها هناك.. و يبدو أنه لم يتناول حبوب الضغط لذا تعب قليلاً في الطريق للفيلا..

استدعوا وجدان التي كانت على دراية بحالته المرضية و طمأنتهم أنه بخير.. و لم تفصح عن السبب الحقيقي وراء تعبه..

راقبت عزة جدها و صدره يرتفع و ينخفض في نسق رتيب..

واضعة يدها على قلبها تلهج بالدعاء له..

ما أغرب النفس البشرية..

شتان ما بين اليوم و البارحة..

أن ينتقل الشخص من النقيض إلى النقيض..

من قمة الجبروت و القوة إلى قاع الخضوع و الضعف..

أن يتأرجح من الإشمئزاز كراهيةً..إلى الإحتواء محبة..

لم تكن ترغب أن تتركه وحده في الغرفة إلا أن وجدان أخبرتها أن المنوم الذي أعطته له سيجعله يرتاح.. و أن بنيته جيدة و هو رجل شجاع كونه جابه هذا المرض بقلب أسد..

أغلقت الباب بلطف و مع إبتعادها عنه لمحت شخصاً يفتح الباب ثم يغلقه ..

ظنت بداية أنها وجدان ، لكنها رأتها في أسفل الدرج و هي تحمل كوب ماء و تتجه للأعلى..

ترى من بالداخل إذن.. عادت للغرفة لتجد خالتها غادة تجثم أمام سرير أبيها و الدموع تغطي وجهها.. سمعتها تتمتم و تهتز جيئة و ذهاباً برتابة كبندول ساعة قديمة..

نادتها بصوت منخفض إلا أنها كمن يُسمع أصماً..

فلم تجد خياراً سوى أن تذهب ناحيتها و تنبهها برفق..

فشخص بصر غادة .. و توقفت عن الإهتزاز و سحبتها إليها.. نزلت عزة عند رغبتها و جلست على ركبتيها لتقترب من غادة..

فهمست لها: هل تعلمين أن أبي مريض جداً و أنه سيموت قريباً؟؟

هزت عزة رأسها نفيّاً و هي مذهولة..

نعم سيموت كما ماتت أمي.. سوف يتركونني وحيدة.. و لكنك معي..

لن تتركيني يا عزة صحيح؟؟

تعجبت من هذا الحديث.. لكنها شدت على ذراعها و رفعتها عن الأرض.. شعرت أنه من واجبها ألا تحكم على حديثها.. نظراً لحالتها النفسية المتدهورة.. و لخوفها من فقد أبيها كما فقدت أمها..

*لنذهب لغرفتك يا غادة..

**كلّا.. أريد أن أذهب لوفاء..

أصاب عزة الخوف.. لو أنها ذهبت لغرفة أمها فحتماً ستخبرها أن عبد القادر مريض و سوف تتأثر أمها و ربما ساءت حالتها..

توسلتها أن يذهبوا للحديقة قليلاً لأن وفاء نائمة الآن و إنه عند الصباح ستأتي بها ليجلسوا معاً.. استجابت غادة بعد عدة محاولات يائسة من عزة و نزلت عند طلبها..

ٱرتفعت دقات ساعة البهو ..

إثنا عشرة دقة.. ٱنتصف الليل و هي لا تدري إن كانت تقدر أن تفعل شيئاً..

اختلطت كل الأشياء و تسلّخ عنها قناع القوة التي ترتديه ملامحها..

و تشامخ الجزع بداخلها.. و هي صفصافة عنيدة الساق..

وقعت و هي واقفة..

سمعت صوت سيارة تدخل الفيلا..

*يا الله السيارة.. الخالة نفيسة و الفتيات..

كيف لها أن تتذكر كل ذلك و عقلها يرزح تحت كل هذا الضغط..

دخل عثمان إلى داخل الفيلا و أعطاها مفتاح سيارتها بعدما جاء بها من مواقف الشركة.. كما أخبرها أن الفتيات قد اتصلنّ عليه مع نفيسة عندما تأخر الوقت و لم تحضر للشقة..

شكرته على معروفه و أعتذرت له على تكبده كل هذه المشقة..

واجبي يا عزة.. و قبل أن يغادر سألها إن كانت دعوة الغد قائمة..

فأجابته بنعم و أنه يجب أن يحضر الفتيات قبل صلاة الجمعة.. امتثل لأمرها و أغلق الباب خلفه..

تكومت عزة بجانب سرير أمها.. تراقبها تارة و تراقب حركة الستار مع الهواء..

عمرها تهاوى أمام هذه المسجاة على فراش المرض..

لو كان الأمر بيدها لأعطتها ما شاءت من سنوات العافية خاصتها تُلَفِّحُها بها ثوباً من حرير..

و لكن يبدو أن سنواتها لا تكفي لتطبب جراحاً بعمرها.. اتصل عثمان بأمل صبيحة الجمعة.. و سأل إن كانت الفتيات ستذهب أولاً إلى العيادة أم إلى دعوة الغداء و تتأجل العيادة للمساء..

آثرن الذهاب للعيادة أولاً لأن أمل تنوي زيارة أهلها بعد تلبية دعوة عزة..

و كذلك ربما يتأخر الوقت و تفقد نسرين يوماً من علاج ساقها..

وصلت الفتيات إلى الفيلا في حوالي الثانية عشرة و الثلث.. و قد استقبلتهن عزة بترحاب شديد..

ثم ٱعتذرت عن يوم الأمس و ٱختصرت التفاصيل ما أمكنها..

شُغِلت أمل و غدير بالركن المعد لهن في الحديقة ، بينما بقيت نسرين تتأمل عزة في إهتمام..

*عزة.. هل هناك ما يجب أن أعرفه؟؟

**هناك الكثير الكثير.. و لكن دعينا لا نفسد هذه اللحظات..

و شدت على يدها و قامت إلى الفتاتين تمازحهما..

لم تكن مأدبة رائعة.. بل كانت غير تقليدية تماماً..

فقد خُصصَ ركن للشواء على موقد حجري و كذلك كان هناك صفٌّ من آنية حفظ الطعام كالتي تستخدم في حفلات الفنادق الكبرى..

وُضِع فيها الأرز و السلطات بأنواعها و المعجنات و غيرها..

كما كانت هناك ثلاجة تقبع في أحد زوايا الحديقة مملؤة بمختلف أنواع العصير و المشروبات الغازية..

استمتعت الفتيات جداً في هذا اليوم و قد صعدن بعد ذلك لإلقاء التحية على وفاء التي كانت في أحسن حالاتها..

*ودّ جدي لو أمكنه النزول إليكن لكنه متعب من ليلة الأمس..

فتمنينّ له عاجل الشفاء..

**توقعت أن يكون طارق مدعواً معنا.. قالت أمل

***لكن خاب توقعك.. ردت عليها غدير..

و ضحكوا جميعاً.. إلا أن الضحكة المريرة التي أفتر عنها ثغر عزة جعل نسرين تستعجل الزمن لتعرف ما الذي حدث ..

أصرت أمل على غدير أن تذهب معها إلى منزلها ، حيث أوصلهم عثمان.. فيما بقيت نسرين مع عزة.. على أن يعودوا للشقة غداً عصراً..

*عزة.. نادتها نسرين.. و عزة كالذي يهيم في ملكوت الله لا يلوي على شيء..

مغيّبٌ عن الوعي .. فاقد للتوازن و يفتقر لجاذبية تربطه بنواة الكون.. آثر أن يبقى طافياً .. طالباً للهروب و لا يرجو النجاة..

انتبهت و ابتسمت لها..

*أنا أنتظر..

**دعينا نؤجل ذلك..

سنخرج لشارع النيل.. هل لديك مانع؟؟

*حسناً.. قالتها بخيبة أمل..

و لكن عزة رفعت رأسها  بيدها..

**أنا بخير عزيزتي.. صدقاً..

لا تهتمي..

كيف لي ألا أهتم و أنا أراك هكذا..

يمسك بكِ خيط رفيع لو ٱنفرط نسيجه .. لفقدتك..

و أكثر ما أخافه عليّ ألا أجدك إلي..

لن أعيش تلك الأيام السوداء مرة أخرى و أنت غياب.

**نسرين.. و طقطقت عزة أصابعها أمامها..

أين ذهبتِ؟؟

أنا هنا.

في طريقهم لشارع النيل توقفوا عند أحد محلات بيع الهواتف الجوالة ، نزلت عزة وحدها بعدما اعتذرت نسرين بسبب ساقها..

أعطت عزة  الجهاز لنسرين لتضبطه لها و تدخل فيه الشريحة..

من قال أن الصمت هدوء؟

في الصمت تصطدم ألف ألف  فكرة.. فيتولد ضجيج لا يمكن للعقل إستيعابه..

عندما يشملهما صمتٌ كهذا الذي يطبق خناقه عليهما.. يتمنى المرء أن يمسك بحيثيات الزمن و يبدأ في تشكيلها كعجينة الصلصال..

لعله يشتت كل القلق و الترقب ، و يمنح نفسه مظلة للهبوط الإضطراري إذا ما تطلب الأمر..

كل هذه الفلسفة الخرقاء و نسرين تسابق الأضواء المرسومة على زجاج السيارة الجانبي..

نزلت عزة أولاً و أخرجت كرسيين مطويين و سجادة صغيرة.. أعدت الجلسة ثم ساعدت نسرين على النزول و جلست على الكرسي المقابل..

و نظرت إليها مليّاً و قالت: تمنيت طوال عمري أن يكون لي أخت..

لم يكن مهماً أن تكبرني  أو تصغرني.. كنت أشتهي أن نفعل كل شيء سوياً.. أن نستعير أغراض بعضنا أو نغضب من بعضنا و نقوم بإفتعال المشاكل و حتى أن تفتن إحدانا الأخرى ..

لم أكن أسعى لعقد صداقات طويلة المدى نسبة لإقامتنا في المزرعة.. و العمر الذي كان  يفترض بي أن ألتقي الناس فيه و أتعرف عليهم.. فوجئت بأن الحق الذي مُنحته ميلاداً و حياةً كثيرٌ عليّ.. فما بالك بالأخوات و الصديقات..

خنقت العبرات نسرين .. فأجهشت ببكاء صامت..

استرسلت عزة في حديثها دونما أن تنتبه لدموع نسرين ..

ساهم الجميع في تربيتي و تعليمي.. فتبلورت شخصيتي لتصير مزيجاً من كل فرد من عائلة عبد القادر العبيد..

تصوري.. ورثت عن أمي قلبها الكبير الحنون.. و عن جدتي ملامحها الجميلة و شعرها الأسود الطويل.. و هذا الأنف الحاد .. و استجمعت أنفاسها .. هذا الأنف هو علامة إنتمائي الشخصي لجدي..

كانت كلماتها تنزل كنصل حاد في فؤاد نسرين التي صارت كبتلة تجاهد أن تستمسك بعود وردتها في ليلةٍ تشرينيِّةً عاصفة..

حتى أنني أخذت بعض غرابة خالتي غادة..

تعلمين يا نسرين..

عندما لاحظت اهتمام طارق بي و تحينه الفرص كي يلتقيني.. شعرت أن الله سبحانه و تعالى قد أهداني أخيراً مفتاح السعادة.. على أمل أن أُغَلِّقَ أبواب الحزن و ألقي بذاك المفتاح عند أعتاب هذا النيل المجيد..

قامت و توجهت صوب ضفة النهر..

و رفعت حجراً صغيراً و قذفت به إلى جوف المياه..

و لكني كنت واهمة.. واهمة إذ حسبت أن السعادة قد تطرق بابي.. قد تغشى دياري.. أن تمر بي كسحابة عجول.. أن تظللني ، لم أكن أريد أن تبللني بالمطر..

سعادتي.. آثرت أن تكون هذه التموجات التي ابتسمت على صفحة الماء و أختفت..

لن أستطيع أن أمنح نفسي لطارق.. برغم أنه لم يحتل قلبي فقط.. بل يسكن كياني.. يتخلل حبه خلاياي..

أشعر أنه الطاقة التي تجعلني أقوى أتنفس.. و لن أستطيع أن أظلمه.. لن أدنس اسمه بالإرتباط بي..

و عادت لكرسيها و جلست فيه بهدوء..

هدوء إقتراب ساعة الصفر التي تسبق الإنفجار.

*لقد أفتعلت مشكلة في المكتب مع طارق و تعمدت أن أحرجه أمام كامل مجلس إدارة المجموعة.. قصدت أن يرى وجهاً جديداً يجعله يفكر ألف مرة .. أتمنى أن يمنعه كبرياءه من يعود إليّ..

و تهدج صوتها.. لقد ذبحت قلبه علناً و أنا أموت .. أموت معه..

يا ليتني أملك بساط سليمان.. كنت حلقت به إليه ، و نظرت في وجهه.. لعلي أستزيد منه ما يقوتني و يقتل صدايّ لصدى صوته..

أشعر أن ناراً تتقد في داخلي.. أشعر أني حقاً أموت.. و لا سبيل لي أن أعود أدراجي و أضعف ..

الحب تضحية..

أليس كذلك..

هزت نسرين رأسها نفيّاً..

**الحب أن يقتسم قلبان نبضهما.. أن يتشاطرا الحلو و المر معاً.. أن يسند كتف أحدهما ذراع الآخر.. ردت عليها نسرين

الحب.. أن نجد من نذوب فيه بدون خوف..

خوف من أن يتركنا.. هذه ثقة..

خوف من أن يقسو علينا.. فمن يُحب حقاً لا يحمل في يمينه إلا الرأفة و يسراه تحمل اللهفة..

الحب يا عزة.. عندك يختلف..

تعلمين.. من يتعثر فيك .. و شرقتها دموعها و لم تستطع أن تكمل..

قربت عزة كرسيها منها و أحتضنت كفيها بلطف.. و مسحت عن صفحة وجهها الدموع.. و برقة همست لها..

*أنت تلك الدعوة التي كنت أبتهل طوال عمري كيما أحوزها..

صديقتي الجميلة و أختي الصغيرة.. لم يعاملني أحد كما تفعلين.. و لن يتحمل أحد ما صنعتُ معكِ.. إلا من كان له قلب بصفاء كوب الحليب..

هنيئاً لي بك.. و أرجوك سامحيني إن أنا أثقلت عليك بكل هذا..

**لا يوجد ما أعقب به .. شكراً لك أنك تشعرين بأني أستحق أن أكون استجابة لأمنيتك..

لقد برد الجو.. و لم تتكرمي علي حتى بقدح شاي.. كنت تثرثرين لتنسيني .. أريد الشاي!

ضحكت عزة بأعلى صوتها..

تأخر الوقت.. سأحضّر لكِ الشاي في البيت..

حاولت نسرين جاهدة أن تقنع عزة بأن من حق طارق أن يقرر بشأن علاقته بها..

و أن شخصاً يحب بكل مشاعره لن توجد قوة في الأرض تجعله يختار البعد عن من يحب لشيء ليس له فيه ذنب.. كان أسبوعاً فارغاً .. قاحلاً برغم إزدحامه فكل شخص فيهم مشغول بطريقته الخاصة..

نسرين و الفتيات يتحضرن للإمتحانات و عزة وقتها مقسم بين الشركة و مواعيد الشيخ عبد القادر في مركز الغسيل..

طارق سافر إلى بورتسودان لإتمام صفقة و الإشراف على تصفية بعض أصول الشركة هناك..

لم يكن هناك زمن لأحدهم ليحيد عن هذا الخط المرسوم و يأخذ فسحة يخلو بها بنفسه..

تحسنت حالة وفاء بشكل ملحوظ و بدأت في مراحل العلاج الفيزيائي .. بل بدأت تمشي بمساعدة وجدان و محي الدين الذي أخذ عطلة كما أوصى الطبيب.. و أخبرهم أنه لو واصلت على هذا المنوال فلن تحتاج لعملية ، يبدو أن جسمها بطريقة ما استطاع أن يحلل الجلطة و استعاد تحكمه في وظائفه الحيوية و الحركية..

هذا في حد ذاته أضفى راحة نفسية على عزة.. يكفيها قلقها على ذاك الكهل الذي تحتضنه بعد كل جلسة غسيل دموي كطفل قرير ..

تغيرت غادة كذلك و صارت أكثر عصبية و تفتعل النقاش مع كل من الفيلا.. و باتت لا تنام إلا بحبوب منومة ..

لم يكن هناك تفسير لهذه الحالة التي تعتريها .. هذا ما قاله طبيبها المعالج.. و نصحهم أن تغير مكان إقامتها أو أن تسافر إلى أي مكان لفترة و تعود..

لم يكن من الممكن بالطبع ترتيب ذلك في الوقت الحالي ، فليس هناك من يستطيع أن يخصص الوقت لها.. و هذه هي المشكلة كما يبدو..

خوفها من فقد أبيها كما فقدت أمها.. مرض أختها و إنقطاعها عن العالم الخارجي ، تراص كل ذلك فوق بعضه و بنى حولها جداراً عالياً..

لاحظ عبد القادر هذا الإضطراب عليها ، فقد صارت لا تفارقه أبداً طوال تواجده في الفيلا و يشملها هدوء غريب في حضوره..

لذا قرر أن يأخذها معه إلى بورتسودان لأنه يتحتم عليه الحضور الشخصي لإتمام بعض الأمور المتعلقة بالصفقة التي يبرمها طارق هناك..

كما أن عطلة محي الدين تكاد تنتهي..

عرض على عزة السفر معهم.. ترددت في البداية و لكنها رضخت أمام نظرة التوسل التي أطلت من عينيه و إن لم تظهر في نبرة صوته..

أخبرت الفتيات أنها مضطرة للسفر و أوصت نفيسة و عثمان عليهن ، لا سيما و أن الإمتحانات بدأت ..

سار كل شيء بسلاسة..

حطت طائرة بدر للطيران في مطار مدينة بورتسودان في تمام الخامسة و النصف مساء الأربعاء الحادي و العشرين من كانون الثاني ..

وصل الشيخ عبد القادر لصالة كبار الشخصيات و هو يتأبط ذراع غادة .. التي تبدلت روحها و كساها الفرح و زاد ملامحها حسناً.. بينما مشت عزة خلفهم تسحب حقيبة صغيرة.. و ترد على دردشة على صفحة جوالها..

*سنجلس هنا قليلاً ريثما تحضر السيارة.. قالها الشيخ و أختار أحد المقاعد الثنائية الوثيرة و أجلس عليها غادة و طلب من عزة أن تجلس ، إلا أنها آثرت أن تتمشى في أنحاء الصالة.. فجلس مع ابنته يجاذبها أطراف الحديث و استأذنته عزة و بدأت جولتها في السوق الحرة الذي يتوسط معرضها ركن الصالة الشرقي..

قلبت منحوتة على شكل سفينة بين يديها.. أدهشتها الدقة المتناهية للتفاصيل الصغيرة .. تركتها في مكانها ، ثم رفعت مجسم لقصر عثمان دقنة مصنوع من الطين و كاد أن يسقط من يدها و هي تسمع صوته العميق يتسرب إلى عمق كيانها..

*حمدا لله على السلامة يا أستاذة عزة..

إلتفتت بكل كيانها لتملأ روحها من طارق قبل عيونها..

بالرغم من أن كلماته صفعتها..  لكنها فوجئت به و قد غارت عيناه في محجرها و استرسلت لحيته و يبدو أن خسر بعضاً من الوزن..

لقد تغير كثيراً منذ آخر مرة إلتقيا..

استدركت أنه يمد إليها يده فصافحته دون أن تنطق كلمة واحدة..

استقلوا سيارته بينما أخذ سائق الفندق الأمتعة و سبقهم إلى هناك..

أكمل طارق إجراءات التسجيل في وقت وجيز مما جعلهم يصعدون لغرفهم لينالوا قسطاً من الراحة.. و الذي كانت هي أحوجهم إليه..

لم تتخيل أن اللقاء سيكون باهتاً.. فاتراً و رسمياً..

لكن ما الذي تتوقعه بعد  ٱعترافها عن سبق إصرارٍ أنها أرادت تحطيم صورتها الزاهية في قلبه.. و تمزيق آخر أمل له بالعودة لحبهما.. استغرقت عزة في نوم عميق .. أيقظها منه طرق عنيف على باب الغرفة..

فهبت مذعورة و سألت : من هناك؟

أجابها طارق: هذا أنا أفتحي الباب..

غطت جسدها بشال صوفي خفيف و حملته نحو باب الغرفة..

و فتحته.. دخل عنوة و دفعها للداخل بعنف..

سقطت و تأوهت بشدة ..

وقف فوقها و أمعن النظر إليها..

كان يتفحصها بطريقة غريبة ، جعلتها ترتجف.. و لا شعوريّاً بدأت تزحف للخلف و هو يخطو نحوها كل مرة.. حتى إلتصقت بجانب السرير..

نزل بكامل جسده حتى دنى منها و حملها للأعلى واضعاً إياها في حافة السرير..

ثم جثا على الأرض ..

طال الصمت بينهما و هي ما تزال تبحث فيه.. عنه..

عن بريق عينيه الذي إنطفأت جذوته.. عن إبتسامته التي كانت تضيء روحها قبل وجهه..

صارت ملامحه حادة.. ما عاد يشبهه..

*عزة.. أخرجها صوته من سرحانها..

لم تجد كلمة لتجيبه ..

ٱكتفت أن تنظر إليه في عينيه.. و كأنها تستجديه أن يخلع القناع الذي يعتمره..

*ها أنا ذا أمامك.. بكل ذلك الحب الذي تعرفينه بي.. و كل ذلك الشوق المجنون الذي ترينه في عيني..

أجل هذا أنا.. و تغيرت نبرته..

أقف على حافة مزلاج بابك و أرقبك من ثقوب الستارة التي تحجب شعاع الشمس عن زجاج نافذتك.. أسترق النظر على كل حركاتك.. أتلصص على صوت المياه التي تنساب لك وضوءاً.. أصطف جانبك.. أصلي..

أتدثر بك.. فصقيع الحياة من حولي يكاد يجعلني أتجمد..

لا شيء في بعدك جدير بالتعاطي.. كأنما تخلت الأشياء عن طبيعتها.. أو أني ما عدت أميزها..

ما عادت الشمس منتظمة في ساعات نومها و يقظتها.. و السماء أصابتها الفوضى فلا قمر يزور ليلها و لا سحبٌ تهدأ  لمروره على صفحتها..

و أنا وسط كل هذا يسخر مني افتقادي لك ..

و رغم كبريائي المهيض ..

فأنا أضمك كل ليلة إليّ و أنام.. أحتويك خيالاً بكل الشوق الذي يعتمل فيّ .. و أشعر بلمسات يديك_ و أحتوى كفيها_ الدافئة تحثني على الإستيقاظ صباحاً.. و أشتهي قبلاتك.. ترويقة على طاولة إفطاري تغنيني عن قوت يومي كاملاً..

و أعتدل وقوفاً و تقدم حتى إلتصق وجهها بصدره..

وضعت ذراعيها حوله و أحتضنته.. سمعت كل دفق الدم في عروقه.. سمعت كل دقة من قلبه.. سمعت تسارع أنفاسه.. سمعت اسمها حرفاً حرفاً همساً..

و أطبقت شفتاه تجوسان وجهها.. ترطبان وجنتيها و تسلمان على عينيها..

و تستشفان الرحيق عن ثغرها..

ذابت بين أحضانه و شعرت بالخدر يغزوها.. و خارت قواها و هو يُعمل يده بين ثناياها و يتحسس جسدها..

إلتقت عيناهما..

لم يكن هناك من شيء ليقال..

لم يكن هناك خطوط حمراء أو زرقاء.. تركت له نفسها..

سلمته ما بقيت عمرها تدخره له من أول يوم أخبرها حدسها أنه يحبها..

قربته إليها أكثر.. سحبته ناحيتها بعد أن انسحبت هي إلى وسط السرير..

رفعت طرف الغطاء و أندست بداخله و كل خلية في جسمها تقول له : هيت لك..

استجاب لها.. خلع حذائه و صعد إليها..

فتحت ذراعيها و أرتمى عليها برفق.. توسد صدرها و ضمته بشوق..

قبّلها على خديها .. وعلى أرنبة أنفها.. و تشتت نظراته ما بين عينيها.. فأغمضتهما و اللوعة تستعر في داخلها..

*هل لاحظتِ أنك لم تقولي شيئاً مطلقاً!

خاطبها و يده تتخل شعرها..

فلثمت ثغره.. و كأنها تود أن تكفيه قبلاتها عن كل الكلمات التي ما كانت لتعبّر عن بعض بعض حبها له..

تحولت شفتاه لعنقها و هنا تقطّعت أنفاسها.. و ثقله يضغط عليها.. دفعته قليلاً عنها.. فلم يستجب لها..

حاولت أن تحدثه أنها لا تقوى تتنفس ، لكن الحروف أبت أن تخرج.. تململت بين أحضانه التي تطبق الخناق عليها.. و لكنه لم يكترث و قد وصلت يداه إلى ظهرها و شعرت بحرارة كفه و هي ترسم خطوطاً دائريةً على أسفل عنقها مروراً بسلسلتها الفقرية .. صعوداً و نزولاً..

و بدأ شيئاً فشيئاً يُمعن يتحسسها نحو الأسفل..

أدركت فجأة ما سوف يحدث.. انتبهت كل حواسها دفعة واحدة..

و ركلته بقدميها كغريق يجاهد ليغلب الموج الهائج..

و أندفعت بكل قوتها تحاول منه فكاكاً .. و هو كأنه جثة بلا روح..

و عندما أدرك ثورتها عليه.. قام عنها لكنه ترك يديه تثبها على الفراش..

و احتدت نبرة صوته..

*هل ترفضينني؟؟

أنت من سمح لي أن... أنا لم أجبرك على شيء..

و عندما استبد بي توقي و تمكنت منك.. تتمنعين..

لا يا آنستي.. ليس هناك طريقة لتنسحبي.. أقله ليس في هذه اللحظات..

و تكوم عليها و أخذ يمزق عنها ثياب النوم ..

صارت بين يديه كأثمال متسول يلبسها من ألف عام..

و صرخت من هول ما يفعله ، فوضع يده على فمها و هي مستمرة في الركل و المقاومة..

و هو لم يفكر أن يرحمها من رعونة رغبته..

أضحت بينه و بين الفراش كفرخٍ زغِبٍ لا حول له و لا قوة.. و أفلتها بعدما فرغ ..

و هي تتشبث ببقايا شالها الصوفي الذي كان يراقب بصمتِ الأخرس.. و أخذته تلف به ما أُنتهك منها..

طارق لم يكتفِ بذلك إنما أطبق على عنقها و بدأ يخنقها.. و هو يردد : لن تخبري أحداً بما حدث .. فأنا ما فعلت ذلك إلا من شدة حبي لك..

و هذه المرة لم تقاوم..

تركته يواصل خنقها و لكن عقلها الباطن رفض استسلامها.. رفض أن تموت بين يديه..

فسعلت .. سعلت بشدة .. أيقظتها ..

و وجدت غادة تهزها بفزع..

*بسم الله.. عزة ماذا هناك..

كنت تحلمين..

و ناولتها كأس ماء ، فشربته و هي تتحسس عنقها و تجيل بصرها في الغرفة..

**أجل .. قد كان حلماً مزعجاً جداً..

و أحتضنتها خالتها لتُهدأ من روعها.. كانون الثاني و بورتسودان مست جدران مبانيها أيادي الشتاء..

تلفحت سمواتها ببعض السحاب ، يتجمع تارة و يتفرق أخرى..

هو ذات الزحام.. نفس الأوجه و الشخوص..

ملامح المدنيّة التي تستحي من شعر كثٍّ يعلوه خُلالٌ خشبي .. و هامة تكسوها جلابية كأنها أقسمت ألا تمسها مياه صابون حتى تسكن مع صاحبها المقابر..

سيارات من مختلف الماركات العالمية.. أبواقها تملأ الفضاء بالضوضاء..

لا يبدو سائقوها يكترثون لتلك القطط التي تدهشك ..

فهي تلتفت يميناً و يساراً حتى تعبر الشارع.. تموء و تحاول أن تقارع ذاك الضجيج الذي يصدره الزحام.. فتفشل في ذلك ، بيد أنها أسكنت في قلبي ذاك الرعب من تلك الحكايا عن الثغر و الجن مستوطنها..

المطاعم تعلن عن مطابخها من خلال لوحاتها التي تعتلي واجهة المحال..  الأسماك بأنواعها و الأسماء الأجنبية التي يقصد بها جذب السياح الذين تكتظ بهم المدينة..

شريط الكورنيش و الجلسات المتناثرة على طوله..

المقاعد و الطاولات قصيرات الأرجل.. و كراسي البلاستيك متعددة الألوان و الأحجام..

كلها تستقبل الأجساد المتهالكة و المنهكة من هذه الحياة..

تتقاسم نكهة البن و تدخن تبغ النشوة.. فتملأ رئة المكان بالضحكات و القهقهة..

و يا ليتها تغالب جور هذا الزمان .. يكفي أنها تجعله خفيّاً لبعض الوقت..

الميناء و المنارة العتيقة يشرفان على بحر القُلزم .. و بساط من الرمل يفرش الساحل.. سحر المياه يكاد يخلب اللب..

بورتسودان.. مدينة التضاد ..

سيدة البحر و الجبال..

مضى اليوم الأول كسولاً بعض الشيء..

لم يذهبوا لمقر الشركة بل آثروا أن يأخذوا تلك الجولة في أحياء المدينة و يشاهدوا معالمها السياحية..

على أن يضع لهم الفندق جدولاً لرحلات فردية ينظمها للبحر من أجل الغطس و زيارة الجزر المطلة على الشاطىء ، كما أقترحت عليهم ندى مسؤولة العلاقات العامة بعض المنتجعات الحديثة التي تتميز بها البورت..

احتجت عزة على هذا الترتيب ، فهو يحرمها من التواجد في الشركة.. و كذلك مراقبة جدها..

و لكن هل هي حقاً تأبه للشركة و لجدها أم لمن سوف يكون بجانبه في تلك الإجتماعات..

أوصلت احتجاجها ذاك الذي قابله جدها بإبتسامة مضطربة و أجابها أنها هنا في رحلة عمل مدفوعة القيمة و عليها أن تعتني بغادة التي ظهرت عليها علامات التحسن من أول ليلة لها في عروس الأحمر..

كان طارق يجلس معهم أثناء النقاش و لم يكلف نفسه أن يلتفت أو أن يقوم بأي حركة تدل أنه معهم من قريب أو بعيد..

قبع هناك على كرسيه .. لوحة لشبح.. ملامح روحه شاخت و بهتت ..

لم يبدي أي اهتمام لوجودها.. و كلما اضطره الموقف ليتحدث وجّه حديثاً مقتضباً و صمت..

يوم الغد سوف يكون مزدحماً بالتفاصيل .. إنهاء الصفقة و تصفية أصول الشركة و إغلاق مقرها هنا..

و رحلة إلى منطقة تسمى الكيلو ثمانية..

حيث وعدتهم ندى أنها سوف تكون رحلة لن تُنسى..

في الصباح الباكر استقل الشيخ عبد القادر سيارة الشركة البنز مع طارق في حين كانت اللاندكروزر برادو تنتظر البقية بمن فيهم ندى و إثنان من موظفي الفندق.. فقد آثر الشيخ دفع تكاليف الرحلة كاملة على أن تقتصر على إبنتيه..

و ذلك مراعاة منه لخصوصية حالة غادة و أن السفر من الأساس كان من أجل صحتها هي ..

أصر أوهاج و محجوب أن يجلسا في الخلف و ذلك ليجعلا الآنستين أكثر راحة..

جلست ندى مع عوض السائق في المقعد الأمامي..

و قد كان الأربعة يجتهدون في لفت إنتباه عزة و غادة لكل معلم في الطريق.. و يحاولون اختصار المعلومات التاريخية عن المكان ..

بعد حوالي نصف الساعة خرجوا من زحام المدينة و استقبلتهم درب معبدة بطريقة جميلة و ترائ لهم من بعيد الشاطىء..

كان المنظر بديعاً.. حتى أن إستيعابه يتطلب فصل الرؤية عن بعضها مؤقتاً..

تلألأ مياه البحر تحت ناظري الشمس.. و كأنها أميرة حسناء زينتها المملكة كلها يوم زفافها..

ترفل في تدرج أزرق مهيب..

و تتدحرج الأمواج تلثم أقدام الرمال..

التي تجثم بشموخ على إمتداد الساحل..

و تُشرف سحابات متناثرة عليهم من علو..

تتقاسم الجمال مع لون السماء..

ثم يغمض المرء.. لتلتقط عيناه  روعة الأماكن المخصصة لتمضية النهار..

التي تستغلها الأسر عند اعتدال الطقس لتنعم بهذا الجمال الذي يسلب الألباب رشدها..

نزلوا عن السيارة تباعاً حيث كان في استقبالهم مندوب الفندق و قد أعد لهم أحد مجموعات الأكواخ و التي تتسع لأربعة أشخاص..

من الداخل تتسم بالبساطة ..

مجموعة من المقاعد المجهزة بمساند و وسائد.. و سرير متوسط الحجم و خزانة ملابس صغيرة..

طاولتين و مروحة سقف مثبتة في أعمدة الكوخ الخشبية..

و في المدخل يوجد نضد من خشب البتولا فاقع الصفار يجعل من لون القش البني و الأسود لوحة مسروقة من غابات أفريقيا المقدسة..

وضعت فوق تلك المنضدة بعناية صينية و عليها مجموعة من أكواب المياه الزجاجية و إبريق ..

آنية طعام و حافظة للمياه المبردة ..

سلال كبيرة وضعت أيضاً بجانب الكوخ الآخر و موقد مستطيل يتوقد فيه جمر..

و من تلك الجهة الأخرى للجدار القصير جلست سيدة في زيٍّ متوهج إحمراراً و كانت تعد للشواء..

تقدمت إليهم و ألقت بتحية أهل شرقنا الحبيب..

أكوبام.. أتنينا..

أشرقت لها الوجوه بشراً من شدة بهاها..

جلست عزة و غادة و ندى عندها و شربوا بعض فناجين القهوة..

في تلك الأثناء كان الرجال الأربعة قد رتبوا المكان..

فأرتفعت الموسيقى من الكوخ و عُبِأت حافظة المياه بالثلج و أُحضرت أخريان للفاكهة و المشروبات الغازية..

و جاء أوهاج يستأذن السيدات في بدء برنامج الرحلة..

أرتدت كلٌّ منهن بنطالاً من الجينز الأزرق.. كأنهن استعرنه من صفحة هذه المياه التي تكاد أن تكون هربت من مدن الجنّ السرية..

أعتمرن قبعات من القش و لم ينسين نظارات الشمس الواسعة..

*جئت لكن بهذه الدراجات الرباعية لأخذكم في جولة على الشريط الساحلي ريثما يتحضر الإفطار..

وقف أمامهن محجوب و معه مجموعة من الفتيان في مقتبل العمر .. و قد توقفوا أمامهم ليختاروا من بينها..

رفضت غادة ركوبها برغم كل سبل الإقناع التي مارسها عليها الجميع ..

فقط طلبت من غادة الذهاب للبحر و الجلوس بقربه..

صرف محجوب الفتية و ترك ثلاث درجات .. على أن يحاسبهم نهاية اليوم..

صعدت عزة على إحداها بينما ركب محجوب على اخرى..

راقبهم أوهاج مع مريم من الكوخ و هم يبتعدون شيئاً فشيئاً تلقاء الأفق..

و صحبت ندى غادة إلى المنطقة الآمنة و المعدة للجلوس ..

*الحمد لله فاليوم ليس مزدحماً.. و إلا ما كنّا لنجد مقعداً واحداً فارغاً.. و لكان الأطفال رموك بكراتهم المطاطية ألف مرة..

ضحكتا في استمتاع.. و أخذتا تتبادلان الحديث في استرخاء..

قررت عزة أن تتسابق مع مضيفها و قد كان المكان شبه فارغ مما شجعهم على ذلك.. و عندما وصلت لنقطة صار فيها كوخهم غير مرئي.. طلبت من محجوب أن يعودوا أدراجهم..

هذه المرة آثروا التمهل في المسير و تجرأ محجوب على فتح حوار معها ..

فوجدته من أبناء مدينة الخرطوم شمال و يسكن حي المزاد و قد درس الفندقة و السياحة في إحدى كليات الخرطوم و قد جاء إلى بورتسودان قبل ستة أعوام..

كان شخصاً غريباً.. حديثه مهذب في المجمل لكنه يلقي بين الفينة و الأخرى بكلمة أو ملاحظة تجعلها تصمت..

كان يبدو و كأنه يحاول استخلاص معلومات عنها و عن جدها..

و أخبرها أنه سمع عن شركتهم من خلال المشاريع التي تنفذها هنا...

لاحظ أنها صارت تختصره في الإجابة.. فغير مجرى الحديث حيث بدأ يحكي لها عن تاريخ المنطقة ككل.. و الأماكن التي سوف يقومون بزيارتها في الأيام المقبلة..

سحرها بإنتقاء ألفاظه و ثقافته الجمة و إلمامه بكل ما سألته عنه..

وصلوا أخيراً حيث وجدوا أن الفطور قد تم إعداده و جلس الجميع على حصيرة فُرشت أرضاً..

انتهوا من وجبتهم و دعت ندى غادة و عزة ليأخذا راحتها قليلاً.. لحين يأتي بعض أصحاب القوارب عند الظهيرة فيمكنهم عندها استقلال أحدها ليبحروا داخل البحر.. أعجبتهم الفكرة جداً و استلقت كلٌّ منهما في أحد طرفي السرير..

رن الهاتف بجانب عزة برقم غريب..

ثم تلقت الإتصال..

كان طارق المتصل.. سأل عن مجريات اليوم و هل يستمتعون به..

أجابته بفرحة ظهرت في عباراتها.. لكنه صفعها بأن أخبرها أن جدها قد طلب منه الإطمئنان عليهم لأنه مشغول جداً.. و أنه آسف لإزعاجها..

أقفلت الهاتف و هي تستشيط غضباً و غيظاً..

و أصرت أن تنتقم منه لأنه يعلم تماماً ما يفعله صوته بها و يصر أن يعاقبها بهذا التجاهل الذي يمارسه عليها..

قامت لتشرب كأس ماء فسمعت محجوب يتحدث لباقي طاقم الفندق عنها و أنه قد أُعجب بها و شدته و أنه سيفعل ما بوسعه لإسقاطها في شباكه رغم أنها تبدو صعبة المنال..

توقفت الكأس بين يدها و فمها و لمعت في ذهنها فكرة جهنمية..

أمضوا الظهيرة على ظهر قارب ربانه عجوز متكسر العربية.. و كان أوهاج في صحبتهم هذه المرة.. فساعدهم في فهم توجيهات الرجل و حديثه..

عادوا من أجل وجبة الغداء و بعدها جمع الطاقم متاع الرحلة و يمموا شطر الفندق..

كان يوماً استثنائيّاً بحق و يعود ذلك لمجهود ندى و طاقمها المميز و تجهيزاتهم المكتملة..

أومأت ندى بعين الرضا عن تقييم عزة لأداء اليوم الأول..

و أرجو أن تبلغي محجوب عظيم إمتناني لصحبته الممتعة..

و نظرت بطرف عينها لطارق الذي امتعض فجأة و تغيير لون وجهه و احتدت نظرته.. حتى كادت تثقب الفراغ أمامه..

ردت ندى أنه من دواعي سرورها خدمتهم و انصرفت..

لقد دفعت لهم تكلفة رحلة تضم عشرة أشخاص و قد كنتما شخصين.. يجب أن تكون الخدمة فوق الإمتياز..

عقب طارق .. فرقص قلبها غبطة.. و أردف ..

أظن أنك أذكى من أن تخصي أحد أفراد الطاقم بالشكر دون الباقين.. لأن ذلك ربما انتقص من جهدهم..

و أستأذن و انصرف..

تبعته بنظرة المنتصر..

و ذهب الجميع لغرفهم بعد يوم متعب و مضنٍ.. على أن يحمل الغد مشواراً آخر لهم جميعاً..

نهض الجميع باكراً و توجهوا لبهو الفندق و أحتسوا أقداح الشاي في مقهاه و تناولوا معها بعض أنواع المعجنات و الكعك..

حضر طارق متأخراً بعض الشيء عما أعتاده.. و لاحظت عزة أن جدها لم يتهيأ للذهاب..

حيث أنه يرتدي جلابية بيضاء و يعتمر طاقية الأنصار تلك و يجلس متكاسلاً على المقعد..

فهمست إليه:

هل أنت بخير؟؟ هل تشعر بأي تعب؟؟

طمأنها أنه على ما يرام و ربت على كتفها قائلاً .. أن طارق اليوم نقل بعض أوراق العمل ليناقشاها هنا بعيداً عن الأعين..  و حتى تتم تصفية الشركة و أصولها بسرية تامة .. خوفاً من أن تنخفض قيمة أسهمها في سوق المال المركزية..

حاولت أن تشعر بتحسن.. لكن قلبها يحدثها أن هناك شيء ليس بخير..

فأتصلت على أبيها الذي طمأنها هو الآخر على أمها و عليه و طلب منها أن تستمتع جداً بهذه الرحلة..

أكملت المكالمة و أتصلت على نسرين و سألتها عن سير الإمتحانات و عن الفتيات و حتى عن نفيسة و عثمان..

فأخبرتها بأنهم بأحسن حال و حتى أن ساقها إلتأمت تماماً ،

و أنه ليس عليها أن تقلق..

و فقط هي تشتاقها.. تشتاقها جداً.. و تمنت لها عطلة سعيدة..

حسناً.. يبدو أنني أدمنت القلق.. حدثت نفسها و توجهت للإستقبال حيث وجدت محجوب يجلس على المكتب بدلاً عن ندى..

*صباح الخير محجوب..

فوقف من فوره و قال مبتسماً:

أسعد الله صباحك يا عزة..

كيف أصبحتم اليوم؟؟ أرجو ألا تكون رحلة البارحة قد أرهقتكم؟؟

أجابته عزة.. الحمد لله.. نحن بخير..

لقد كان الأمس بديعاً..

و خرج محجوب من خلف المكتب و بدأ يتحدث معها و طارق يراقب من بعيد كصقر متربص بيربوع.. يتحين الفرصة لينقض عليه و يمزقه أشلاء..

شغله حديث عبد القادر معه قليلاً ، لكنه عاد ينظر ناحية الواقفين هناك..

استمر الشيخ في حديثه لكنه تنبه أن الشخص الذي يجلس معه في كونٍ موازي..

ضحك بخفة و مال بجسده ناحية طارق و ناداه بصوت عميق صارم : طارق..

لا أحتاجك اليوم .. سأقوم بدراسة العروض المقدمة إلينا للإستحواذ على أسهم الشركة في بنك الخرطوم و كذلك سأقارن بين عروض بيع الأصول و في الغد بإذن الله سوف أخبرك بقراري..

لكني أحتاجك في شيء آخر..

*أنا تحت الأمر و الخدمة.. رد عليه طارق..

كل ما أطلبه يا بني أن تذهب اليوم مع الفتاتين في رحلتهما ..

أعتقد أنها لإحدى مناطق الغطس.. و كما تعلم فهذه الأمور و برغم تواجد المختصين تجعلني متوتراً و أفضل لو كنتُ معهما لأطمئن..

و كما ترى فأنا أمامي عمل كثير و حتى يرتاح بالي.. أرجو أن تكون هناك معهم..

أُسقط في يد طارق.. هو لا يستطيع رفض رجاء عبد القادر لإعتبارات كثيرة أقلها أنه يستأمنه على بناته..

و في المقابل سوف يقضي اليوم بأكمله مع عزة و هو لا يحتاج ما ينكأ جرحه..

يكفيه أنه يشعر كيف أن الهواء الذي يتنفسه صار أخف لأنه يتقاسمه معها..

برغم كل شيء لم يتغير ما في قلبه فحسب ، إنما إزداد..

قَبِل ذلك على مضض..

و إتجه إلى المكان الذي تقف فيه عزة مع محجوب..

*الحمد لله.. لو تعلمين يا عزة كم أود أن أطمئن عليك قبل مماتي يا ابنتي..

و لا أريد لك إلا طارق.. فأنا أدرى الناس به.. غمغم عبد القادر ..

*يبدو أن السيد طارق سوف يرافقنا اليوم..

قالها محجوب بضيق واضح ، جعل عزة تلتفت نحو طارق الذي يشد خطواته بإتجاهها..

و مع كل خطوة يعلو رتم نبض قلبها.. حتى صار في إذنها صوت طبلتين تتناغمان إيقاعاً..

كل خطوة تقربه منها .. تجعلها تفقد ثقتها في أنها ستقوى تضبط ذاك الإيقاع..

وصل إلى مكتب الإستقبال و ألقى تحية مقتضبة على محجوب و طلب منه تزويده بملخص لبرنامج اليوم..

تناول محجوب منشوراً من درج المكتب الذي عاد إليه بعد إقتراب طارق منه.. فقد لمح في عينه شيئاً يفهمه الرجال جيداً فيما بينهم..

فحواه.. إنها لي ..

إياك أن تجرؤ أن تفكر فيها..

و لكنه في ذات الوقت أضمر في نفسه أن من حقه المنافسة.. حتى لو كانت المقارنة بينهما ترجح كفة الميزان لطارق..

فهو أيضاً لا يقل عنه وسامة بل يزيد.. و كما أنه وصله حديث عزة لندى بالأمس..

و هذه قد تكون أول الغيث الذي يريده أن فيضاناً كالقاش يجرف قلبها ..

*هذا هو البرنامج لهذا اليوم أستاذ طارق.. و هو عبارة عن رحلة إلى شمال المدينة..

لأننا قد بالأمس قصدنا الجنوب منها..

في تلك المنطقة يوجد منتجع البحر الأحمر و قرية عروس و كلاهما مجهزان بإمكانية لركوب القوارب زجاجية القاع التي تتيح رؤية البحر بصورة جيدة ، مع فرص للغوص أيضاً..

لكنني و كما ترى أنتظر تأكيداً للحجز من أحد المكانين ..

و إن تعذر ذلك سوف نذهب لمدينة سواكن التاريخية ..

كان محجوب يقول ذلك و عينه في عين طارق كأنما يتحداه أن هذه منطقتي و  سوف أكون فيها السيد..

و أن حضّر نفسك لي.. للأسف لم يتمكنوا من زيارة البحر في ذلك اليوم نسبة لقوة الرياح و تغير إتجاهها كما أخبرهم مسؤول شركة تنظيم تلك الرحلات رداً على الفاكس الذي بعثوه لحجز القوارب زجاجية القاع..

ظهر الإحباط على وجه عزة بينما ارتسمت ملامح الظفر على طارق.. عليه كله من أخمص قدميه و حتى تلك الشعرة البيضاء التي تعتلي هامته..

يكاد يخاطب ذاك القهر الذي شمل محجوب ، الذي فهم ذلك و بادرهم..

هذا يترك لنا خيار سواكن..

كانت غادة تجلس و تضع يدها على خدها.. و تستمع لهم بقلة صبر..

و ما إن نطق محجوب بكلمة سواكن حتى أنتفضت قائمة..

*أنا لن أذهب لسواكن.. أريد قضاء اليوم مع أبي..

ابتسم محجوب بضيق.. و قال لها: ليس كل ما يقال عن سواكن حقيقي.. فحكايات الجن و العفاريت ما هي إلا نسج من خيال الأهالي و الزوار..

قاطعته عزة..

لا تتحدث إليها بهذا الأسلوب..

و إن كانت لا تريد الذهاب .. فنحن أيضاً لا نود ذلك و إلتفتت لطارق الذي أومأ موافقاً و دواخله تضج فرحة و غبطة..

نستأذن يا أستاذ محجوب.. و عندما تأتي ندى للعمل سنرى ..

ندمت عزة لأنها أفسحت لمحجوب مساحة جعلته يظن أنها حقاً سهلة المنال و أنها تسعى لقضاء الوقت معه..

و قبل أن تتحرك أمسك طارق برسغها و سحبها قبالته بلطف..

رفعت رأسها لترى تلك النظرة التي طالما دكت حصونها و نسفت جبال عنادها..

سنخرج أنا و أنتِ.. و هو ما يزال يركز عينيه على وجهها ، غادة هل ترغبين في المجيء؟؟

*لا أريد.. لدي رغبة عارمة أن أجالس أبي اليوم..

*حسناً.. لا تنتظرونا على الغداء..

و تتابعت خطاه و هي بجانبه تلميذة يأخذها أبوها للفصل في أول يوم للدراسة..

تبعتهما عينا محجوب و الحقد يتأكله..

أعطى بطاقة رصف السيارة لعامل مواقف الفندق و هو ما يزال يمسك برسغها..

استغرب الرجل من المنظر و هزّ رأسه و مضى..

فضحكا .. من عمقهما كما لم يفعلا من زمن و دنت منه فتأبط ذراعها و أنحنى يقبل يدها..

ركبا السيارة التي إنطلقت بخفة كمتزلجة محترفة على حلبة جليد..

تشبث بكفها و وضعها على مغير السرعات و أرخى كفه فوقها..

لم تشعر بأمن و لا طمأنينة كالتي يغمرها به حضوره..

هو ذاك الدرع الذي يمنحها القوة و الرغبة في المضي قدماً..

*شوارع بورتسودان لا تشبه خاصة الخرطوم بتاتاً..

النظافة و التنسيق في كل شيء حتى جلسات القهوة المتناثرة في طول الشارع..

أرادت عزة أن تخرج نفسها من الصمت الذي يثقل الجو..

*هل هذا إنطباعك عن المدينة أو هو حديث قاله محجوب؟؟

سحبت يدها تلقائياً من تحت يده و أحست أن لعبتها قد إنقلبت عليها..

لكنه تلقفها بسرعة و لم تستطع مجابهة قوته فصمتت ..

أنقذها رنين الهاتف ، كانت نسرين ..

*ألو.. نسرين..

الحمد لله.. جميعكم؟؟

قالتها بفرح.. حسناً لديكم مفاجأة عند حضوري..

ليس بعد .. دقيقة..

طارق.. كم سيمكث جدي بعد..

أجاب : ثلاثة أيام على أكثر تقدير..

أجل.. سأفعل..

سأتصل عليكن لاحقاً..

وداعاً..

أغلقت الهاتف و أدخلته في حقيبتها الصغيرة..

*نسرين تسلم عليك..

**سلمها الله من كل شر.. هل انتهت الإمتحانات؟

أجل و قد سلمنّ بحث التخرج اليوم.. و قد أُجِزنّ جميعهن الحمد لله..

**مبروك لهن و لكِ.. جهدك في توفير البيئة الملائمة لهن ساعدتهن في هذا الإنجاز..

لم تعقب..

هدأ من سرعة السيارة و أوقفها بجانب الطريق..

و إلتفت إليها بكامل جسده..

عزة حتى متى سنستمر على هذا المنوال؟؟

لا تجيبي.. أود في هذه اللحظة أن أتكلم فقط و أرجو حقاً أن تسمعي دونما مقاطعة..

أود أن أخبرك بكل ما يعتمل في داخلي.. ما أرقني ليالي و أشعلني و جعلني أقسم ألا أعود لكِ أخرى..

و لكنك و كما ترين.. و حرّك يديه في استسلام..

ها أنا ذا .. بين يديك.. أتسولك حبك و أنت لا تكترثين..

تغازلين رجلاً غريباً أمامي..

حاولت أن تنطق لكنه استوقفها .. أعلم أنك كنت تحاولين إثارة غيرتي..

لكن ألم يأن لك أن تعلمي أنني أعرف أن قلبك هذا الذي يسكن صدرك لن يخفق لسوايّ..

لأن هذا النابض في صدري لن تملأه سواكِ..

دمعت عيناه..

و لكني أستغرب لماذا تحاولين إبعادي عنك..

لا أكذب عليك.. في آخر اجتماعاتنا في الشركة و بأسلوبك المتعجرف ذاك.. إنتابني الشك لوهلة..

هل كل هذه الأفعال المقصود منها أن يأتي مني قطع علاقتنا.. حتى لا تتحملي اللوم..

لأنني أعرفكِ حبيبتي..

أخفضت بصرها و قد أغرورقت عيناها بالدموع..

في هذه اللحظة.. و هنا.. و أمام هذا البحر..

أنا أحبكِ .. أكثر من إتساعه.. أحبكِ .. أعمق من أعمق نقطة في قاعه..

و حياتي بدونك بلا نكهة و لا لون..

هل ترفضين رجلاً يعشقك حتى الموت؟؟

هل هناك ما تخافينه فيّ؟؟

هل مستواك لا يتوافق مع مستواي؟؟

أنا منذ رأيتك ذاك اليوم آليت على نفسي أن أرتقي بذاتي حتى أصير مناسباً لأرتبط بك..

الآن يمكنك الإجابة و للمرة الأخيرة..

عزة محي الدين.. هل تقبلين بي زوجاً و شريك عمر؟؟

هلا تتفضلين عليّ و تكوني أماً لأبنائي.. هل تودين أن نشيب و نشيخ معاً؟؟

كانت عزة ممزقة ما بين أن تخبره أنها لا تصلح أن تكون كل هذه الأحلام.. هي لا تستحق أن تشوه هذه الأمنيات الجميلة..

لكنها تحبه.. تحبه لدرجة تجعل التنفس مستحيلاً بدونه..

و أن حياتها بدونه أيضاً بلا نكهة أو لون.. أو حياة..

ماذا تفعل أمام كل هذه المشاعر المتناحرة في عقلها..

نظرت إليه من بين دموعها..

فوجدت الجدية ترتسم في جبينه.. و عيناه تستجديانها أن تقول نعم..

*طارق.. أنا..

**نعم أو لا يا عزة..

احتوت كفيه بين يدها و قالتها: نعم يا حبيب عمري.. نعم..

تلك الشجرة التي توقفت تحت ظلها السيارة..

كانت تصيخ السمع.. بكل كل وريقاتها التي تتراقص بمرحٍ مع نسمات هذا الصباح الجميل.. أغصانها حاولت هي الأخرى أن تتمايل لعلها تلتقط بعض كلماتهما..

و عندما قالت نعم.. عندما قالتها صمتت الحركة .. كتمت الرياح أنفاسها بين جنبات السكون..

صار الكون محصوراً بينهما و بين تلك الشجرة.. و البحر هناك ينتظر في ترقب..

فبعثت له الشجرة برقصة كانت إشارتها .. لقد قالت : نعم..

و في معية ذلك السكون .. تصنم طارق.. بردت أطرافه و تصبب جبينه عرقاً..

بدى له الأمر كحلمٍ .. أو كخيال بعيد.. كسراب..

كان يودها أن تناديه .. أن يترسب صوتها في مسامعه..

دنت منه قليلاً فغزاه عطرها..

أخذ يرتجف.. و لم ينطق بكلمة واحدة..

أمسكت بيده فأرخى أهدابه و تنهد .. كأنه أهدي عمراً جديداً ليعيشه لها و بها..

ابتسمت له في حنان..

*طارق..

كانت تلك الكلمة السحرية..

و عادت الحياة لتدب في أطرافه من جديد.. لكنه فجأة أحس أنه متعب حقاً..

*يا سيدة أيام طارق.. هل ترين ماذا تفعلين في رجل يهابه أرباب أعمال يكبرونك بألف عام؟

ضحكت قليلاً و تحسست جبينه الذي ما زال يتفصد عرقاً ، و سألته بقلق..

*طارق أنت مصاب بحمى..

** لا أعرف بأمر الحمى و لكني متعب بشكل سيء و لا أشعر بأن جسدي على ما يرام..

كنت أنوي أخذك لمطعم في نهاية اللسان البحري..

يملكه صديقي و لم يفتتح بشكل رسمي بعد..

فيه قاعة قاعها زجاجي.. حتى أعوض عليك عن إلغاء رحلة اليوم..

و لكن يبدو أنك من سيعيدنا للفندق..

تبادلا مقاعدهما و تحركت السيارة .. هذه المرة كان الإحساس مختلفاً..

فقد سلمت فيالقها و تاج عرشها له.. و صارت مواطنة في مدائن عشقه..

ليس لديها هوية غير إنتماء له تفتخر به..

و عند إشارة مرور حمراء ظهر عجوز متسول طرق جانبها ففتحت حقيبتها لتعطيه شيئاً إلا أن طارق سبقها و أعطاه مبلغاً و طلب منه الدعاء لها..

ضحك العجوز و أجزل لهما بالدعاء معاً كما أجزل له طارق العطاء..

أرى أنك استعدت صحتك .. لقد قفزت من مقعدك حرفيّاً..

أرتفع حاجباه بشقاوة و قال لها: أنا منذ تلك اللحظة التي قلت لي فيها نعم.. صرت جني مصباح علاء الدين الخاص بكِ..

الفرق بيننا أنكِ تملكين ثلاث أمنيات لا متناهية .. و لن تضطري لبذل مجهود في أي شيء أستطيع أن أتولاه عنكِ..

**طارق.. أنت تعلم أنني معتدة تماماً بأشيائي.. و أني أكره الإتكالية و أن ينجز غيري عملي أو يُحجم دوري كأنثى عاملة و قادرة و...

و لم يسمح لها بقول المزيد..

فقد وضع يده على شفتيها..

أعلم.. أعلم.. و أعلم..

لكن أليس من حقي أن أمارس بعض أمنياتي و أكون ذلك السوداني الطفرة؟؟

** يحق لك..

أوقفت السيارة أمام الفندق و نزلت ثم ساعدته ليتمكن من النزول..

ارتفعت درجة حرارته بشكل سريع مما استدعى أن يقوموا بطلب طبيب ليقيم حالته و إن كانت تستدعي نقله للمشفى..

استبد القلق بعزة لا سيما و قد تأخر الطبيب في غرفة طارق.. و لم تلبث إلا قليلاً حتى خرج عليها عبد القادر و قد لاحظ قلقها ..

فبادرها.. مبروك..

استغربت كلمته و هي تنتظر بفارغ الصبر أن يطمأنها عليه.. فإذا به يقول لها مبروك..

ضحك بعلو صوته حتى أصابته الكحة ..

*الحمد لله طارق بخير.. أعطاه الطبيب مسكناً و هو يراقبه الآن ليرى مفعوله ، لأنه لم يستجب لإبرة المنوم الأولى و بدأ يحكي كل ما حصل في مشواركم الصغير ذلك..

و أخبرنا أنك وافقتِ.. لحظة ما كانت الكلمة؟؟

أجل.. قالت نعم.. عزة قالت نعم..

و ضحك أخرى و قام بضمها إليه بعطف..

مبارك يا صغيرتي.. فهذه أول أمنياتي لك و قد تحققت..

و سأقيم لكما حفل خطوبة يكون حدث العاصمة كلها..

بعد أن اطمئنت عزة على طارق ذهبت إلى غرفتها ، دخلت و أغلقت الباب خلفها..

و وفقت قبالته تنظر إليه بعته..

ماذا فعلتُ.. ما الذي تجرأتُ و قبلته..

أُسقط في يدها..

حملتها قدماها بصعوبة نحو أقرب كرسي ، بينما قبل ساعة كانتا جناحي فراشة تطيران بها سعادة..

و بدون أن تشعر وجدت نفسها تبكي بحرقة..

احتاجت من يضمها لتبكي .. أرادت من تحكيه وجع روحها علّها ترتاح..

عاد بها تسلسل الأحداث لصبيحة اليوم و وجه طارق أمامها.. نظرته.. توسله.. محبته التي تكاد تقفز من كل ملامحه..

فرحته التي لم يتسطع أن يتحملها ؛ فمَرِض..

و لكن ماذا لو أخبرته بحقيقتها..

هل سوف يتحمل بحر حبه لها هذه النقطة القذرة و تذوب فيه ، أم أنها سوف تلوث كامله و لن يقدر أن يتقبلها..

فيلفظها..

زادت حدة بكائها و تضاربت الأفكار في رأسها ..

و فجأة رنّ هاتف الغرفة.. قاطعاً عليها أنفاسها.. نظرت إليه ملياً و لم تكلف نفسها عناء الرد .. حتى توقف عن الرنين..

أحست بوحدتها.. أحست بقذارتها تغطيها و تفصلها عن عالم الناس الطبيعي..

لماذا أختاروا لها هذا المصير.. أما كان من الأفضل أن تجهضها أمها؟؟ لماذا احتفظوا بها!!

هل لتكون لوفاء شاهداً على لحظة الإنتهاك و قلة الحيلة و الضعف.. و عقاباً لعبد القادر الذي يراها تكبر أمام عينيه ، فتعظم أمامه نتيجة تشوهه و شذوذه أن يعتدي على ابنته..

تكومت داخل نفسها و استمرت في نوبة البكاء..

سمعت من خلال تنهداتها باب الغرفة يطرق.. و لم تعر الأمر بالاً.. فهي لم ترغب في أن يقطع أحدٌ جلدها لنفسها و تعذيبها لها.. إلا أن الطرق كان مُلِحاً هذه المرة..

فمسحت على مضضٍ أدمعها و قامت تفتح الباب..

فوجدته أحد الصبيان العاملين في الفندق.. يخبرها أن عليها النزول للإستقبال فوراً..

سألته عن السبب فأجابها أنه لا يعلم شيئاً سوى أنه طُلِب إليه أن يستدعيها..

أخبرته أنها ستزل حالاً..

غسلت عن وجهها أثر الدموع و وضعت بعض المكياج الخفيف و استقلت المصعد للدور الأرضي..

فوجئت بغادة تجلس في البهو  و هي تهتز جيئة و ذهاباً و نظرات تائهة تصدر عن عينيها..

هتفت باسمها.. فهرعت غادة صوبها..

و أخبرتها أن عبد القادر تعب فجأة و أن الطبيب الذي كان يراقب طارق قد أصر أن يذهب للمستشفى و أنها اتصلت عليها على الهاتف الجوال فلم تجب.. و على هاتف الغرفة كذلك..

فلم يكن منها إلا أن أرسلت ذاك الصبي..

سألت نفسها كم بقيت في الغرفة تبكي يا ترى؟؟

حاولت أن تستوعب كل هذه الأحداث .. أن تزدرد مرارة التفكير فيما لو حدث شيء لعبد القادر.. و هي منذ وقت قليل كانت تلعنه و تود لو تواجهه بمعرفتها للحقيقة..

و الآن هو .. لا تدري أين هو!!

أخذت غادة من يدها و تماسكت قليلاً و سألت موظف الإستقبال عن المستشفى التي أُخِذ لها جدها..

فأعطاها العنوان كاملاً.. خرجت من الفندق و نسيت أنها لا تملك سيارة..

فدخلت أخرى مسرعة و كادت أن تصطدم بشخص تبين أنه أوهاج فطلبت منه أن يصحبهم للمستشفى.. فقام بطلب سيارة من خدمات الفندق و بعد أن عبأت الأوراق اللازمة كانت هي و غادة تنطلقان للمشفى حيث كان أوهاج يعرف تقريباً كل موظفيها بداية من حارس الأمن مروراً بموظفات الإستقبال و طاقم التمريض و حتى الطبيب الذي أُوكِلت إليه مهمة ملاحظة عبد القادر..

جلس الطبيب إليهم و أخبرهم بسوء حالة عبد القادر الصحية و أنه حالياً يخضع لغسيل دموي..

دارت الدنيا بعزة.. و لم تدري كيف تتصرف ..

هل تتصل بأبيها؟؟ و لكن ما الذي يستطيع عمله و هو في الخرطوم..

و طارق طريح الفراش ..

لم يكن هناك غيرها.. سوف تثبت لنفسها أنها من فولاذ..

ستفصل نفسها عن ذاتها و تتعامل مع كل أمرٍ على حدة..

أخذت نفساً عميقاً و سألت الطبيب عن إمكانية رؤية جدها.. فوافق..

و بدأت تستفسر عن مدى سوء الحالة و أنها تعلم أنه يجري غسيلاً دورياً في الخرطوم..

و هل يستطيع جسده تحمل  السفر غداً أو بعد غد على أبعد تقدير ..

فأجابها أن نتائج هذه الجلسة سوف تحدد تلك الإمكانية..

انهارت غادة و هي تسمع كل تلك المعلومات للمرة الأولى..

و ألتصقت بعزة و همست لها:

كان قلبي يعلم أن أبي ليس على ما يرام..

تعلمين يا عزة لو أن أبي مات لا قدر الله.. فتنتهي حياتي تماماً..

و استرسلت..

هل تعلمين.. منذ صغرنا أنا و وفاء.. كانت وفاء المفضلة لدى أمي رحمها و كنت أنا ابنة أبي المفضلة..

كان لا يفرق بيننا كما تفعل أمي لكنه دائماً ما يترك لي قطع حلوى إضافية بجانب وسادتي..

و أرتجفت.. لقد تغير فجأة قبل ولادتك بأشهر..

هنا شعرت عزة بنصل حاد يخترق قلبها..

أسمع بعض خدم البيت يتهامسون أنني مجنونة أو أن بي مسّ.. و أنا لست كذلك..

هل تصدقينني يا عزة..

وافقتها بإبتسامة حزينة..

فتركت غادة رأسها يميل على كتف عزة ..

و أكملت..

أذكر أنني ذهبت مع أبي للمزرعة حيث كان ينوي مفاجئتي بالمهر الذي أشتراه لي..

إلا أنه أمرني ألا أنزل من السيارة..

و دخل منزل الحارس أمام الإسطبل و فجأة سمعته هائجاً على غير ما اعتدت.. و صوته صار عاليا حتى جاء من في بيت المزرعة جميعاً ..

و بعد قليل جاء و هو يسحب وفاء من يدها و هي تلف نفسها بخرقة بالية.. أظنها ملاءة سرير أو ما يشبهها..

لا أستطيع تبيان ذلك.. و كانت تبكي و وجهها محمر كأن أبي قد قام بصفعها ألف مرة على خدودها..

جلست في مقعد السيارة الخلفي و أنكفأت و لم ترد على كل أسئلتي التي أردتُ منها أن أطمئن عليها فقط..

صفق أبي باب السيارة بشدة جعلتني أغلق أذني و أخاف بشدة..

و عاد أخرى للمكان الذي أخرج منه وفاء و هذه المرة كان يحمل مسدسه..

فوجدت نفسي أفتح باب السيارة و أركض وراءه .. و قبل أن يصوبه على أحدهم كنت قد تعلقت بيده.. فخرجت رصاصة .. و استقرت في الفرس التي يكسب بها سباقات الخيل دائماً و أطبق عليه عمال المزرعة ليأخذوا منه السلاح..

و هذا آخر ما أذكره..

و أمضيت حياتي أحاول نسيان هذه الحادثة.. و أتجنب رؤية الإسطبل .. و لم أجد الجرأة لأسأل ماذا حدث يومها.. و لم أكن لأسأل وفاء حتى لا أذكرها بصفعات أبي لها و ليس أبي لأني بتّ أخافه..

لم يكن هناك غير محي الدين..

و قاطعتها عزة.. كيف لأبي أن يجيبك؟؟

ردت غادة : لقد كانت سيارته تقف هناك..

و قد لمحته و نحن نغادر..

حاولت عزة أن تجمع قطع هذا اللغز..

هل يمكن أن يصور عقل غادة لها أحداثاً لا تمت للواقع بصلة..

هل يعقل أن تكون هذه هي الحقيقة..

مادت الأرض تحت قدميها و أحست بالغثيان و تكشفت الحقيقة لها..

خلعت كل أقنعتها و ألقتها أمامها..

و لكن.. أبي!!

لماذا لا تستطيع أن تصدق أن أبوها هو من كساها ثوب الذل الذي ترتديه..

لماذا لا يستوعب عقلها أن عبد القادر برئ من ذنبها كذئب الصديّق ..

هل تقوى الأكاذيب تنتصر على هذه الحقيقة..

عزة.. انتشلها صوت طارق من صراعها..

رفعت عينيها له و سقطت..

سقطت في بئر عميق .. لا نهاية له.. تسمع الأصوات بعيدة كأنها تمكث في قاع سحيق و هم في السماء الأولى..

أفاقت عزة بعد فترة لتجد نفسها منومة في غرفة مشتركة يفصلها ستار أزرق شبه شفاف عن المريض الآخر ، الذي احتشد لديه عدة أطباء يتحدثون و يناقشون نتائج التحاليل بعد الغسيل ..

لم تستطع أن تستبين كنه الحديث لذلك للطنين الذي يملأ رأسها..

كانت غادة تنام داخل مقعد بجانب سريرها ، فقد غلبها النعاس و أنهكها التعب..

يااااه كم تبدو بريئة و جميلة.

خالتها الصغيرة.. التي لم تعتبرها غير أخت كبيرة و صديقة عزيزة.. صحيح أنها كانت مضطربة في كثير من الأحيان، لكنها لم تقدم  على أذيتها أبداً..

لم تكن تتشاجر معها أو تتسبب بأي مشاكل..

في المجمل كانت في حالها.. تتقوقع داخل نفسها ؛ سواء في غرفتها أو ركنها في حديقة الفيلا أو حتى في منزل المزرعة..

هل يمكن أن يكون سر عذاب عزة طوال هذه السنوات مخبأً في ذاكرة غادة؟

تململت عزة قليلاً في فراشها ، فأستيقظت غادة.. و قامت إليها ..

*هل أنتِ بخير؟؟

سألتها غادة و لم تنتظر الجواب و نادت بصوت مرتفع:

طارق.. طارق ..

أزاح طارق الستار الفاصل و أطل برأسه..

حمدا لله على السلامة..

لقد أقلقتِ الجميع عليكِ..

و أزاح الستار بالكامل لتجد أن المريض الذي يرقد بجانبها هو جدها.. فحاولت أن تقوم إليه لكنها لم تستطع.. و نسيت أن محلول التغذية ما زال في ذراعها ، فأنفجر وريدها مما جعل طارق يسرع إليها و يغلقه و ينادي بأعلى صوته بحثاً عن أحد ممرضي القسم..

و لم تمضِ ثانية حتى حضرت الممرضة..

طلبت عزة أن تزيله .. فهي تشعر أنها أحسن حالاً..

راجعت الممرضة ملفها المعلق على السرير و قامت بإزالته..

و قالت لطارق الذي أبدى اعتراضه .. أن هذا مغذي السكر الثالث.. و قد تحسنت بفعل محلولي الملح السابقين..

و عاد ضغطها طبيعياً و كذلك معدل نبض القلب.. كما يظهر في شاشة الجهاز..

ساعدها على النهوض و أزاح الستار بالكامل..

فوجدت ذلك الكهل السبعيني يرقد بسلام.. يعلو صدره و ينخفض برتابة مطمئنة..

فطبعت قبلة على جبينه .. تأوه على إثرها لكنه لم يحرك ساكناً بعدها..

عاد طارق بعزة نحو سريرها و سحب كرسيّاً و جلس قبالتها و سألها جاداً..

*كيف أمكنك تحمل كل هذا وحدك؟؟

كنت تعلمين بمرضه منذ فترة بل و تذهبين معه للمركز و لم تخبري أحداً!!

لا أريد أن أشعر بكل ذاك الضغط النفسي الذي أختبرته..

و تنهدت..

**أنت لا تفهم يا طارق ما الذي كانت عليه حالتي..

كنت مقسمة بين الإجتماعات في الشركة و مرض جدي و وعدي إياه بأن يبقى سراً..

الفتيات و واجبي الذي إلتزمت به تجاههن..

أمي من ناحية أخرى.. و أنت..

عند هذه الأنتْ اختفت كل العوالم.. كأنهما نُقلا لبعد موازٍ للذي كانا فيه..

قام طارق من فوره و أحتضنها .. غمرها و كأنها ابنته الصغرى تشتكيه نفاذ حلواها أو ضياع لعبتها المفضلة..

أحتواها بكل ذلك الحنان الذي  يختصر كلمات الحب و المودة.. حنان يطفئ نار المواجع و يطبب جراحات الروح..

شعرت و هي بأحضانه بتفاهة هذه الحياة بدونه فيها..

و بضآلة كل مصاب و هو بجانبها..

و أن نصاب عمرها اكتمل و هو يقاسمها من الآن تفاصيله ..

في تلك اللحظة كانا يحتاجان شاعراً ليكتبهما قصيدة..

و رساماً لعله يختزل جمهرة كل تلك المشاعر في لوحة..

فأنا مهما اجتهدت فلن أوفي تلك اللحظات حقها.. إلا لو استعرت من قوامييس الجن أبجدية جديدة..

أمضى الشيخ عبد القادر ليلته تلك في المشفى و صَحِب طارق عزة و غادة للفندق..

و عاد مرة أخرى ليمكث معه للصباح حيث تقرر أن يسافروا للخرطوم أمسية اليوم التالي..

في غمرة إنشغال عزة بكل تلك الأشياء غفلت أن تسأل غادة عن باقي القصة..

لكنها آثرت أن تتركها في الوقت الراهن، فلا أحد يعلم ما يعتمل في داخلها.. و كيف يتعامل عقلها مع كل ما حدث..

لاحظت عزة أنها صامتة منذ أن وقفت بجانب باب غرفة عبدالقادر و هي تستودعه ربها.. فهو آخر من تتنفسه سبب حياة..

*غادة.. نادتها عزة..

فألتفتت نحوها و الصمت يصر ألا يفارقها..

صمت أمتزج بخوف و قلق و فزع..

أنا هنا عزيزتي.. لا تخافي فجدي رجل قوي و الحمد لله ..

و هو في أيدٍ أمينة.. سواء هنا أو في الخرطوم..

** أنا أعلم أنه قوي.. لكني أخشى ألا يتحمل جسده .. و تدثرت بغطاء السرير.. سأنام..

حتى نتمكن صباحاً أن نذهب للمستشفى..

تصبحين على خير..

و أنت خير كل هذه الدنيا..

و عندما تأكدت عزة من خلود غادة للنوم..

أخذت هاتفها و خرجت للشرفة و أرسلت لنسرين رسالة مفادها أنهم سوف يعودون للخرطوم مساء الغد و أن هناك مستجدات لا تستطيع أن تذكرها في رسالتها.. و لا يصلح أن تحكيها لغيرها..

و أخبرتها أنها ستتصل بها غداً..

و عندما همت بالدخول وردها اتصال من طارق..

اتكأت على سياج الشرفة و تحدثت إليه..

كانت سلطنة السماء في أوج عظتمها ، فكوكبة الجبار تزدان بلونها الأزرق و الشعرى اليمانية تطرز عباءة الليل الدهماء..

و القمر يتوسط اللقيا بين الزهرة الأليقة و المريخ المحمر المشع..

و شباط يرسل بعض نسماته الباردة.. يبعثر سواد شعرها على كتفيها الصغيرين..

تحدثا لوقت متأخر تلك الليلة..

لهفته التي عبرت عن شدة حبه كانت برداً و سلاماً عليها..

و علمت أنه لن يفرقهما شيء في هذه الحياة أو التي تليها..

نامت قريرة العين ..و برغم أنها كانت ساعات نوم قليلة إلا أنها أستيقظت باكراً و بنشاط..

أيقظت غادة و تجهزتا للذهاب للمستشفى..

جميل ما يفعله شباط بشوارع بورتسودان .. فهو يلثم أرصفتها بنسمات هواء عليلة ،  و يختبئ بين أجنحة النوارس التي تحف السماء و تحيّ هذا الصباح البديع..

تعبث بثوب سيدة تمسك بيديها شقيتان تتشاجران أيهما تمسك يمينها.. لكنها تضحك و تبادلهم في يمناها الدور ..

و جمهور طلبة يبدو في وجوههم أن ترحيلهم تأخر أو فاتهم.. و لكنهم أيضاً يضحكون..

يالسحر شباط..

وصلت السيارة للمستشفى و بمجرد أن ترجلت عزة منها.. رأته واقفاً هناك..

بجانب مجموعة مشذبة من أشجار الأركويت..

يتمطى و يستقبل أشعة الشمس بذراعين مفتوحتين..

وقف هناك بقامته الفارعة.. و جلابيته بلون كريما الكارميل .. و طاقيته تحكم السيطرة على شعره الأشعث الذي أبى إلا أن يخرج من بينها..

يحك ذقنه و يده تمتد لباقي وجهه بكسل..

يحمل كوباً من شاي الحليب ..

يقربه لفمه فيرشف منه و يرفعه عالياً و ينظر من خلاله .. كمنظار قرصان يحاول أن يستبين عن بعد سفينةً أو جزيرة ما..

إلتفت ناحيتهم عندما نادته غادة..

استدار .. و سقطت أشعة الشمس على وجهه.. تمنت عزة أن تخلع عنه نظارته لعلها ترى لون عينيه تحت جبروت هذا الألق الذي يكتسيه..

ضاءت ملامحه بإبتسامة عذبة.. شعرت أنها تريد أن تعيش في نعيمها أبداً..

اقترب منهما و كل خطوة منه نحوها جعلتها تتوتر أكثر من سابقتها.. و نبض قلبها يتملص من رتمه .. يتحداها أن تضبط إيقاعه..

فأخفضت بصرها و أخذت نفساً عميقاً لتهدأ بعض الشيء..

و لكن من سوء حظها.. كان طارق قد أقترب منها أكثر ؛ فتسلل عطره لأنفها و استقر في شهيقها ذاك..

فأزدادت توتراً و تغضنت وجنتاها خجلاً..

لاحظ طارق اضطرابها.. فسلم عليها بقبضة قوية جعلتها تهتز كمن لسعته نحلة..

و أمسكها بيسراه بينما صافح غادة.. و دخلوا المستشفى و هو ما يزال ممسكاً بها..

حدثهما عن استقرار حالة الشيخ عبد القادر و أن الطبيب يفضل أن يغادر إلى الخرطوم فقط من قبيل المتابعة اللصيقة مع طبيبه المعالج..

طرق باب الغرفة.. فجاء صوت ضعيف تفضل..

دلفت غادة مسرعة نحو أبيها ؛ بينما أفلت طارق يد عزة لتلحق بها .. ثم دخل و أغلق الباب خلفه..

دار بينهم حديث ودود.. تخللته بعض الضحكات و هم يروون ما جرى في بورتسودان من أحداث..

و بعد صمت قصير.. قطعه الشيخ يخاطب غادة..

أريدك أن تتأكدي أنني بخير.. و أرجو أن تتذكري هذه الأيام بجمالها و أن تنسي وعكتي هذه.. فهي صدقاً ليست بشيء يذكر..

هزت رأسها موافقة ..

غريبة هي الذاكرة.. تستعيد ما تشاء و تحجب عنا ما تشاء..

و كأنها جهاز وضعه الله سبحانه و تعالى في عقولنا .. يحملنا على السعادة باسترجاع الجميل من الأشياء و ينسينا ما يجلب لنا الآلام..

لن تنتظر حتى تذهب للخرطوم.. هكذا قررت عزة..

سوف تسأل غادة عن أحداث ذلك اليوم.. يجب أن تفعل ذلك لتواجه أهلها قبل أن ترتبط رسمياً بطارق..

النداء النهائي و الأخير للسادة و السيدات المسافرين على رحلة بدر للطيران رقم ١٦٠ المتجهة بمشيئة الله إلى مطار الخرطوم الدولي..

نرجو منكم سرعة التوجه إلى البوابة إثنان استعداداً لركوب الطائرة..

كانوا آخر من دخل الطائرة ، جلست غادة بجانب أبيها بينما جلس طارق و عزة في المقاعد المحاذية لهم..

رحب المضيف بركاب الطائرة بالإنابة عن قائدها و طاقمها..

ثم شرح وسائل السلامة و إجراءات الطوارئ ثم طلب من الجميع ربط الأحزمة و إعادة المقاعد لوضعها الطبيعي و إغلاق الطاولات..

بسم الله مجراها و مرساها..

و أقلعت الطائرة..

شقت عباب السماء مودعة عروس البحر.. و ملوحة لسلسلة جبال الساحل..

ارتفعت رويداً رويداً.. ثم أطفأت إشارة ربط المقاعد.. فقامت عزة من توها و مالت على جدها الذي يفصله عنها الممر فقط..

سألته كيف يشعر.. فأجاب أنه على ما يرام..

لم تهتم بإجابته.. فطلبت من غادة أن تبادلها المقعد لدقائق..

جلست بجانبه و أحتضنت ذراعه.. و أخذت تنظر إليه..

فقال لها: من أين ورثت هذا العناد؟؟

أشارت إليه فضحك ..

حقاً أنا بخير.. صحيح أني أشعر بشيء من الوهن و جسدي متعب.. لكني حقاً بخير..

لا عليك.. تجاذبا أطراف الحديث.. حتى جاء صوت المضيفة أن على الركاب الجلوس في مقاعدهم و ربط أحزمة المقاعد استعداداً للهبوط في مطار الخرطوم ..

عادت إلى مقعدها..

همس طارق لها.. لقد أنقصت هذه الساعة من عمري..

اقتربت منه و  قرصته حتى صدرت عنه آهة مكتومة..

تصنّع الألم و هو يمسح على ذراعه..

فهمست له.. لا تكرر ما قلته مرة أخرى..

فأنا مستعدة أن أعطيك ساعات عمري راضية..

و أشرقت على وجههما ابتسامة رضا..

كان في استقبالهم محي الدين و عثمان..

ساعدوا الشيخ في ركوب السيارة و توجهوا به إلى مركز الدكتورة سلمى .. حيث كانت في إنتظارهم طبيبته و طاقم من كادر المركز الطبي..

راجعوا تقرير أطباء بورتسودان الطبية و قاموا أيضاً بطلب تحاليل جديدة..

و عند نهاية ذلك كانت الساعة تقارب العاشرة مساء..

استبد التعب بغادة و خارت قواها ، لكنها تماسكت رغبة منها في الإطمئنان على أبيها..

و لم يمض وقت حتى سمحت د/سهى للشيخ أن يذهب لبيته ليرتاح على أن يأتي صبيحة الغد لإستكمال التحاليل..

حيث يلزم بعضها الصيام..

انصرف الجميع متوجهين للفيلا، إلا أن طارق اعتذر عن الذهاب معهم.. فعليه الذهاب لمنزله .. فأمه بإنتظاره ودعه الجميع بمن فيهم عزة.. التي تبادلت معه حديثاً سريّاً لا يفقهه إلا قلب يعيش حالة السُكْر التي يختبرانها و كأس العشق تصيبهم بالثمالة..

استقبلت وفاء أبيها في بهو الفيلا و هي تتوكأ على عصاها.. اسبشر وجهه عند مرآها تقف على قدميها من جديد..

جلسوا في البهو قليلاً حتى يستجمع الرجل أنفاسه.. ثم ساعده سعيد و عثمان ليصعد لغرفته.. بينما أمسك محي الدين بيد وفاء و هي تصعد السلم درجة درجة..

سبقتهم غادة إلى غرفتها من شدة التعب..

بقيت عزة في البهو تتلاعب في هاتفها.. حتى اهتز في يدها.. فرفعته و وجدت نسرين تتصل بها..

ألو.. مرحبا مرحبا..

نعم وصلت الرحلة في موعدها.. لكن اضطررنا أن نذهب من حيننا إلى المستشفى.. و حكت لها التفاصيل و تواعدتا على اللقاء غداً..

استيقظت عزة على جلبة و ضجة في البيت..

فتحت نافذة الغرفة التي تطل على الحديقة .. فوجدت عدداً من البهائم مذبوحة أمام باب الفيلا و جموع من الناس تأتي و تروح رافعة أياديها بما يبدو كالدعاء.. و جدها يجلس على كرسي و بيده عصا الأبنوس التي يفتخر بإمتلاكها.. فهي هدية من أحد ملوك  الدينكا و هي من أكبر و أعرق قبائلنا في جنوبنا الحبيب المبتور..

و يقف بجانبه محي الدين يحادث القصاب و يشير إليه أن يجزل العطاء للجميع..

تذكرت مواعيد التحاليل و هرولت لترفع هاتفها الجوال لتجد أن الساعة تجاوزت الحادية عشرة و النصف..

أسرعت إلى الحمام و بدلت ثيابها سريعاً.. لم تكترث لوضع بعض المكياج على وجهها..

و غادرت غرفتها مسرعة.. و عند آخر درجة في السلم تذكرت أنها نسيت مفتاح سيارتها و جزلانها، فعادت مسرعة لتجلبهم..

و في خضم سباقها ذاك مع الزمن ، سمعته يتحدث بصوت عالٍ مع عثمان و سعيد.. و لمحته..

فتجمدت فرائصها.. تبلدت على السلم خطواتها ..

و أحست بإنفصالها عن عالم الجاذبية.. ليس مجازيا بل حرفيا.. فعندما توقفت تلقائياً لدى سماعها صوته.. زلت قدمها و تناولتها الدرجات الثلاث الأخيرة..

حاولت جهدها أن تسقط واقفة..

و فشلت..

تفاجأ الجميع بصوت السقطة .. فانتشلت نفسها من لحظة الإحراج تلك بسرعة..

إلا أن الضحكات تعالت و تتصدرهم ضحكة طارق الذي لم يتمالك نفسه من منظرها..

ادعت أنه لم يحدث شيء.. و ما تعنيه السقطة أصلاً فهناك ما هو أهم من سقوطها و شماتتهم بها..

مواعيد جدي.. هذا ما جعلني أسرع نزولاً و صعوداً.. و أنتم تضحكون؟؟

و مع نبرات صوتها المتأثرة بالألم و الغضب .. ازدادت ضحكاتهم..

و أخبرها عثمان أن الشيخ و محي الدين قد ذهبوا في الثامنة للمركز و عادوا حوالي العاشرة و النصف..

و واصل طارق ضحكه و هو يمثل بيده كيفية سقوطها و يقلد وجهها و حركات جسدها..

فضربت قدمها بالأرض في ضيق.. و هتفت لا شعورياً.. طارق!!

فقال بذات اللا شعور: يا سيدة قلب طارق..

لو مشت نملة لحظتها لسُمعتْ..

قطعت تلك العبارة أصوات الجميع.. و أخذوا يتبادلون النظرات..

أخفض نظره للأسفل .. في حين تشبثت هي بحاجز السلم..

انسحب من كان حضوراً و بقيا وحدهما..

*عزة.. ماذا فعلت؟؟

** أنا.. بإستنكار أجابته بعدما جمعت ما تناثر من رباطة جأشها.. لا سيما و أن معظم الخدم قد سمعوا ذاك الحوار.. و من لم يسمع سيكون قد سمع الآن..

أنا أم أنت يا سيد؟؟

عاد مرة أخرى للضحك..  و تقدم صوبها فأبتعدت عنه ..

هل تودين السقوط أخرى..

هيا بنا فالجميع في الخارج..

تبعته و هما يضحكان تارة و يكتمانها تارة..

كان جدها يتوسط إبنتيه و هو يهز عصاه تلك بنشوة.. و محي الدين يجلس في مقعد قريب منهم..

أغصان الليمون مثقلة بالثمار الممتلئة الأوداج بالعصير..

و أحواض الورد تكاد تضحك و هي تتمايل و تستند على بعضها كلما داعبها عبث الريح..

بالرغم من إنتصاف النهار.. إلا أنه في ظهيرة ذاك اليوم لم تكن الشمس تنوي أن تقوم بمهامها الأزلية..

كان يوماً شتويّاً معتدلاً.. و كان الجو صافيّاً بلا غبار و كأن السماء هي الأخرى ودّت أن تأتي وحدها في صحبة الشمس..

لذا تركت شباط يجالس السحاب و الغبار و يشغلهما عن مشوارهما حيث اكتملت عائلة الشيخ عبد القادر العبيد في جلسة أسرية جميلة..

و لم يمكثوا قليلاً حتى حضر عثمان و معه غدير و نسرين .. و بعد قليل أيضاً جاء سعادة العميد الطيب و أسرته..

ساد المكان جوّ أسري آسر..

استمتعوا فيه بذكريات الشيخ في مدرسة وادي سيدنا و أحاديث سعادة العميد عن الكلية الحربية.. و تنقلاته في الفرق و بين المدن العسكرية..

تكلم محي الدين عن رحلات القطار و محطاته العتيقة.. عن أوجه الناس و ملامح السودان التي أرتسمت في سحناتهم المختلفة..

أصغى الجميع إليه بإهتمام و هو يصف إحدى السيدات الكبيرات..  و شلوخها و أوشامها التي مهرت ذراعها..

ذلك اللون الرصاصي المغضن أرجوانيةً و المشبع إخضراراً..

و كيف أن أباها جاء من بربر ليستقر في مدينة الأبيض ثم يتم تعينه في سجون مدينة بارا.. فيبني له بيتاً فيها و يأتي بذرية .. ثلاثة إناث و صبيين

.. و ينقطع عن أهله ؛ إلا من أبناء عمومةٍ.. ألهتهم كردفان بخيراتها فأنستهم الدنيا..

و أنه  جلسة سمر معهم جعلته يأتي بأحدهم .. و يمسك معه بتلك الأذرع البضة الصغيرة و يرسم عليها بوحشية بعض النقاط و الخطوط و الدوائر و الأرقام..

كلٌ في مستطيل..

و عندما سألته أمها عن سر هذه الثورة التي جاءت بعد خاصة المك نمر بمئة عام.. أخبرها حتى لا يضيع نسب بناته و أنه حين يتزوجونهم أبناء إخوتك (الكردافة) يعرفون أن مهيراتي سيدات أهليهم..

فتهيج أمها و تثور.. و تدخل (الكرنك) و تأتيه بورقة أكل الدهر عليها و شرب.. ثم مسح كفيه بها..

تلقيها في وجهه.. كأنها قميص يوسف.. توده بقراءة كلماتها أن يعرف أن نسبها يعود للعقيل ابن علي كرم الله وجهه..

و تصيح فيه بملء صوتها..

أنك قد حرمت عليّ.. و كلما حللت عليك أحرّم..

أتطعن في نسبي و أبي قد رأى فيك رجلاً لا يحتاج رجالاً يُسألون عنه..

و طردته من بيتها.. إلا أن جدها استبقاه في (الخلوة) حتى لا يحرمهم منه..

حكى لهم عن مشروع الجزيرة و المزارعين و طرق الزراعة و أسماء الحواشات و أنواعها و أحجامها..

*لقد شغلنا هؤلاء الرجال عن الطعام بأحاديثهم الممتعة..

قامت وفاء و وقفت من دون مساعدة .. كانت هذه المرة الأولى التي ترى عزة فيها أمها بكامل صحتها منذ زمن بعيد..

و استطردت وفاء.. تفضلوا للداخل..

و في سفرة الغداء تولت السيدات مجرى الحديث و لم يتركن لأحد فرصة للمقاطعة أو المشاركة..

كان يوماً رائعاً بالعموم..

حتى جاءت لحظة إنصراف الضيوف..

حيث حملت عزة حقيبتها و وضعتها في سيارتها و همّت أن تودع أهل بيتها معهم لتنطلق لشقتها بصحبة نسرين و غدير..

التي يفترض بها استكمال إجراءات سفرها صباحاً.. إلا أن وفاء استبقتها.. ثم أخذتها لركن قريب و بدأت تتحدث معها..

و طارق يحاول من ركن قصيّ أن يستبين من لغة جسد عزة نتيجة ذاك الحوار..

و عندما انتهت وفاء ، ركضت عزة لداخل الفيلا .. تاركة إياه في حيرة إلا أن وفاء أومأت له برأسها مبتسمة..

ففهم و استأذن و انصرف هو الآخر..

لم يبق إلا غدير و نسرين اللتان لم تستبينا شيئاً و لم تفهماه أيضاً..

فجاءت لها غادة تتدعوهما للدخول لداخل الفيلا.. حيث وجدوا عزة و أمها التي تبعتها إلى الداخل بعد مغادرة طارق..

و بالطبع لم تجرؤ إحداهما لتسأل عن الذي جرى تواً..

لكن وفاء قطعت عليهم حيرتهم تلك.. و ألقت عليهم أجمل خبر يمكن أن تسمعاه..

لقد حدد طارق معنا موعداً بنهاية هذه الأسبوع ليأتي مع أمه و يخطب صديقتكما..

فطارتا إليها و أحتضنتاها.. و صحباها إلى غرفتها حيث لم يناموا إلا عند مشارف الفجر..

بدأت الإستعدادات..

في الحقيقة لم تكن هناك حوجة لتجديد دهان الجدران و تنجيد الأثاث و تتمة ما ينقص من أكواب و صحون ..

فالأغنياء لا يجعلون هذه الأشياء تصل تلك المراحل المتأخرة التي نعانيها ..

فكما جرت العادة لدينا نحن سواد الشعب يكون المنزل كالمصاب بالدرن..

لا يأتيه الفرج إلا عندما يشارف على الموت..

لا علينا و اللهم لا حسد..

لم تسافر عزة للإمارات حتى تشتري فستان خطبتها.. و لم تبعث أمها جنيهاتها الإسترلينية للندن من أجل ثوب يُلبس ليلة واحدة ثم يسجن في الخزانة..

إنما اختارتا من الذوق السوداني الأنيق ما جادت به قريحة بعض الممصمات و ابتعتاه..

لم يختلف الوضع مع الصديقات اللواتي لم تبخل عليهن العروس بالهدايا ..

أطقم أحذية و حقائب و أكسسوارات..

طغت الفرحة على الفيلا بشكل عام و قُدمت الدعوات لبعض الأهل للحضور و نسبة لخصوصية الوضع في الشركات فقد توسعت لبعض أفراد مجالس الإدارات كذلك..

الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقول أنه تغيّر كان الشيخ عبد القادر..

تبدل ذلك الوجه العابس.. و احتلت الإبتسامة وجهه على الدوام..

صار الحديث معه محبباً و مشوقاً..

إزدادت هيبة الإحترام التي تحوطه بالمحبة.. و كأنه يشهد ميلاداً جديداً لذاته..

بعدما كان جميع من بالمنزل بمن فيهم الخدم يتحاشون المثول أمامه إلا للضرورة القصوى ، أصبحوا اليوم يرهصون السمع أيهم ينادى إليه..

أغدق عليهم بالعطايا ، فقد أمر سعيد أن يعطيهم راتب شهرين هدية ليستعدوا للمناسبة البهيجة.. كما أشترى لكل واحد منهم خروفاً و مؤنة شهر تُأخذ من مخازن المزرعة و الفيلا..

نستطيع أن نقول أن مواسم الأعياد هذه المرة و إن تأخرت عن كانون الثاني ؛ فإن شباط جاء محملاً بهداياها و إحتفالاتها ..

الحركة في الفيلا كخلية النحل إلا أن الملكة التي يفترض بها أن تكون في قمة السعادة لا تبدو بخير..

تصطنع الفرحة و ملامح وجهها تفضحها..

عادت تلك الإبتسامة المريرة إليها و صارت تتهرب من كل الأسئلة التي تُسألها..

إلى أن تمكنت نسرين أن تنفرد بها أخيراً..

ليس من المعقول أن تكوني بهذا الشكل..

أمسيتِ كالأرملة بدلاً عن العروس!

عزة.. للمرة الألف.. لستِ مطالبة بتبرير فعل لم يكن لك به دخل..

و إن كانت الخطيئة تأتي للدنيا بمثلك لأجيزت..

أعرف أنني أتجاوز حدود العقل أحياناً.. لكنك تجعلين من كل المنطق بلا طائل..

**نسرين.. لقد حكيت لك قصة غادة و اتفقنا أن أبي هو..

*قوليها لترتاحي.. قوليها ليطمئن لها قلبك..

محي الدين هو أبوك.. و أن جدك بريء من ذنب حملته إياه كل هذه السنين..

تهدج صوت عزة و هي تقول:

أعلم أنني نكرة..

وصمة عار و ذكرى دنسة أمام عينيه.. معاملته السابقة لي .. قسوته و حديثه الجاف دوما معي ؛ يصر أن يجعلني دائماً أتفه من قطعة حديد صدئة.. لمَ لمْ يدفني في قبر أو ألقى بي في أي كومة أوساخ.. أراهم هذه الأيام يضعون أمثالي في حاويات القمامة و عند أبواب المساجد.. فلربما أخذني أحد زوار القمامة أو عمار المساجد..

كان يصر أن يذكرني أنني لا أسوى شرو نقير .. أمام عظمته و جبروته الشيخ البروفيسر عبد القادر العبيد.. صاحب مجموعة شركة المباني القابضة..

و من بين دموعها أردفت..

ما أنا إلا ثمرة علاقة غير شرعية..

و فجأة سمعنا صوتاً..

كان مخنوقاً.. تمتزج في نبراته الحسرة بشيءٍ من بقايا قوة..

عزة..

توقف الدم في عروقنا..

إنه الشيخ ..

نهرها بوهنتعالي..

اقتربت منه و هي لا تعرف ماذا سمع و ماذا سيقول..

همت نسرين أن تأخذ جانب الممر الآخر و تهرب عن أرض هذه المعركة التي سيخرج منها المنتصر مغلوباً..

أستوقفها هي الأخرى و أجلسهما أمامه..

ضرب بعصاه الأرض.. بقوة مصطنعة.. محاولاً أن يجد مدخلاً يبدأ به الكلام..

رفع رأسه عالياً للسماء و استغفر ملياً..

*حسناً أنا لم أقصد أن أسمع حواركما و لكني كنت أبحث عن عزة لأعطيها هديتي لها.. و أخرج من جيبه علبة مخملية سوداء ، مستطيلة الشكل مختومة بإسم شركة مجوهرات عالمية مشهورة..

و وضعها على المنضدة أمامه بيد مرتعشة حتى كادت أن تسقط..

تنحنح .. ثم أتم ما انقطع من حديثه..

*يبدو أنني و رغم جهدي أن أنسى الطعنة التي أدمت قلبي طويلاً ، فهي تستمر تنزف.. و أثرها ما زال يقض مضجعي..

عزة.. لم تكوني أبداً يا ابنتي ثمرة علاقة محرمة..

أنت ابنة شرعية لوفاء من محي الدين..

أنت حفيدتي الوحيدة و ابنتي الصغيرة..

لست أعرف منذ متى تعرفين تلك القصة.. أو من أين سمعتها.. و ما كان دوري في شخصياتها..

لكنني أقسم لك.. أنك لم تكوني يوماً إلا الفرحة التي تنسيني كل هموم الدنيا..

**جدي.. أود أن أعرف الحقيقة كاملة..

فأنا كلما استعرضت حياتي أمام ناظريّ وجدت مبرراً واحداً لكل أحداثها..

ألا و هو أني لقيطة ..

قاطعها..

قبل أن أحكيك يجب أن أعرف منك تفاصيل ما تعرفينه أنت و ممن سمعته..

** كنت أستغرب معاملتك الجافة و أسلوبك مع الجميع و معي بصورة خاصة.. تدخلك في كل صغيرة و كبيرة تخصني..

بقائنا في المزرعة ثم انتقالنا هنا..

و قد سمعت الخدم يتحدثون عن قصة وفاء التي أنجبت فتاة و يتهمون أبوها بإغتصابها .. و قد ربطوا ذلك بعودتكم من المزرعة..

فقد كانت في حالة بكاء هستيرية و معها غادة .. و أنت كنت كمن نحر ناقة سيدنا صالح..

استغفر مراراً..  و أراد أن يقول شيئاً لكنه صمت..

ثم ضرب عصاه بالأرض أخرى..

كمن يشتهي أن تفتح هذه الأرض أحضانها و تبتلعه .. ليرتاح..

*عزة.. في أحد الأيام أرسلت سعيد ليأتي بأمك من الجامعة.. فأخبرني أنه اليوم لم يوصلها للجامعة.. و أنه لمحها تذهب في سيارة محي الدين و افترض أن تأتي معه..

عندها لا أدري ما الذي دفعني لأفترض أن هناك شيء ليس في مكانه..

جعلت الأمر يمر و كأنه لا يهمني.. و طلبت منه أن يأخذني للمزرعة و عندما هممت بركوب السيارة جاءت غادة و أصرت أن تذهب معي.. فوافقت.. و بالفعل توجهنا للمزرعة..

و كلما اقتربنا انقبض قلبي أكثر فأكثر.. و كأن الوالد يأتيه وحيّ بأن هناك شيء سيحدث.. كنت أحاول أن أتملص من هذا الإحساس..

فصرت أحكي لغادة عن هدية كنت أدخرها لعيد مولدها ، و بما أنها أصرت أن تأتي معي فالهدية عبارة عن مهر صغير..

أذكر انفعالها و فرحتها كأنها اللحظة..

ضحكاتها و عناقها الدافئ و يديها الصغيرتين خففتا من حدة إضطرابي..

و بالفعل.. عند وصولنا استقبلنا الحارس و أخبرنا أن السيدتين اللواتي يناط بهما العناية بالمنزل هناك قد ذهبتا للتبضع و لا يوجد أحد في المنزل إلا العمال الذين يقومون بصيانة الكهرباء و بعض أعمال السباكة..

فأخبرته أنني سآتي لرؤيتهم بعدما أعرج على الإسطبل..

و بمجرد أن توجهت صوبه ..

رأيت سيارة محي الدين.. و عندما سألت الحارس قال أنه لم يعرف بمجيئه.. لأنه قام بإيصال السيدتين للسوق بالسيارة القريب و عاد أدراجه ..

طلبت من غادة أن تنتظر في السيارة ، لأنني لاحظت أن غرفة (الجوكي) مفتوحة و قد كان في إجازة..

لا أعرف كيف حملتني قدماي للباب.. أو من أين أوتيت القوة لأدفع الباب..

صدمني ما وجدت..

و أخفض وجهه .. و خرجت باقي الكلمات من فمه و هي تقطر ذلة و إنكساراً..

وجدت وفاء و محي الدين مع بعضهما في وضع يستطيع أن يحطم كل أب..

لم أتمالك نفسي فأخذت أركلهما بقوتي كلها.. و لا أدري كم صفعة نالها وجه أمك..

سحبتها من يدها و لكن

محي الدين لحق بها و وضع شرشفاً عليها..

فدفعته حتى سقط أرضاً و تذكرت أن لدي مسدساً في سيارتي.. فهرولت إلى السيارة و وفاء ورائي كبهيمة تساق لمقصلتها..

أدخلتها السيارة في دهشة سعيد و الحارس .. و أخذت مسدسي من الدرج و ركضت نحو محي الدين الذي قد كان خرج من الغرفة و حاول الهرب عن طريق الإسطبل الداخلي حيث توجد الخيول..

فار الدم في عروقي فصرت أصوب عليه المسدس و أطلق الأعيرة النارية لكنها لم تصبه .. بل أصابت أحد الجياد و من بين صوت الطلقات سمعت صراخ غادة و تمكن مني سعيد و من معه و أخذوا السلاح..

هرولت أخرى للمدخل حيث كانت غادة فاقدة للوعي و ملقاة في الأرض..

جثوت بجانبها و كل ما جال ببالي أنني فقدت ابنتي اليوم معاً..

أرجع ظهره للوراء و عزة و نسرين مشدوهتان بما يقول..

واصل كلامه..

هرع عمال الصيانة ناحية الإسطبلات عند سماعهم صوت العيارات النارية .. في تلك الأثناء أفاقت غادة بعدما قام الحارس برشها بالماء؛  فأخبرهم سعيد أن لصوصاً قد حاولوا السطو على الإسطبل لكنني منعتهم بإطلاق رصاص في الجو.. و قد هربوا..

عرفت لحظتها أن سعيد لن يخبر مخلوقاً بهذه الحادثة و قد رأيته يتكلم مع الحارس بل و يهدده بحركات يده..

قام سعيد بإصطحاب أمك مرة أخرى للغرفة حيث أرتدت ملابسها و قاد بنا السيارة للفيلا..

دخلنا من الباب الخلفي و يبدو أن أحداً رآنا رغم جهود سعيد أن يخفي الأمر..

و قد أضيفت للحكاية التي وصلتك بعض التكهنات الشخصية..

تنهد..

أخبرت جدتك زهور فأنهارت تماماً.. أما وفاء فقد بقيت في غرفتها يومين دون أكل .. كل ما كانت تفعله هو البكاء حتى تخور قواها فتنام ثم تصحو لتبدأ في البكاء..

لم تحتمل جدتك الوضع لذا ذهبت لبيت المزرعة بعدما انتهت الصيانة..

أقامت هناك قرابة الشهر.. في ذاك الوقت كنت ألاحظ أي تغيرات على أمك.. لكني لم أجد ما يدل على أنها حامل..

أزال ذلك عن كاهلي بعض أثقاله..

لكن ظهري الذي انقصم لم أجد له علاجاً..

و في أحد الأيام حضر سعيد و طلب مني الحديث منفرداً..

فجلسنا عند تلك الزاوية.. و أشار بعصاه لركن تحتله شجرة ليمون كبيرة..

جلب كرسيين و بدأ حديثه عني و عن ما أعنيه له و أن العشرة التي بيننا تحتم عليه أن يكاشفني بما في قلبه حتى لو أدى ذاك لطرده من الخدمة..

طمأنته أن مكانته عندي لا يدانيها أحد..

فتشجع الرجل و قال لي محي الدين..

ثُرت في وجهه .. لكنه استوقفني.. و طلب أن أهدأ حتى يستطيع أن يكمل حديثه..

كان محي الدين قد إلتقاه و طلب منه أن يفاتحني في طلبه الزواج من وفاء.. و أنهما يحبان بعضهما و أنه كان ينوي خطبتها لكن الشيطان سوّل لهما الخطيئة و هو يقسم أنه وجدها شريفة و تركها شريفة..

و أنه على استعداد لفعل أي شيء و أنه سوف يأخذها و يرحل عن المدينة و يترك العمل في الشركة..

تركني سعيد لأفكر.. و بالطبع أطلعت زهور على الأمر فوافقت من توها مبررة ذلك أنه ليس هناك ضمان أن تكون ابنتنا ما تزال عذراء..

طأطأ رأسه أخرى و شعرت نسرين بحرج كونها تستمع لأكثر أسرار العائلة حساسية ..

و أمسكت بيد عزة التي كانت قطعة من جليد و نظرت إليها .. فوجدت عينيها معلقتان بوجه جدها..

و بعد يومين.. استطرد الشيخ وافقت على مقابلة محي الدين في الفيلا..

و دون أن تعرف وفاء شيئاً رتبت معه أن يكون عقد القِران في نهاية الأسبوع على أن تتأجل باقي المراسم قليلاً..

اشترطت عليه أن يبقى طوع أمري.. و أن يعمل في الشركة من غير راتب..

و أن أعطيه مصروفاً شخصياً كأحد المتدرجين المستجدين في العمل.. فوافق..

و كذلك أن يسكن في بيت المزرعة..

كنت بذلك أود أن أذله و أعاقبه .. و قد نجحت في ذلك بتفوق..

محي الدين لم يكن أبداً طامحاً في ثروتي و لم أكن بهذا الثراء وقتها لو ساورك هذا التساؤل يا عزة.

أبوك رجل أعتمد عليه الآن في كل شيء و أعتبره ابني الذي لم أنجبه..

و قد كفّر عن ذنبه بمجرد أن جئتِ أنتِ للدنيا..

في بداية الأمر .. لم أكن أشعر إلا بالمرارة.. و كلما وقعت عيني على أمك أو محي الدين كانت الدنيا تظلم في عينيّ..

و كنت لا أجد مفراً من احساس الغضب الذي يسكنني .. فتملكني و صار  سلوكي و حديثي و حتى سكوتي..

ليس هناك شيء في الدنيا أشد وطأة على قلب الأب من معايشة ما عايشته..

أعتذر يا بنيتي إن كنت بكل هذه القسوة عليك دونما أن أشعر.. أعتذر ألف مرة لو أورثك غضبي كراهيتي و الخوف مني..

اندفعت عزة نحوه في خطوتين و أرتمت عليه و احتضنته و أخذت تبكي..

فأحتواها و جرت دموعه هو أيضاً..

لم تتمالك نسرين نفسها فتركتهما و الدموع تحجب نظرها..

و ذكر لها من خلال دموعه كيف أن غادة أصابتها صدمة سببت لها هذه الحالة النفسية التي تعانيها..

هي تخاف الأصوات العالية و صارت تخاف الجياد..

و قد أمضت سنوات طفولتها بين العيادات و المعالجين النفسيين..

و أردف.. و قد حملت ذلك لأبويك بالطبع.. و أعمتني الكراهية..

حتى أتيتِ للدنيا..

تضاءلت كل الأشياء بداخلي..

كن أقيس بهجتي بحجمك وقتها.. بيديك الصغيرتين..

و وجهك المغضن.. و أنفك الحاد..

كان شعرك يغطي ملامحك فأخذت المقص و قصصته لك في يوم عقيقتك .. و بدأ يرتجف و هو يصفها بيديه..

تمنيت من قلبي أن يكون الوضع طبيعياً.. لكنه أبعد ما يكون عن ذلك..

لكم أن تتصوروا تحطم كل الأسوار التي فصلت عزة عن الدنيا..

خلعت عنها تلك العباءة السوداء.. و طرحتها أرضاً..

دكّت حصون البؤس التي كانت تحبسها و بدأت صفحة جديدة من كتاب عمرها ، بعدما خسرت أعواماً عدداً و هي تعلق نفسها على مصلبة لا ركائز لها..

غير ربط أخرق لأحداث و أحاديث لعب فيها التوقع لأسوء الفروض دور البطل و زيّنها لها الخوف..

لم تكن تملك الجرأة لتذهب بعيداً.. لأن تنسلخ من أهل هذا البيت..

لذا خيارها أن تنتقل بين الداخليات كان أكثر ملائمة لها..

كان هروبها المؤقت منهم كتعاطي مخدر ينقل المرء من واقع أليم لوهم بهيج..

و استدركت حديثهم في البهو ذلك اليوم.. لكنها آثرت ألا تحمل هذا الكهل لحظة حزن و ألم أخرى.. يكفيه من يعانيه من مرض و ما عاناه من وجع لم يترك لأحد فرصة ليتقاسمه معه..

مسحت دموعها بظاهر كفها و قالت بصوت آخر تماماً..

لا تعرف أين كان يختبئ كل هذه المدة..

صوت تملأ نبراته البهجة..

*ما هي هديتي يا جدي؟؟

ابتسم و هو ينظر إليها بتمعن..

و خاطبها..

تعلمين.. أن تشبهين زهور بشكل كبير.. أذكرها و هي في عمرك و قد أنجبت وفاء..

لا تختلفين عنها إلا في كونها كانت يرحمها الله مكتنزة قليلاً.. و ليس لها أنفي.. و ضحك..

أعطاها العلبة ..

كانت إسورة ذهبية تزينها بعض الأحجار الكريمة.. و يتدلى منها شعار الشركة ..

قبلت يده و رأسه..

و مدت له يدها ليلبسها إياها..

حركت معصمها يميناً و يساراً و هي في قمة سرورها..

فكانت كالفراشة التي تفتقت عن شرنقتها و فردت جناحيها لأول مرة.. تخطر على خدود الورد .. و يتعلق الأريج فيهما فتهب الكون الربيع في عزّ شباط..

نسرين نسرين.. إلتفتت إليها صديقتها..

ابتسمت و هي تراها تمشي نحوها.. كأميرة من كون آخر..

تلفها السعادة و تكاد تشع عنها..

تبدلت تلك الإبتسامة المريرة لأخرى كأنها قوس المطر في يوم خريفي بهيّ..

عيناها تحمل بريقاً مختلفاً ، كأنها جنيّ يسكن قوس المطر ذاك.. و يحمل عصاه السحرية فيحول كل الذبول إلى إيراق و جمال..

لم تكن تمشي على الأرض.. كانت تطفو عليها.. عجيب ما تفعله السعادة بالمرء..

استقبلتها نسرين بذراعيها المفتوحتين.. و تركت قلبها و ما فيه يحادث روحها ..

همست لها النبضات أن سعادتك يا عزة بالدنيا.. و أنها أضاءت تلك العتمة التي جثمت طويلاً و أعتمت نور الشمس أمداً..

خبرتها أن نكهة كل شيء صارت أحلى فقط لأن شقيقة روحها قد ولدت من جديد..

و أنها أخيراً وجدت ما بحثت عنه .. صك تحررها من عبودية كلمة..

غير شرعية.. ابنة زنا.. ثمرةٌ حرام..

بقيت عزة في أحضان نسرين حيناً ثم رفعت يدها لتريها الهدية..

أبدت نسرين اعجابها بذوق جدها و حسن إختياره لها..

لم يمض إلا وقت قصير و كان كل شيء جاهزاً..

كست الأضواء أسوار الفيلا و تزينت الحديقة بالطاولات و الكراسي..

طواقم الضيافة من ذاك الفندق الشهير.. توزعت بين الحضور ؛ ترشد الضيوف لمقاعدهم و تقوم بخدمتهم على أكمل وجه..

حضرت أمل و أسرتها و بصحبتهم غدير ، فأجلستهم وفاء على مقاعد طاولة تصدرت الجلسة..

أبدت حنان إفتتانها بثوب وفاء و أناقتها فشكرتها الأخيرة على ذوقها و انصرفت لتحية باقي الضيوف بعدما تأكدت من أن الضيافة قد قُدمت لهم..

تواتر الحضور و ساد المكان جوٌّ بهيج أتمته نغمات استهلت بها الفرقة الموسيقية الحفل..

و قام الجميع لساحة الرقص يتمايلون طرباً و الفنان يبدع في إختيار الأغاني..

حتى سمع بوق سيارة تهم بدخول بوابة الحديقة..

توقفت الموسيقى و خفتت الأضواء..

تقدم الشيخ و محي الدين و وفاء إلى حيث توقفت..

فترجل طارق و أمه منها و بعد تبادل التحايا اصطحبت وفاء أم طارق لطاولتها .. و بقي طارق واقفاً مع حمويه..

انسابت بعد هنيهة موسيقى هادئة.. و إزداد خفوت الإضاءة ثم تركز شعاع على ممر يربط الحديقة بالفيلا.. و خرجت نسرين و غادة..

تلبسان فساتيناً بلون الياقوت.. تمشيان الهوينى و تتمايلان مع اللحن الجميل.. و عند منتصف المسافة.. خفت الضوء من جديد..

و هذه المرة كان طارق قد تقدم نحو المقاعد المخصصة لجلوسهم..

متعدل القامة.. مرفوع الرأس..

لا ينقصه إلا  إكسكاليبر ليصير آرثر..

بذته السوداء و قميصه الأبيض و عقدة عنقه يتبادلون الدور في عكس صفاء بشرته و بهاء ملامحه..

وقف هناك و قلبه يكاد يقفز إليها.. إلى حلمه الذي يوشك أن يتحقق..

تعالت نغمات أغنية أجنبية تعلن عن قدوم موكب الملكة..

و قد كانت ملكة بالفعل..

بثوب الدانتيل اللؤلؤيّ الطويل .. و شعرها الفاحم ينسدل على ظهرها يغطي تلك الفتحة التي تكشفه في خجل..

كحل عينيها أخجل الليل و لون خدودها أربك احمرار الورد..

تسمرت أعين الجميع عليها..

فتقدم إليها طارق ليأخذ يديها من بين أيادي خالتها و صديقتها اللتان أنفحتهما بعضاً من جمالها ؛ فبدتا كدوقتين نبيلتين..

تأبط ذراعها و أنحنى يهمس لها في أذنها.. فتبسمت و مشت إلى جانبه تحفهما التبريكات و تحيط بهما الدعوات.. أن يتمم الله عليهما بالخير و يجمعهما عليه..

بدأت المراسم و انتهت ما بين تلبيس المحابس و حتى رفع آنية طعام العشاء و خروج الفنان..

انصرف آخر المدعوين و بقي طارق و أمه و بعض أقاربه..

فتم استضافتهم إلى داخل الفيلا..

صعدت عزة إلى غرفتها بصحبة نسرين و أمل و غدير اللواتي قررن أن يمضين الليلة معاً..

فغدير و نسرين ستسافران غداً..

قامت الفتيات بتغيير فساتين السهرة و أرتدين ملابس أخرى و نزلن للجلوس مع أهل العريس..

لم تدم الجلسة طويلاً نسبة للتعب الذي أصاب الجميع فستأذنهم الضيوف و انصرفوا..

انفرد طارق بعزة.. و أمسك بيدها يداعب أصابعها..

و يده الأخرى ترجع خصلة من شعرها أفلتت و أخذت النسمان تتلاعب بها..

لثم يدها و أخرج من جيبه مفتاحاً ذهبياً صغيراً و قال لها أنه يفتح صندوقاً خشبياً ستجده في غرفتها حالما تصعد..

مشت معه حتى نهاية الممر و هو ما يزال يتشبث بيدها لا يريد عنها فكاكاً.. حاولت أن تتملص منه لكنها لم تستطع..

فتركها ببطء و هي تسحبها ببطء أيضاً.. حتى تركها تماما..

تأملها.. بعين لا تصدق أنها صارت علناً ملكه.. يستطيع أن يحضر و يأخذها إلى أي مكان دونما أن تجد عذراً يمنعها عن الخروج معه..

اجتاحته فرحة مفاجئة فأخذها بين ذراعيه و أخذ يدور بها و يدور.. و هي تضحك حرجاً فقد أحست ببعض العيون تراقبهم من بعيد.. أنزلها و هو يلهث و صدره يرتفع و ينخفض بجنون..

ضمها إليه و همس في أذنها..

أحبك جداً عزة محي الدين.. جداً أفعل..

تنحت عن بقعة الضوء التي كانت تظهرها و سحبته لبعض الظلال و قبلته على خده مودعة إياه..

ذهب.. حملته خطواته قسراً عن مكان وقوفها و كان يلتفت في كل خطوة و يلوح لها مودعاً و هي تلوح له و تضحك.. حتى اختفى داخل سيارته.. و أختفت..

الحمد لله الذي أتم لك ما تتمنى يا بنيّ.. استهلت الحاجة سيدة حديثها لطارق.. ثم أردفت..

لم أترك سورة في القرآن إلا و قرأت عليكما آيات الحفظ فيها..

لقد كنتما في أبهى حللكما الليلة..

فرحتك هذه يا ولدي لا تنقص إلا أباك.. و بدأت المرأة في البكاء..

ياااااه.. كم نحن شعب بَكّاَء..

نحرم أنفسنا من الفرحة بأدمعنا و ننقصها بإفتراض ما قد يأتي ليعكر صفوها..

نستعجل القدر أن يقع..

مازحها طارق محاولاً أن يخرجها من موجة النواح التي اعترتها..

و هناك في فيلا الرياض ..

جلست الصديقات في الشرفة المطلة على الحديقة الأمامية للفيلا.. بعدما حزمت نسرين و غدير أمتعتهما.. نسرين سوف تستقل الباص من الميناء البريّ  صباحاً.. بينما تغادر غدير في طائرة السابعة مساء..

استرجعن كل الخطوط العريضة التي مرت بهم في عامهم هذا.. و كيف أن الأيام تأرجحت ما بين أكفهم.. أترحتهم و أفرحتهم.. تلاعبت بهم حيناً و سحقتهم عشرات المرات.. لكنهن وقفن بعزم بوجهها..

*عزة.. يجب أن نشكرك ثلاثتنا لمساندتك لنا و لإستضافتنا في منزلك و تكبدك كل تلك المشقة و التعب..

و لو كنت شقيقتنا ما صنعتِ نصف ما قد صنعت..

قالت لها غدير ذلك و أحاطتها بذراعيها..

فردت عزة.. أنتن أخواتي و هذا أقل ما يمكنني فعله لكن..

فحذت أمل و نسرين حذو غدير تباعاً و تشابكت أذرعهن.. فأمسين كبتلات وردة تحوط ميسماً..

اختلطت أدمع الفرح بأدمع الوداع..

ثم نام الجميع..

تثاءبت الشمس و أزاحت بدفء طلتها بعض السحب التي تناثرت هنا و هناك..

صعدت نسرين إلى السيارة مع عزة بعدما ودعت أفراد العائلة..

على غير عادته كان شارع عبيد ختم هادئاً و حركة المرور فيه منسابة بشكل سلس..

خيم الصمت على نصف المسافة..

لم يكن للكلمات مكان .. لم تكن لها حوجة..

كانت ستزيد الوضع سوءاً..

شعرت نسرين بغصة تكتم أنفاسها.. فمدت يدها باحثة عن حقيبة يدها لتخرج منها علكة أو قطعة حلوى.. لعلها تكسر هذا المرار الذي تحس به..

اصطدمت يدها بيد عزة و هي تضع يدها على عصا مغير السرعة..

التقت عيناهما للحظة..

فأشاحت نظرها للنافذة و هي تطالع انعكاس صورة عزة عليها..

عند تقاطع شارع مدني مع عبيد ختم أوقفت عزة السيارة ..

أغمضت نسرين عينيها بحرقة و ضغطت على يديها..

كأنها لا تريد سماع تلك الكلمات العقيمة.. التي تبرر نهاية الأشياء الجميلة..

شعرت أن قلبها يرتجف حرفياً ..

ابتلعت ريقها.. و استجمعت شيئاً من رباطة جأشها..

و سألت عزة..

ماذا هناك .. لماذا توقفت؟؟

لم تفتح عزة فمها بكلمة لكنها عوضاً عن ذلك تركت لدموعها حرية الحديث..

فتهدج صوت نسرين و هي تطلب منها برجاء ألا تفعل بها هذا.. و رفعت معصمها متشاغلة بالساعة و قالت بصوتها ذاك.. سوف نتأخر..

ربما لاقانا ازدحام مروري أو أي إختناقات ..

أنت لا تعرفين هذه الأنحاء جيداً..

ففتحت عزة فمها بعد جهد جهيد..

أنا قبلك يا صديقتي لم أكن أعرف الكثير..

ليس جهلاً مني ؛ لكن عدم رغبة..

أنت من جعلت من أرض المستحيلات شواطئ أمن و سلام..

أنت يا صديقة روحي شقيقتي التي لم أحظ بها..

نسرين.. لا تحسبي تجلدي قوة.. إنما هو أخر ما يجعلني أتماسك..

قبلك.. وحدها تلك الجدران تعرفني..

لم أجرؤ أحدث أحداً عني و عن سري الدفين.. لم يكن أحد يملأ هذا الخواء الذي يحتويه صدري..

لم يكن لي قلب.. كانت هناك مضغة تقوم بوظيفتها الفسيولوجية.. لم تفهم معنى أن المحبة قد تتعدى الحدود و تصير وطناً..

و أنت وطني الذي أفخر بالإنتماء له..

لذا لا تحسبي أن سفرك هذا لا يعنيني.. أو أنني سأتحمل فراقك..

تأكدي أنني أشتاق لك من الآن و حتى عودتك بالسلامة..

و كما أخبرك طارق.. مكانك محفوظ في الشركة..

و احتضنت يدها في حنان..

لم تمتلك نسرين غير الدموع رداً..

وصلتا للميناء البري.. و تدافع صبية تحميل الأمتعة لأخذ الحقائب ..

توجهت لمكتب التذاكر و حجزت المقعد و قواها تسحب منها.. كالسم يخرج من الجرح..

دنت مواعيد المغادرة..

فنظرت عزة لساعة يدها و احتضنت صديقتها و قالت لها..

لقد تآمرت علينا هذه الدقائق..

لكننا سنعوضها سنين عدداً..

ابتسمت زيفاً و في عمقها يربض وجع كبير..

لا تعرف لماذا تشعر بكل هذا الوجع.. و الذي سيفصلهما شهر ليس إلا..

أراحت صدرها بزفرة و أتبعتها أخرى و تملصت نسرين من أحضان عزة بجزع..

و صعدت على متن الحافلة..

لوحت لها عزة بيدها.. فكانت تصغر و تصغر و تصغر و ما بداخلها يكبر متضطرداً..

أسلمت رأسها للمسند و لبست نظارتها الشمسية و أعمت بصيرة سمعها بسماعة الجوال و انفصلت عن ضوضاء الطريق..

سمعت عزة طرقاً على الباب .. فهتفت تفضل..

فإذا برأس صغير يطل من وسط ارتفاع الباب..

مرحبا حسام.. تفضل..

دخل الفتى بحذر.. تسبقه كرشه المستديرة و تخب قدماها خباً.. و قلّب بصره في الغرفة بذهول..

و قال بسرعة.. هل تعرفين يا عزة..

غرفتك هذه تساوي نصف طابق بيتنا العلوي..

فأنفجر الجميع بالضحك ؛ فذهبت أمل إليه و قرصته من أذنه و سحبته منها..

كم مرة قالت لك أمي أن تلقي التحية أولاً ثم تلقي قنابلك..

حك رأسه بغباء و ضحك..

*أنا سأحمل حقيبتك يا غدير.. أبي ينتظر في الأسفل..

للمرة الرابعة تؤكد عزة على أنها لا تريد أن تتعب سعادة العميد و أن المطار قريب من المنزل..

لكن أمل أصرت أن تصحب غدير للمطار لأنها ستذهب للبيت أيضاً..

تبادلت الفتيات القبل و كلمات الوداع..

و حسام يرفع رجله عن الأرض بصعوبة و هو يحمل أمتعة غدير.. حتى وصل لنصف الطريق فلم يتحمل ثقلها..

فجاء سعيد لمساعدته و مازحه..

و الله يا بني لدي احساس أن سعادة العميد سوف يدخلك الكلية الحربية قبل الأوان..

و ضحك الجميع أخرى و حسام يستعرض عضلاته الدهنية..

تلفحت الفيلا أخرى بوشاح الهدوء و غلّقت أبواب غرف الضيوف الإضافية..

أُعيد ترتيب الأشياء و حصر الإحتياجات.. و عادت سيرتها الأولى..

جرجرت عزة قدميها و صعدت إلى غرفتها و لمحت الصندق الخشبي الذي أخبرها عنه طارق..

أمسكت بسلسلتها الذهبية التي تلبسها و أخرجت المفتاح..

دار المفتاح في فتحته الخاصة لكنه لم يفعل شيئاً..

قلبته و بمجرد حركته ؛ فُتِح الصندوق تلقائياً بحركة مسرحية و ظهرت من وسطه دمية راقصة تصاحبها موسيقى هادئة.. و عندما أتمت مقطوعتها برزت وردة من أحد أركان الصندوق.. فوجدت ورقة ملفوفة كالرسائل القديمة..

فتحتها بلهفة فوجدت كلمات بخط طارق..

جلست على طرف السرير و قرأتها حرفاً حرفاً..

كانت عبارة عن نذور كتبها لها..

طوتها و قبضتها في كفها.. كأنما تريد أن يستشف جلدها مداد تلك الكلمات.. كما فعلت روحها بالحروف..

ياااااه كم تحبه..

و الآن بعدما أراحها جدها من همها و بانت الحقيقة بأنها ليست ابنته غير الشرعية بل حفيدته الوحيدة فإن دروب المحبة مع طارق ليس هناك ما يعوقها أو يخيفها أن تمشيها..

استأنف الجميع حياتهم ..

و عادت ساعات العمل التي تمتد من الصباح و حتى نهايات الظهيرة و بداية العصر..

الإجتماعات و مراجعة الميزانيات و القرارات و هلم جراً..

ثم يأتي المساء كسكير ماجن..

ينشد اللحون و ينثر الأغاني حبات سكر..

برغم كل التعب الذي يشملهم نهاراً لم يترك طارق و عزة أمسية تفلت منهما دون لقاء..

حتى و إنت كان بعض دقائق يسرقونها من مشغولياتهم و مسؤولياتهم..

كانت تلك اللحظات التي يتقاسمونها تعمق ما بينهم من محبة و مودة.. صهرت روحيهما في بوتقة واحدة..

أظهرت لهما مزيداً من شخصياتهم .. بدت الفروقات بينهم كلبنات مكملة لكل منهم..

لم يتركوا شيئاً قاصياً أو دانياً لم يطرقوه و يحدثوا فيه..

كأنما أرادا أن ينتهيا من كل شيء قبل أوانه.. لرغبتهما أن يقتصر حديثهما فيما بعد في منزلهما على قصائد الحب الجميلة.. و الأمسيات الودودة الحميمة ..

و ليالي الغرام خافتة الأضواء ، المملوئة ألحاناً و حناناً..

الحياة في مجملها كانت نسخة أخرى مضادة للتي سبقتها..

و كأن صورتها قد عُدِّلت ؛ تشبعت الألوان.. إزداد البريق..

صارت الأصوات أكثر عمقاً و أكبر إلتصاقاً بالذاكرة..

انصرف شباط و يومه التاسع و العشرون يلوح للدنيا على أن يأتيهم بعد الأربعة أعوام القادمة..

و جاء سيد الشهور آذار..

فكسر شوكة البرد قليلاً بتباشير الربيع ..

استقرت أحوال الشيخ و بناته الصحية .. ربما لأن المناعة ترفعها بالفعل الحالة النفسية للشخص..

صارت جلسات الغسيل متباعدة نوعاً ما..

نسيت أن أخبركم أن عزة قد انتقلت من شقة المنشية للفيلا..

على أن تجدد و تدمج مع الشقة المقابلة لها لتصير عش الزوجية .. كهدية من الشيخ لها و لطارق..

و أوهم عزة أنه قد يعيدها للإيجار كما كانت.. و أنها تحت الصيانة..

كان العمل فيها يجري على قدم و ساق.. و أشرفت على النهاية ، لم يتبقى غير تركيب الأبواب و النوافذ..

و إختيار الأرضيات للحمامات و باقي الغرف..

اكتمل المطبخ و الشرفات و جدد ديكور الأسقف و الإضاءة.. تمت أعمال السباكة أيضاً و رُكبت الأحواض و المراحيض..

اتصلت الحاجة سيدة بوفاء طالبة منها تحديد موعدٍ لزيارتها..

فرحبت بها وفاء جداً و عاتبتها بأنها يجب أن تأتي بلا استئذان فهي فرد من العائلة الآن ..

أخبرت طارق بأنها ذاهبة إلى أهل عزة لتحدد معهم متطلبات الزواج و مواعيده..

و كذلك حدثته عن ذوق حماته و دماثة خلقها.. و أنها دعتها لزيارتها وقتما شاءت بعدما أتصلت عليها مستأذنة زيارتهم..

فسألها طارق.. لما الإستئذان.. فردت عليه بضحكة..

إنهم من أعيان البلد و أردت ألا أبدو خرقاء لا تعرف أصول التعامل الراقي.. و احرجك يا بني..

سكت ثم قال لها.. أنت فخر حياتي يا أم طارق..

بمحبة أهدته درزينة من الدعوات الصالحات..

و في أمسية الأربعاء صحبها طارق إلى الفيلا..

كانت إمرأة أمة.. تحتشد في وجهها الملامح السودانية الأصيلة ..

تلك التي تجدها في وجوه سيدات بلادي.. أولئك اللواتي أعتركتهن الحياة و خرجن منها منتصرات.. عزيزات النفس.. لينات الجانب و مهابتاه.. ذوات نظرات ثابتة فاحصة.. ثاقبة..

تتفجر مع إبتسامهن مكامن الروح فيغمرنا السلام في حضرتهن..

هي جدتي.. أمي و أنا يوماً ما..

أنيقة ببساطة.. يعتلي جسدها ثوب ليلكي جميل.. مطرز بخيوط بيضاء و رمادية.. و تتناثر فيه بعض زهرات اختطفت لون البنفسج بدرجاته من حديقة الألوان..

يتجمل معصمها ببعض الحلي الذهبية ..

و محبس في أصبع يدها اليسرى.. يحكي قصة حب لا يقطع الموت أنفاسه..

تم استقبالهم في البهو الرئيسي للفيلا..

و قُدم لهم العصير و بدؤوا في إرتشافه ريثما تنزل سيدة المنزل..

ضجت أركان الفيلا بالزغاريد ..

رقص قلب عزة فرحاً و هي تسمع تكرار الأصوات و التباريك..

رن الهاتف .. فوجدتها مكالمة مصورة من طارق..

الذي اكتفى بالتلويح و وجه الكاميرا لأوجه السيدات الجالسات..

و كذلك للسيدات العاملات في المنزل اللواتي تولين الزغاريد..

و أهتزت الصورة بشكل مفاجئ و سمعته يقول..

أبشري .. أبشري ..

فعلمت أن إحداهن قد داهمته فرحاً..

هدأ الوضع قليلاً.. فلوح أخرى و أنهى المكالمة..

تحدد موعد الزفاف بعد مشورة الرجال في عقد القران..

 بدأت تحضيرات العرس باكراً..

فطقوس الزواج السودانية تتدرج إبتداءاً من (سد المال) و هو المهر و هدايا العروس من مصوغات ذهبية و عطور و غيرها..

ثم (الحبسة) حيث تمنع العروس من الخروج نهاراً من البيت و تُجلب لها سيدة تعتني بها.. فتضع خطة تمتد من أسبوع حتى شهر أو أكثر.. و ذلك بحسب حوجة العروس ..

فتقوم بعمليات تنظيف البشرة بالتقنيات السودانية الفريدة*..

فتخرج العروس قمراً ينافس بدر التمام..

و قد يتخلل هذه الحبسة (التعليمة) و هي طقس يكاد يختفي من بيوتات الفرح السودانية.. حيث يؤتى بسيدة تعلم العروس أصول الرقص و (الترترة) .. فكل أغنية تختلف عن مثيلتها تمايلاً و إنحناءاً..

ثم حفل الحناء.. يجتمع فيه الأهل و الأصدقاء في حفل تقدم خلاله وجبة العشاء..

و بعد ذلك حفل الزفاف و (الجرتق) الذي يعتبر في أهمية عقد النكاح في بعض مناطق السودان..

و اختصاراً هو طرد الحظ العاثر و جلب البركة و المحبة على العروسين..

و تفاصيله الجميلة تجعل أمسيته من أجمل ليالي العرس..

يرتدي فيه العروسين الأحمر..

و ذلك متمثلاً في (الثوب السرتي) للرجل و (القرمصيص).. و يلبسون بعض القطع الذهبية مربوطة على حرير أحمر..

و تعطر الأجواء بالبخور و عطور أهل السودان..

و في نهاية المراسم يُرش الحليب كلا العروسين الحليب على وجهيهما .. في مشهد يستعرض فيه كل منهما قدرته النفخية..

و بعد ذلك يكون الزواج قد اكتمل..

(يا الحرموني شوفتك)..

دندن طارق هذا المقطع لعزة و هو يتحدث إليها هاتفياً..

ضحكت بعذوبة و قالت له أنها ليست بحال أفضل منه..

أخبرها أنه مدعو اليوم للفيلا.. و أنه يرغب بشدة أن يراها..

فخطفت نسرين منها الهاتف و قالت له: سوف تسرق نورها كما تقول جدتي..

فقال: و هل يمكن سرقت نور الشمس؟؟

أعادت الهاتف لعزة و هي تضحك..

قائلة.. لم أستطع الرد عليه..

أخذت هاتفها و خرجت للشرفة لتتحدث إليه..

سقطت عليها بعض أشعة ضوء الأصيل.. رفعت يدها لتغطي عن عينيها الضوء ..

فأنكشف كم القميص الذي ترتديه.. فبانت بشرتها التي تشربت باللون الأصفر و صارت تحت أنظار الشمس كالتبرِ بريقاً..

سمعت أمها تناديها فأنهت المكالمة سريعاً و جاءت لتعرف ماذا تريد أمها منها..

بعد الفراغ من التوجيهات من كفاك حديثاً في الهاتف.. و لا تخرجي للشمس و لا تتكشفي للهواء و و و..

أخبرتها أن جدها قام بدعوة طارق لشرب الشاي معهم الليلة..

نظرت إليها وفاء و قالت: يبدو أنك تعلمين..

حسناً سوف تحضرين هذا الموعد .. فأستعدي و أرجو أن تلبسي شيئاً طويلاً..

أنا لا أريد حتى أن يرى كفك..

قهقهت نسرين.. و كيف ستسلم عليه خالتي وفاء؟؟

ابتسمت السيدة و خرجت و هي تهز رأسها..

إلتفتت عزة لنسرين.. غزلت جسدها كأنها تراقص هواء الغرفة.. فرحتها تطغى على كل شيء حولها..

في قلبها ذلك النوع من الفرحة .. النوع المعدي..

فأمسكت بيدها و أخذت تتمايل معها..

توقفت عزة فجأة.. ففزعت نسرين و سألتها.. ما بكِ..

فأجابتها عزة و كأن وحيّاً يتنزل عليها..

بقيت عشرة أيام يا نسرين.. فقط عشرة أيام..

احتضنتها نسرين و دعت أن تتم فرحتها و أن تكون بإذن الله أجمل عروس رأتها عيناها..

بالأمس القريب كان (سدّ المال) و قد وصل عدد مقدر من الأهل و الأصدقاء من السيدات و ذلك لتفقد الأوضاع بشكل عام و حتى يتسنى لبعضهن رؤية ما حضرتْ وفاء عبد القادر لوحيدتها من أشياء..

ليس هناك من داعٍ لتعرفوا كم بلغ المهر أو بأي عملة..

كما أنه ليس بالضرورة أن تعرفوا أن أطقم حقائب الملابس الخمسة قد كانت حدثاً في حد ذاتها.. هذا و إن غضضنا طرفنا عن العربات التي كانت تحتوي على أطقم الذهب و المجوهرات..

فإن باقي أساسيات الزواج من (ريحة لينة و ناشفة) تستطيع أن تزوج  غيرهم .. شخصين..

كان سد المال مهرجاناً من الألوان و الفنانة الملكة تتصدر المسرح و صوتها و إيقاع (دلوكتها) يُسكر الألباب..

فرقصت النساء حتى بدى عليهن التعب.. أما الفتيات فقد وصل بهن الأمر إلى أن يخلعن أحذيتهن..

تعمدت عزة أن تبدو طبيعية جداً..

فوضعت مكياجاً خفيفاً .. و نزلت درجات السلم و نسرين تتأبط ذراعها و تمازحها.. فتضطر لتكتم الضحكات كي لا يسمعها الجميع..

شُرق طارق بالعصير الذي كان يشربه ؛ عندما دخلت..

تنحنح قليلاً واضعاً الكوب على الطاولة.. و الذي كاد يسقط على الأرض لو لا أنه تناوله بسرعة..

أسعفته الضحكات المكتومة من الجميع فضحك..

إلا أن نظراتهم قد أربكته مرة أخرى.. و ما زاد ارتباكه أكثر هو خطوها نحوه..

كانت ترفل في عباءة بلون الزبرجد.. تظهر طول قوامها و تناسقه من غير توصيف..

و شعرها الفاحم مجدول في ضفيرة واحدة و معكوص أعلى رأسها..

ملأ صدره من عطرها و هي تقترب منه مصافحة..

أراد أن يطيل مصافحة يدها البضة ؛ إلا أنها سحبتها بسرعة و ناداها جدها لتجلس إلى جواره..

فأفسح لها محي الدين مجالاً لتمر من أمامه و تجلس..

اعتدل طارق في جلسته و كأنه طالب يواجه ممتحنه الخارجي لآخر مرة..

بدأ الشيخ الحديث بأهمية الزواج و قدسية رابطه..

و المسؤولية التي تقع على عاتق طرفيه و كيف أنه يجمع الأسر و يوحد بينها..

أطرق محي الدين و هو يسمع هذا الكلام.. ثم رفع رأسه موجهاً نظره لوفاء التي بدى عليها الإنتباه.. فعاد أخرى لإطراقه..

واصل عبد القادر حديثه و أجزل في الثناء على طارق .. الذي أسعده ذلك و شكره لحسن نظرته له..

*حسناً بعد كل الكلام سأدخل في الموضوع الذي جمعتكم من أجله..

تعلمون يا أبنائي أن المرء مهما طالت به الأيام فمصيره الموت ..

هتفت غادة.. عمرك طويل يا أبي.. فرفع يده ليوقفها.. ثم استطرد..

لذا آثرت أن أهبكم بحياتي بعض الهدايا..

محي الدين.. ابني و ذراعي الأيمن و وفاء ابنتي.. سجلت لكم المزرعة و ٣٥% من أسهم الشركة.. غادة .. لكِ ٢٠% من أسهم الشركة و هذه الفيلا.. و أنتما موجهاً ذلك لطارق و عزة فلكما ٤٠% من الأسهم و عمارة المنشية.. و قد قمت بتجهيز الطابق الأول بالكامل لا ينقصه إلا إختيار المفروشات التي تركتها لذوقكما الخاص..

أما ٥% المتبقية فقد سجلتها لسعيد.. عشرة عمري و صديقي العزيز..

عند تلك النقطة دحجه محي الدين بنظرة نارية لم يلاحظها سوى نسرين.. التي لم تستطع فهم سببها و مغزاها..

طفق الجميع يشكره على كرمه و تفضله .. ما عدا محي الدين الذي تعلل بمكالمة هاتفية جعلته يخرج من الغرفة التي كانوا يجلسون فيها..

انصرف طارق بعد ذلك بعد أن اتفق مع نسرين و غادة أن يأتي لصحبتهم غداً لإختيار أثاثات الشقة..

صعدت عزة لغرفتها مع خالتها و صديقتها فتبعتهم وفاء حاملة صندوقاً كبيراً..

تحلقت الفتيات حولها ففتحته ، فإذا به يحتوي على علب مجوهرات من مختلف الأحجام و الألوان..

أخرجت المشغولات الذهبية و بدأت تستعرضها لهن و تخبرهن بتاريخها..

و هن مأخوذات بجمالها و دقة صناعتها..

أخرجت أسورة كبيرة .. و أخرى أصغر منها قليلاً..

الأساور تتكون من عدد من جنيهات الذهب مرصوصة يإتقان و موصلة بإطار من الذهب الموشى بأحجار عقيق صغيرة..

أشارت للكبيرة و خاطبتهن..

هذه كانت لأمي عليها رحمة الله و قد تركتها لي كي أجرتق بها غادة و عزة..

و الأخرى لي .. صنعتها هدية لي..

و سأقوم بإعطائك إياها يا عزة.. أما الكبيرة فهي من نصيب غادة..

(أحفظ مالك) من أهم ما تورثه الأم لبناتها قالتها و الدمع يملأ عينيها المتعبتين..

فأحتضنها في حنان و قبلتها عزة في رأسها..

وجودك في حياتي يغنيني عن كل مال الدنيا.. و صحتك أفديها بأيام عمري يا أغلى الناس..

مالت على إبنتها و قبلتها على خدها.. ثم فتحت إحدى العلب المخملية السوداء و كانت تحتوي على طقم كامل قالت لها أنه هدية من محي الدين و معه علبتين أصغر حجماً.. إحداها مربعة فيها عدد من أساورنا السودانية و الأخرى فيها طقم ألماس يخطف الأنفاس..

ابتسمت عزة في جزل و شكرتها مجدداً..

أما أنت يا غادة.. فبقية هذا الصندوق لكِ..

فأحتضنته غادة و خرجت كلماتها بغصة.. صندوق ماما..

مسحت دموعها بظاهر كفها و حاولت أن تبتسم..

و قبل أن أنسى.. استدركت وفاء..

هذه هديتك يا نسرين..

و أعطتها علبة متوسطة الحجم.. حاولت نسرين أن تتملص من قبول الهدية..

إلا أن نظرة صارمة من وفاء جعلتها تعدل عن ذلك..

و ذكرتها أنها صارت ابنة لهذه العائلة و يكفي أنها جعلت عزة أكثر سعادة بصحبتها لها..

*دعيني أشاهد الهدية يا نسرين..

أخذت عزة العلبة و فتحتها بعدما غادرت أمها و خالتها الغرفة..

العلبة تحوي عقداً ناعماً و أسورة و قرطين..

كل قطعة تحكي قصة من الجمال و الروعة..

لم يستغرق تجهيز شقة المنشية وقتاً طويلاً..

فبحجم ثراء الشيخ و علاقات طارق تم الأمر في وقت وجيز..

أشرفت الحجة نفيسة على شراء آنية المطبخ و أطقم المائدة..

أما عثمان فقد كان يبدي كل ملاحظاته لمهندس الديكور الذي أنهكته ساعات العمل المتواصلة هو و عماله..

ثلاثة أيام بلياليها و أصبحت الشقة كصورة سقطت من مجلة ..

اتسمت بالأبهة و مظاهر الأناقة المفرطة..

لم تكن القديمة أمامها سوى صورة باهتة لشقة من عصر سحيق..

قامت نسرين و معها تغريد التي وصلت البارحة من السفر لحضور العرس بترتيب خزانة المفروشات ..

بينما تولت نفيسة و وفاء مهمة غرفة نوم العروس..

عثمان أنهى آخر التجهيزات..

و أخذ السيارة لمحل الزينة تحسباً لأي طارئ..

انهمك محي الدين مع سعيد في تحضير واجهة الفيلا و مراقبة نصب الخيم استعداداً لعقد القران و الغداء الذي سوف يليه..

من المقرر أن تقام حفلة للحناء للعروس لكنها آثرت إلغاءها فهي بالأساس لا تملك صديقات ليحضرن..

 لكن وفاء أصرت على إقامتها فهي لم تشأ أن ينقص من مراسم زواج إبنتها أي طقس..

لم أستطع أن أجد حروفاً تقوى أن تختزل كل ما حملته تلك الأيام في كلمات..

يكفي أن تعلموا أن كل شيء تم على أكمل وجه و في أبهى حلة..

انتقل العروسان إلى شقتهما بعد الحفل مباشرة..

حيث بقيا فيها ليومين و بعدها سافرا في شهر عسلهما..

احتفظت نفيسة بوظيفتها في الشقة ..

تحضر صباحاً بعدما يذهب طارق و عزة للعمل و تقوم بتحضير الغداء و ريثما تفعل ذلك تقوم بتفقد المؤن و الشقة و تنظفها ..

ثم تمضي باقي النهار مع سيدة والدة طارق.. التي أصرت عزة أن تسكن معهم في ذات العمارة بعدما رفضت الأخيرة العيش معهم في ذات الشقة..

و قد كانت الحياة بهذا المنوال قمة في الراحة للجميع..

حيث يتسنى لطارق المكوث في بيته و زيارة أمه وقتما يشاء..

بدأت نسرين أول خطوة في طريق مستقبلها المهني حيث تقضي فترتها التدريبة في الشركة و تسكن مع الحاجة سيدة في شقة الدور الأرضي..

تدهورت صحة الشيخ جداً في الشهور الماضية و عادت جلسات الغسيل و معها زادت نوبات غادة مما جعل من الصعب على الجميع أن يبقوا بعيداً..

و كان الأمر أصعب على عزة.. التي استغلت اجتماع العائلة في غداء أسريّ لتخبرهم..

أنها حامل..

ابتهج الجميع لهذا الخبر السعيد و قاموا جميعاً بتهنئتها و طارق الذي طغت فرحته على ملامحه..

سنصبح جدتين يا وفاء..

عبرت الحاجة سيدة عن فرحتها بهذه الكلمات و هي تحتضن عزة ..

و مضت الشهور سريعاً و حان موعد ولادة عزة..

كان المخاض صعباً جداً عليها و لا سيما و هي تستعد لإنجاب طفلين.. فقد كانت حاملاً بتوأم..

طالب طارق الطبيب بإجراء عملية قيصرية لها و وقف معاناتها..

و بالفعل تم ذلك بعدما وقع طارق على إقرار بإخلاء  الطبيب و المستشفى من أي مسؤولية ..

تأخرت عزة في غرفة الإفاقة بينما سُمح لطارق رؤية توأميه..

كانا فلقتين عن القمر.. صبياً و فتاة..

و عندما استبد القلق بالجميع.. حضر الطبيب ليوضح سبب التأخير الذي عزاه لتعقيدات حدثت أثناء العملية و أنها ستستفيق قريباً..

ارتفع صوت طارق و محي الدين اللذان احتدا على الطبيب الذي انسحب فوراً تاركاً إياهم ما بين منهارٍ و غير مصدق..

اضطر محي الدين أن يطلب من جميع الزوار الذين جاؤوا للسؤال عن عزة مغادرة صالة المستشفى التي اكتظت بهم..

على أن يطمأنهم عنها حالما تتوفر معلومات..

كان وقع ذلك عظيماً على أولئك الذين تعاملوا معها عن كثب..

و بطبيعة الحال انصرف من حضروا مجاملة لأرباب عملهم دونما أن يكترثوا حقاً..

بقيت الحاجة نفيسة مع وفاء و الحاجة سيدة في غرفة الإنتظار الداخلية للعناية المكثفة ، بينما كانت نسرين تقف مع طارق في إنتظار الممرضة التي ستجلب التوأمين..

لم يطل ذلك إذ أتت و هي تدفع سريراً مزدوجاً من الحضانة و تتقدمهم لغرفة خُصصتْ لعزة حينما أُدخلت بادئ الأمر..

كان الشيخ عبدالقادر يجلس على كرسي ممسكاً بمسبحته .. و صوت كل حبة تسقط على الأخرى يبعد غادة عن الواقع.. كأنه يقوم بتنويمها مغناطيسياً.. و هي تنزوي في ركن بجانب النافذة..

ألقت الممرضة التحية عليهم و تبعها طارق و نسرين..

*لقد تناولا رضعتهما الآن.. سأتي بعد ساعتين بإذن الله لأخذهما للحضانة..

أتمنى أن تكون أمهما هنا في المرة المقبلة..

**يا رب.. قالها طارق بصوت يائس حزين..

ربت الشيخ على كتفه و هو يحمل وليده و يتفرس في ملامحه..

في تلك الأثناء حضر الباقون بعد أن اتصلت بهم نسرين تبلغهم أن الوليدين في الغرفة..

كانوا يتبادلون حملهما بين أذرعتهم و يقبلونهما .. كأنما يبدلون كل طاقة الحزن التي استعمرت قلوبهم بأخرى جميلة.. تستمد روعتها من هذه الوجوه البريئة..

طرق ممرض الغرفة و طلب زوج السيدة عزة محي الدين أو من ينوب عنه..

من لون الزيّ الذي يرتديه عرف الجميع أنه من طاقم العناية المكثفة..

شخصت كل الأنظار و خارت القوى..

تسمر طارق في مكانه و كادت قدماه أن تخوناه.. إلا أن يد محي الدين شدت على ذراعه و أعادت الدماء إلى عروقه..

أنا أبوها و هذا زوجها..

ماذا هناك يا بني.. أرجو أن تطمئننا.. فنحن كما ترى ..

و أشار بيديه على قلة الحيلة..

تبسم الممرض و أعتذر عن أسلوبه..

و أكمل..

الحمد لله لقد أفاقت السيدة عزة.. و هي الآن تحت المعاينة ، لكن الأطباء يريدون زوجها ..و  ليست لدي معلومات أخرى للأسف..

خرج طارق من الغرفة و حمداً لله على السلامة تزاحم المسامع مع الحمد و الشكر لله..

استقبله الدكتور مصطفى أمام قسم العناية المكثفة و دخل معه لمقابلة دكتور ياسر .. الطبيب الذي يتولى حالة عزة..

جلسوا في المكتب.. و بدأ

د/مصطفى حديثه مع طارق و شرح له أنه قد تكونت جلطة أثناء العملية في الرئة اليسرى ، و قد أحدث ذلك تعقيدات في العملية .. حيث نقص معدل تشبع دمها بالأكسجين.. و خوفاً من تأثر باقي أعضاء جسدها و خصوصاً المخ قاطعه د/ ياسر .. اتفقنا أن نبقيها تحت منوم بسيط و نحاول ضخ الأكسجين بمعدلات تجعل الرئة قادرة على معاودة عملها الطبيعي ..

و قد نجحنا و لله الحمد في ذلك.. و الآن و بمعاونة

د/ مصطفى سوف نقوم بما يلزم لإذابة تلك الجلطة..

يمكنك الآن زيارتها.. و ليكن ذلك سريعاً ..

 

انحصرت دعوة العقيقة على المقربين فقط من العائلة و تم توزيع اللحم على كل من خطر ببال وفاء و سيدة..

أصرت عزة أن تستقر في شقتها حتى يعتاد وليديها على أسرتهما و غرفتهما.. ضاربة بكل توسلات أمها لتبقى معها عرض الحائط..

إصرار غريب أن تتم الشهر في بيتها..

*ماما.. أريد أن أرتب حياتي و أقف على قدمي.. لا أريد أن أعتمد على أحد لإيقاظي لأرضع كرم.. أو يبدل أحد غيري حفاظة جود..

يكفي الأيام التي كانت ما بين ولادتهما و احتضاني لهما..

* لن أتركها لوحدها يا وفاء.. أعدك..

إلتفتت لحماتها بودّ و خاطبتها..

* حتى أنتِ ماما سيدة.. لن تغيري نظام حياتك لأجلنا..

يكفي ما مررتم به.. و إن احتجت شيئاً ؛ فلمن سألجأ بعد الله؟؟ إليكما.. صحيح!

ظنت أنها أقنعت الجدتين.. لكن هيهات..

فنحن ما نزال أطفالاً في عيون أمهاتنا مهما كبرنا.. و بغض النظر لكم مرة أنجبنا.. أو حتى لو وخط المشيب مفرقنا.. نحن ما نزال أطفالاً..

دعواتهن تحوطنا.. تقيل عثراتنا على دروب الحياة و تعمل كدرعٍ يحمينا من الشرور و العين و الحسد.. كأنهن تميمة حفظ أنعم الله بها علينا..

امتلأ قلب عزة حبوراً و هي ترقب وليديها بين أذرع جداتيهما و هن يغمرنهما بالمحبة التي لا تعرف الشروط و لا تعترف بالحدود..

تكفلت الحاجة نفيسة بإعداد وجبة الغداء التي تمت دعوة الجميع لها..

إحتفاء من طارق بقدوم زوجته و وليديه لمنزلهم..

و برغم أن اليوم كان متعباً لنفيسة و نسرين التي أصرت أن تساعدها و كذلك غادة، إلا أنه كان من أجمل الأيام التي جمعت العائلة في مكان واحد..

و بعد منتصف الليل بقليل استأذن آل الشيخ عبد القادر مغادرين و صحبتهم سيدة و نسرين لشقتهما في الدور الأرضي ..

أما نفيسة فقد كان عثمان قد أوصلها لبيتها بعد العاشرة ..

وقف طارق بجانب عزة و هي تجلس على الكرسي الهزاز حاملة كرم .. فقد أتم رضعته قبل قليل.. بينما جود تغض في سبات عميق..

شعر أنه أسعد مخلوق يمشي على هذه الأرض..

فكل أمنياته تحققت..

عزة .. و ها هي تهديه جود و كرم.. الذي قرر أن يمنحهما إسميهما لتفضل الله عز و جل عليه بصحة أمهما و عافيتها..

ابتعد ليدعها أن تضع كرم في سريره..

و طبع قبلتين في كفه و ارسلهما لكرم و جود..

أمسك بيد عزة و خرجا من غرفة الأطفال بعدما ضبطت عزة جهاز النداء..

أغلقت الغرفة عليهما بهدوء، فتناولها طارق من خصرها و رفعها عالياً..

تعلقت برقبته خوفاً من أن تسقط..

خطوة و الثانية و كانت في غرفتها ، استسلمت لأحضانه و لقبلاته على عنقها..

وضعها على السرير و أضجع بجانبها..

* نوّر بيتنا و شارع بيتنا..

و أخذ يدندن باقي الأغنية لها و هي تضحك بنشوة..

أشار لسطح الطاولة الجانبية.. بعينيه..

إلتفتت لتجد علبة مخملية .. فتحتها فوجدت ثلاث جنيهات ذهبية..

فسألته بعينيها أيضاً..

أنْ ما هذا..

فرد بنفس الطريقة..

هي لكِ..

إنفجرا ضاحكين و وضعت كفها على فمه كيلا يوقظا الطفلين..

فاحتوى كفها و قبلها بحنان و قال لها: هذه بعض جنيهات وجدتها في جرة قديمة..

فهزت رأسها ليكمل الحكاية..

و كان يحرسها جنيٌّ مشاكس.. رفض أن يعطيني منها شيئاً ..

فأخبرته أن زوجتي قد أنجبت لي توأمين..

فسمح لي أن آخذ فقط هذه الثلاثة..

و وعدني أن يعطيني إثنين كل شهر لأهديك لهما..

احتضنته و هي تضحك..

* يا لك من حكواتي فاشل..

أنا لا أريد جنيهات ذهبية.. أنا أريد أياماً و ذكريات حلوة فقط معك..

غمرها بمحبة و اختفيا داخل أغطية السرير..

أشتد سوء حالة الشيخ بشكل مخيف..

لم تنجح جلسات الغسيل المكثفة التي مرّ بها.. و أخيراً قرر الأطباء ضرورة إجراء  عملية زراعة كلى..

و بالفعل بدأت الفحوصات..

آثر الأطباء أن تكون البداية بوفاء و غادة.. و  كانت نتيجتهما عدم تطابق في فصيلة الدم.. فلم يكن هناك من داعي لفحص الأنسجة..

صدم ذلك العائلة و أدخلها في حالة من البؤس و الوجوم..

طمأنهم أحد الأطباء بإقتراح شراء كلية من أحدى عيادات الدول الجارة..

استنكرت عزة الأمر و أصرت على إجراء الفحوصات ، برغم حداثة ولادتها.. فلم تتجاوز الخمسة الأشهر..

و لم تشفع توسلات طارق و رفض محي الدين للفكرة جملةً و تفصيلاً..

أما وفاء فقد بقيت بين نارين..

و لستُ أدري ماذا أسمي ذلك الحظ..

فقد كانت كل النتائج مطابقة بصورة مذهلة..

ثار طارق في وجه عزة و هي تتجاهل حديثه عن صحتها و حوجة أبنائها لها..

* يا عزة.. اتركي لي مجالاً لأكمل حديثي!!

من حقي أن يكون لي كلمة فيما يجري..

قاطعته مجدداً..

* هل تتوقع مني أن أترك جدي يعاني كل هذه الآلام و بيدي أن أريحه من عذابه..

إن فعلتُ ذلك فلن أكون ساعتها عزة محي الدين التي تزوجتها..

أمسكت بيده تتوسله أن يهدأ قليلاً.. و أخبرته أنها تعرف أن حبه لها هو ما يجعله يتخوف من إجراء الجراحة..

و هي لم تشأ أن تغضبه أو أن يبدو رأيه غير مهم بالنسبة لها..

أدار وجهه للجهة الأخرى في محاولة منه أن يخفي عنها دموعه التي بدأت تغزو مقلتيه..

و بصوت ضعيف أجابها..

* عزة.. أنا لا أعترض على تضحيتك .. إنما لا أريدك أن تنسي كيف تعرضتِ لتلك الجلطة..

لا أستطيع تحمل فترة عصيبة أخرى.. لم يعد في مقدوري أن..

و خنقته الكلمات.. فصمت..

و في فيلا الرياض لم يختلف الوضع كثيراً عن شقة المنشية..

فمحي الدين يرغي و يزبد ..

* وفاء.. بأي منطقٍ تتحدثين؟

كرم و جود في شهرهما الخامس.. و لا يستطيعان الإستغناء عن أمهما، ناهيك عن صحة عزة التي تدهورت عن السابق بفعل الحمل و الرضاعة.. و تلك العملية التي أجرتها..

أنا لا أعترض على الجراحة إلا من أجل معزتي يا وفاء..

لم تجد وفاء ما تجيبه به..

فجلس على المقعد محاولاً أن يكسبها إلى جانبه ، فبضمانها إلى صفه من الممكن أن تثنى عزة عن عزمها التبرع بكليتها لجدها..

و لكن باءت خطته بالفشل.. فوفاء أضعف من أن تواجه أباها أو توجه ابنتها..

ذهب لعزة في الشقة بعد يومين من نقاشه مع وفاء الذي لم يخرج منه بفائدة..

* يا ابنتي.. لا أحد يُخلد في هذه الدنيا و كلنا لفناء.. و لن يأخذ أحد غير نصيبه الذي قسمه الله له..

فأرجوك أن تضعي في إعتبارك كلاً مني أنا و طارق و طفليك..

ماذا سيحدث لنا لو لا قدر الله حدثت لك نفس تلك المضاعفات من العملية؟؟

أنتِ لا تدركين فداحة تلك الأيام و وقعها علينا..

* بابا.. لقد أجبت نفسك بنفسك..

سألها مستغرباً: ماذا تقصدين؟؟

فقالت بحزم: ألا أحد يأخذ غير ما قسم له من الدنيا..

و أنا أقتنعت أن أهب جدي أسباب الحياة..

هبّ واقفاً.. ألا نعني لك شيئاً..

ألا تعنيك توسلاتي شيئاً؟؟

عزة.. أرجوك أن تعيدي النظر في الموضوع..

و لا تنسي أن محاولة التحصل على متبرع مجهول ما تزال مستمرة..

حاول أن يمتص انفعاله لكنه فشل..

*عزة.. أنتِ لن تتبرعي بكليتك لجدك.. و هذا آخر ما لديّ..

و خرج مغاضباً..

لم يكن أمامه إلا أن ينتهي الموضوع من أول نقطة بدأ منها..

ركب سيارته و ألقى نظرة على الشرفة حيث وقفت عزة تراقبه و هو يغادر..

أدار المحرك و أنطلق كرصاصة مهمتها الوحيدة أن تحمي حياة من يحب.. حتى لو كان ذلك آخر ما يفعله في حياته..

توقف أخيراً أمام منزل المزرعة.. استقبله سائس الخيل و فتح له الباب و سأل إن كان يرغب بكوب شاي أو قدح قهوة فشكره على عجل و طلب منه إرشاده لمكان الشيخ عبد القادر.. فأخبره أن سعيد قد جاء قبل نصف ساعة و أخذه للفيلا..

* يبدو أنك مررت بسيارتهم في الطريق دون أن تنتبه سيد محي الدين..

* فعلاً يا صالح.. فبالي مشغول جداً..

فأجابه صالح.. كلنا ندعو للشيخ بالسلامة..

نظر إليه شزراً.. و ركب سيارته و انطلق مرة أخرى دون أن يودع الرجل.. الذي بقيّ يحدق في الغبار التي خلفته السيارة..

لم يعلم محي الدين كيف وصل للفيلا.. لكن حمد الله تعالى أنه لم يتعرض أو يعرض أحداً لحادث..

وجد سعيد في وجهه.. فأعمى الغضب بصيرته قبل بصره و نهره بصوت مرتفع: أين سيدك؟؟

فأكتفى سعيد أن يشير بيده إلى أحد أركان الحديقة..

حيث وُضع مقعد تحت شجرة ظليلة..

شدّ محي الدين خطوته إلى حيث يجلس الشيخ و أبتدره قائلاً : إلى متى سوف تمارس ديكتاتوريتك و تحكمك في أقدار من حولك و مصائرهم؟؟

هل تحسب نفسك إلهاً؟؟

ما أنتَ إلا شيطان في ثوب إنسان..

لم ينبس الشيخ بكلمة واحدة.. فقط أخذ يحدق في محي الدين الذي أنتفض و كان هائجاً كثورٍ في إحدى حلبات مدريد..

و عندما لاحظ محي الدين أن الشيخ لا يرد عليه..

جثى على الأرض .. صار يحدق في عينيه اللتان أكتساهما البرود و عدم الإكتراث..

* أو ليس لديك قلب؟؟

كيف تقوى تأخذ عزة من بين أيدي زوجها و طفليها..

من أمها و مني أنا..

هنا فقط برقت عينا عبد القادر كثعبان ..

و بصوت كالفحيح أجاب محي الدين: منك؟؟

و من تكون أنت؟؟ أنت يا سيد كلمة بقلم حبر على شهادة ميلادها..

هل صدقت أنك أبوها؟؟

هل حركت فيك مشاعراً بالأصل لا تنتمي لقلبك..

محي الدين النذير.. و رفع عبد القادر أصبع يده متوعداً..

أنتَ لن تمنعني أن أعيش..

يبدو أنك تستعجل موتي لتستحوذ على أسهمك في الشركة.. لكن ذلك أبعد من أن تناله يا محي الدين..

لا تجعل مخيلتك توهمك أنك شيء من دوني.. أنا من صنعتك.. و أنا الذي يستطيع أن يمحو اسمك و كأنه مكتوب بحروف من دخان في يوم عاصف..

صرخ محي الدين في وجهه بصورة أفزعت الشيخ..

* يا سيدي الفاضل.. أن لم أقبل عطيتك .. و يمكنك أن تسأل أستاذ سعد المحامي..

لقد تنازلت عن أسهمي لوفاء و غادة و عزة و قد ألحق ذلك بمستندات الوصية بعد أن وثقها..

أنتَ لم تصنعني يا شيخنا.. أنت حطمتني و سحقت أحلامي و استبحت كرامتي و رجولتي..

أنت أغتصبت خطيبتي التي هي ابنتك..

أرتجف الشيخ كورقة في منتصف أيلول..

و قد أنقذتها من بين يديك القذرتين لكنها لم تسلم من براثنك.. و حملت في أحشائها ثمرة خطيئتك.. جمرة تحرقني أنا و هي..

و حكمت عليها بالموت ببطء.. بل و قررت الإنتحار و قتل نفسها و جنينها.. لكني لم أحتمل فكرة العيش بدونها.. و تحملت أن أقاسمها عذابها و كراهيتها لك و أقسمنا أن نبغضك ما دام فينا عرق ينبض..

و جاءت عزة.. و نفيتنا للمزرعة حتى لا ترى في براءة عينيها صورتك الآثمة..

أنتَ لا تعلم عدد الأيام التي أضطررت فيها لحمل عزة بعيداً عن وفاء حتى تستطيع أن تعتاد أن هذه ابنتها و ليست ...

تحشرج صوت محي الدين و الغصة تسد حلقه..

استدرك محي الدين شيئاً..

فقام على قدميه..

*الآن فقط استوعبت ..

كل ذلك التغيير الذي طرأ عليك و عباءة الأنبياء التي أسبلتها عليك لم تكن إلا لخدمة مصالحك..

استمالتك لإبنتيك و لعزة.. أملاً أن تكون إحداهن متطابقة معك لتمنحك كليتها.. فكلهن كما أسلفت بناتك..

إغداق المال على عمالك و موظفيك طمعاً في دعوة صالحة علها تصيب إجابة..

أحب أن أقول لك.. لن تجاب دعوة لك.. صدقني فطهر كل تلك القلوب التي خدعتها سيكشف لهم أي أفعى أنت..

و ركل الطاولة التي كانت بجانب المقعد و تركه هناك لا يلوي على شيء..

سقط جندي واحد خلال تلك المعركة..

تناثر دمه في صمت.. و وسم بقطراته سيوف المتناحريّن..

قتلها مرة أخرى.. أعاد لها ذاكرتها دفعة واحدة..

تلك الذاكرة التي أجتهد أن يحرفها..

أن يحورها لخدمة نفسه.. استغل محبتها له و صغر سنها ليتلاعب بها..

لحسن حظها لم تفتنه كأختها.. لم تزينها له شياطينه عروساً و تحل له أن ينتهكها هي الأخرى..

كم هي مسكينة غادة..

كانت كعادتها تحاول ألا تفصلها عن أبيها مسافة لا تستطيع معها سماع صوته إذا ما أحتاج شخصاً أو شيئاً..

تختبئ بين شجيرات ترتفع أغصانها لتغطيها.. كسارقة صغيرة تتلصص على جدار بيت..

و قد تهدم ذلك الجدار.. سقط عليها.. و اجتاحتها الذكريات كموجة عاتية..

غسلت عن عقلها كل ما حجبه الشيخ البروفيسر عبد القادر العبيد..

بترهيبه لفتاة في الخامسة من عمرها و حرمانها من الحياة الطبيعية مع أقرانها خوفاً من أن تبوح بسره..

و أحاطها بأشخاص كل ما عرفوه عنها أنها صبية مضطربة و منعزلة إجتماعياً..

سقط قناع الشيخ و تبدى أمامها على حقيقته..

الآن بإستطاعتها أن تسترجع كل شيء بوضوح..

لم تعد هناك من نقط ضبابية أو فارغة..

تذكرت أمها و وفاء و محي الدين و سعيد..

تذكرت أن أمها كانت تبرر قلة إكتراثها بها ؛ بأنها جاءت قسراً.. فهي لم ترغب بطفلٍ ثانٍ من ذاك الرجل..

و أن فرق السنوات الطويل بينها و وفاء كان يصورها كأنها نسخة عن تلك المرأة التي تستكثر عليها ضمة حانية..

لذا لم يكن لديها ملجأ و ملاذ غير أبيها..

و قد كان يعاملها بشكل لطيف بعكس ما كان يفعل مع الجميع..

تعلقت به و كان كل حياتها.. و حياتها لم تتعدى الخمسة أعوام و تلاشت بعد ذلك الأيام من رزمانة عمرها..

جعل منها شبحاً .. تمشي بين الناس كخيال..

استفاقت من هول ما حدث سابقاً و شعرت أنها شخص آخر كان مسحوراً و قد كُسرت اللعنة التي لحقت به..

أبعدت عن وجهها فراشة كانت ترفرف، وقفت على قدميها.. إلتفتت على الناحية التي يجلس فيها الشيخ الذي أصابه الذهول.. كمن يشهد القيامة.. و ربما فعلاً هذه قيامته..

*غادة.. غادة.. و حتى تلاشى صوته لم تلتفت مرة أخرى أو تتقهقر خطواتها..

صعدت السلم درجتين درجتين، في عزم لم تعهده في نفسها و لم تشعر به أبداً..

فتحت باب غرفة وفاء ، فوجدتها منخرطة في بكاء مرير..

لم تأبه بها و لم تكلف نفسها مشقة أن تعطيها منديلاً لتمسح به دموعها..

أمسكت بهاتف وفاء و طلبت منها الإتصال بمحي الدين..

لم تمر إلا بضع دقائق و محي الدين يدخل هو الآخر إلى غرفة وفاء و يغلقها وراء ظهره..

جلس حيث أشارت غادة و بإستغراب سألها ما الذي يجري؟

* لقد تذكرت كل شيء.. كل ذلك اليوم بتفاصيله..

جعلت المفاجأة دموع وفاء تتجمد في مقلتيها.. و أقشعرت كل سبيبة في جسد محي الدين..

ساد الغرفة صمت قاتل.. صمت أسود كذلك اليوم الذي أستباح فيه عبد القادر طهر إبنته و براءتها..

و أنزوت بمحاذاة النافذة و بدأت تحكي ما جرى ..

و النار تستشري في قلب محي الدين.. فدبت فيه رعشة شملت جسده كله ..

تغيرت ملامحه و أسّود وجهه..

بينما تحدرت دموع وفاء بغزارة..

* لن تنفعنا هذه الذكريات السيئة و لن نغير شيئاً بإجترارنا لها..

لكننا نستطيع أن ننقذ الشخص الذي ذقتما الأمريّن عمراً كاملاً من أجله..

و استطردت غادة..

* ربما لم نكن نقدر أن نقف أمام سطوته و جبروته، إنما الآن فنحن نستطيع أن نتحرر منه..

سوف نمنع عزة من أن تهبه كليتها..

حتى لو اضطررنا أن نحكي لها حقيقة ما حدث في الماضي..

سمعوا شيئاً يسقط في الخارج..

و عندما خرج محي الدين مسرعاً ليعرف سبب ذاك الضجيج لمح سعيد في منتصف السلم و هو يخطو منصرفاً ..

استوقفه محي الدين لكنه لم يمتثل و واصل نزول الدرج.. فما كان من محي الدين إلا و نزل خلفه ليجده واقفاً بجانب الشيخ ..

* إذن .. لا يستطيع الكلب الإبتعاد عن سيده..

أخفض سعيد بصره أرضاً و هو يشعر بالإهانة تنخر عظامه..

*سعيد ليس كلباً.. و إن كان وفياً لليد التي أطعمته و أحسنت إليه.. فهذا دليل على معدنه الأصيل..

ليس مثلك.. تحرض بناتي علي و تتآمر معهم لتحرموني أياماً أخرى أعيشها ؟؟

رفع سعيد بصره لمحي الدين في شماتة ظاهرة..

ضحك محي الدين بإستهزاء..

* سعيد شخص بلا رجولة و بلا إنسانية..

أعلم أنه كان يجلب لك الخمر و الفتيات في المزرعة..

لكني لم أتوقع منه أن يتجرد من كل شيء و يتستر عليك في إغتصابك لإبنتك..

و كافئك سيدك بنسبة من ماله ليضمن سكوتك حتى تلاقي ربك..

حسناً.. ماذا ستقول لربك؟؟

تصور أن وفاء كانت من لحمك و دمك.. و هذا الحيوان يستبيحها..

تخيلها زوجتك.. قريبتك..

ماذا كنت فاعلاً؟؟

غارت عينا سعيد في محجريهما..

* كفى.. لن أسمح لك أن تنطق كلمة واحدة و أنت تقف على ملكيتي..

أخرج.. صاح عبد القادر بما تبقى من صوته..

* محي الدين لن يخرج..

كان الصوت واثقاً.. صارماً..

* غادة؟؟ خرجت حروف اسمها بنبرة صوت خافتة..

* نعم يا أبي .. غادة..

لقد اتصلت بسعد المحامي الذي كان سعيداً بتفعيل الوصية..

هذه الفيلا لي و أنا أحدد من يبقى و من يرحل.. و من غير أن يرف لها جفن  قالت : سعيد أنت غير مرحب بك هنا..

و شيء آخر قبل أن تنصرف.. لقد طلبت من سعد أن يرفع عليك قضية استحواذ.. لأني أملك نسبة الأسد من أسهم الشركة بعد تنازل محي الدين عن نصيبه فأنا أرغب في نسبتك..

انتفض الرجل و كادت تصيبه نوبة قلبية..

و إن لم تقبل بالتسوية التي يجلب أوراقها المحامي بينما نحن نتحدث الآن ، فسوف تخسر كل ما لديك في المحاكم..

خارت قوى الرجل و أستند على الحائط و لم يلبث كثيراً و تكوم أرضاً يبكي و يتوسل..

و بالفعل حضر المحامي و تم كل شيء بسلاسة..

أخذ سعد المحامي حقيبته الجلدية السوداء و أنصرف..

بعدما وُقِعت الأوراق.. طوعاً أو قسراً..

* أخيراً و ليس آخراً..

تعالي يا وفاء.. مشت وفاء ناحية غادة بتردد..

آن لك أن تواجهي هذا الذئب.. قالتها غادة و هي تنظر في عيني أبيها..

* ليس لدي ما أقوله.. غير أنك دمرت حياتي..

كنت ألوم نفسي .. و أحملها وزرك..

كنت أقول لنفسي ربما أغرته أنوثتي و طريقتي في الحديث أو المشي أو حتى في ملابسي..

كنتُ أبحث عن سبب منطقي واحد يبيح لك ما فعلته بي..

و لولا محي الدين بعد الله تعالى ، لست أعلم ما الذي كان سيحل بي..

و من كل هذه المأساة خرجت بعزة..

بمعزتنا و أمسكت يد محي الدين كأنما تستمد منه قوتها..

و لن أسمح لك مطلقاً أن تؤذيها..

* لقد آذاها و انتهى.. و كذلك فعلتم جميعاً..

صعقهم الصوت.. كانت عزة تقف قبالتهم و يبدو أنها سمعت كل الحديث.. بحذافيره ..

لم تكن حالة الذهول تتملكهم وحدهم.. فطارق الذي كان يدفع طفليه في عربتهما تسمر في مكانه كالتمثال..

لماذا كلما تفجر الموقف بذكر هذا الموضوع يكون طارق في أحد الزوايا؟

هل لأنه القشة الوحيدة التي تعول عليها عزة لتنقذها من ضياعٍ كان هوية عمرها ..

مشت عزة خطوة نحوهم و ترنحت قليلاً فهب طارق لنجدتها.. و جثم معها على الأرضية ..

و لفترة من الوقت لم يجد أحد كلمة ليقولها..

* طارق.. أنا أتفهم تماماً إذا ما أردت أن تهجرني بأي شكل كان..

و أنا حقاً لا يسعني أن أطلب إليك أن تضغط على نفسك من أجل أي شيء .. فحتى أولادك أنا لن أحرمك إياهم..

قطب طارق حاجبيه و هو يستمع لها بذات الذهول الذي تركته فيها مكاشفة أهلها قبل قليل..

* و أقسم لك.. كنت سأخبرك لولا أنني  قد ضللت من هذا الرجل .. و أشارت إليه.. و الشيخ يطأطأ رأسه خزيّاً..

*عزة.. قاطعها طارق.. أستوقفته..

*أعرف وقع هذا الأمر عليك..

لأني عشت هذه اللحظة مرتين..

مرة سمعتهم صدفة و لم أكن أملك الجرأة لمواجهتهم .. و عندما فُتح هذا الموضوع، لأنني أردتك أن تعلم به قبل إرتباطنا قُلبت لي الأدوار و صدقت أنني ثمرة حب لا وصمة عار..

ارتحت من عذاب عشر سنوات ذقت خلالها أسوء أنواع جلد الذات..

لم يكن أحد يهتم أن يمعن النظر إلى داخلي.. و حتى من قبل أن تصدمني عدم شرعيتي..

لم أكن من النوع الذي يكوّن الصداقات و يقاتل من أجلها..

كنت أحاول جاهدة أن أجعلكم تنظرون إلي بشكل مختلف عما أراه في أعينكم..

أنتْ.. لم أشعر معك إلا بالخوف و النفور.. و أنتِ و برغم محبتك لي و معاملتك الحنونة ، كنتُ أشعر أن هناك ما يجعلكِ في بعض الأحيان تتصنعين ذلك..

أنتْ.. كانت تحيرني نظرتك لي.. كأنك تنظر من خلالي.. ثم تستدرك ذلك و تبتسم في وجهي بمرارة..

كان عبد القادر و وفاء و محي الدين يجلسون في خط واحد..

حتى هي.. و أشارت للوحة تضم جدتها الراحلة..

كانت متقلبة كفصول السنة..

لماذا لم أجد الأمن بينكم.. بين هذه الجدران؟؟

حتى تفجرت أمامي الحقيقة كاملة.. في أبشع خيالاتي لم أظن أنني ابنة غير شرعية.. و كأن ذلك لم يكن كافيّاً ، فأنا لست طفلة ثقة إنما نتاج رغبة حيوانية شنيعة و بشعة..

ينتهك فيها رجل ابنته..

محطماً بذلك كل تعرفه عن الأبوة و السند و العضد..

لم أشعر بالراحة إلا عندما غادرت الفيلا..

معاناة السكن في الداخليات و احساس الغربة التي تحكي عنه زميلاتي هناك.. كان يستفزني و يجعلني أتمنى لو أنني كنت مثلهن..

لذا لم أخبر أحد أن أهلي يسكنون ذات المدينة معي..

الآن علمتُ لماذا يكره بابا.. و ضحكت بمرارة.. الرجل الذي اختار أن يكون أبي.. لماذا يكره جدي.. أقصد أبي..

حقاً لست أدري ماذا أناديكم!!

و انتفضت واقفة على قدميها.. و طارق جاثم على ركبتيه يراقبها..

* لا يستطيع أيٌّ منكم تصور الذي مررت به و ما أمرُّ به..

كل الألم الذي يربض كوحش كاسر في روحي.. يتمشى فيها كيف يشاء..

ينهشني و يمزقني و لا يترك لي زاوية أستشعر فيها الفرح..

لماذا لم تتركها تجهضني.. صاحت في الشيخ الذي اكتفى بالإرتعاش..

* أنا لم أستطع تركها تفعل ذلك..

جاءها الرد هادئاً.. من محي الدين..

* لقد أحببت أمك أكثر من أي شيء..

و لم مستعداً أن أفقدها.. أو أن أغامر بفقدها..

أنا أعلم تماماً من هي و أن الذي حدث لم يكن ذنبها.. هي كانت ضحية رجل بلا ضمير أو إنسانية..

لم أقتنع رغم سُكْره الذي وجدته فيه و هي بين يديه كحمل صريع أن أجد في الخمر مبرراً له..

فعقله الباطني هو الذي قاده لهذا..

عزة.. أمضيت مع أمك ليالي لا تعد و لا تحصى نحتضن بعضنا و نبكي..

لم يكن بأيدينا أن نبدأ حياتنا بعيداً عن هذا الوحش..

فلقد كنت في بداية حياتي، بلا خبرة عملية تضمن لي راتباً يكفل حياة كالتي اعتادتها وفاء..

لن تعلمي مهما حاولتِ أن تتصوري كمية الحنق و العجز التي اعترتني..

كرجلٍ يرقب حبيبة عمره تقتات البكاء و تتنفسه..

و خوفاً عليها و على سمعة العائلة و رمق سعيد و عبد القادر بنظرة نارية..

آثرنا أن تستمر الحياة بشكل طبيعي..

بعد زواجنا السريع انتقلنا للمزرعة حيث ولدتِ .. و كنت حقاً نعمة من رب السماء..

معزتنا.. أنتِ نار إبراهيم التي صارت عليه برداً و سلاماً..

و فتح ذراعيه لها.. لترتمي بينهما و يجمعهما بكاء مرير..

كفكف محي الدين دمعه و ربتّ على ظهرها..

* أنت عزة محي الدين النذير..

و ستظلين معزتي لوفاء.. معزتنا معاً..

و إن كنتُ أنا قبلت أن ارتبط بأمك و هي حبلى بكِ ، فطارق الذي أعرفه لن يحمّلك ما ليس لك فيه ذنب..

قام طارق عن الأرض و اعتدل في وقفته و اقترب منها..

احتوى وجهها بين كفيه و قبلها على جبينها و احتضنها.. أجهشت بالبكاء أخرى..

و سمعوا صوتاً مدوياً.. كان صوت طلق ناريّ..

و إلتفتوا جميعاً ليجدوا الشيخ مضرجاً بالدماء و المسدس بيده و هو ينازع..

أسرعوا به للمستشفى حيث خضع لعملية استئصال للرصاصة ، تكللت بالنجاح بعد عدة ساعات..

تولى سعد المحامي كافة الإجراءات القانونية و تم التحفظ على الواقعة بإعتبارها حادثة تمت عندما كان الشيخ ينظف سلاحه و لم يأتِ ذكر لنية إنتحار.. خوفاً أيضاً على سمعة العائلة و الشركات..

تحلقه الجميع و هو في غرفته و الأجهزة متصلة به..

فتح عينيه رويداً رويداً و أخذ يطالعهم واحداً واحداً..

و نطق بصعوبة بالغة مما جعل محي الدين يطلب منه ألا يتحدث ..

إلا أنه أصر أن يتحدث، فأزاح قناع الأكسجين من فمه ..

* لم أجد الشجاعة أن أقف أمامكم بعدما عريتموني سابقاً ، لذا اخترت الهرب..

خانتني شجاعتي وقتها و أجد نفسي مجبراً الآن مواجهتكم جميعاً.. حتى أني أشعر أن روح زهور رحمها الله معنا في الغرفة..

كنت ولداً وحيداً و مدللاً.. من أولئك الذين لا يرفض لهم طلب .. أعيش في جاه أبي و أتنعم بثروته التي ورثها و أورثني إياها..

و كأي شاب ابن ذوات تلقيت تعليماً متميزاً و تزوجت من فتاة أختارها لي أبي.. فأبوها رأسمالي معروف و صاحب أكبر مصانع البلد..

لم أكن مخلصاً لها أبداً.. كنت أشعر أنني مجبر على العيش معها.. مع أنها تتمتع بالجمال و الثقافة و فيها كل ما يتمناه الرجل..

و تنهد بصعوبة.. إلى أن أنجبت وفاء..

و شغلتها عني و عن مغامراتي و فضائحي التي يعرفها الجميع..

كان معروفاً عني حفلاتي التي تنتهي مع ساعات الصباح الأولى.. و نوعية مرتاديها.. لم تكن الفتيات عندي سوى أعقاب سجائر أضيفها لمنفضة التبغ خاصتي.. لم يهمني أعمارهن أو ظروفهن التي ألقت بهن في طريقي..

كل ما أهمني وقتها أن أرضي رغباتي و أن أشبع شهواتي..

وقع حادث فظيع راح ضحيته أعز أصدقائي و كان زواجه بعد أسبوع.. و كنت أنا من يقود السيارة..

و خرجت أنا سليماً.. بلا كسور أو جروح أو حتى خدوش..

و تمكن أبي من أن يدفن القضية و الحادثة تماماً و أشيع أن صديقي هو من كان يقود السيارة..

تلك الحادثة كانت نقطة التحول في حياتي..

عدت لمقاعد الدراسة و تحصلت على الماجستير و بعده الدكتوراة..

توليت إدارة الشركات و كنت مثالاً يحتذى..

ثم ولدت غادة بعد سنوات طوال بعد وفاء.. فكانت صغيرتي التي حاولت أن أعيش معها لحظات حرمتُ نفسي بحماقتي أن أعيشها مع وفاء..

و لا أدري بعدها كيف أنجرفت أخرى لتلك المغريات و عاودت الشُرب و أرتدت جلسات المجون و كنت أستضيفها في المزرعة..

و في ذلك اليوم المشؤوم لا أعلم ماذا حدث لي.. لم أكن أنا.. كان شخصاً آخراً..

كان وعيّ محبوساً في ركنٍ قصيٍّ من ذاتي و يتملكني شيطان يحرك جسدي و يملي عليّ أفعالي..

و تهدج صوته..

و عندما أفقت وجدت محي الدين يستر ابنتي بخرقة وسخة.. ثرت في وجهه و أخذت أكيل لهما الصفعات و أتهمه في رجولته و شرفه..

و كيف يفعل ذلك في خطيبته التي كانت تحضر لزواجها بكل سعادة الدنيا..

لم أستوعب أنني من انتهك شرفها إلا بعدما وجدت أثره على ثيابي..

و أذكر أنه خرج يحملها بين يديه و أني حملت مسدسي محاولاً الإنتحار إلا أن سعيد حاول أن منعي مما جعل الرصاصة تصيب أحد الأحصنة لترديه قتيلاً..

بعد ذلك ذُعرتُ و لم أعرف ما أفعل لا سيما و قد كانت غادة مع محي الدين في السيارة و قد جاءا ليعيداها من المزرعة حيث يتم تجهيزها كعروس..

فخطرت لي فكرة أن أستغل صغر سن غادة و أحاول أن أغير تفاصيل القصة إن سألتني.. و أن أعيدها على مسامعها مراراً و تكراراً و قد ساعدني أحد أصدقائي و هو ضليع في علم النفس..

و الباقي تعرفونه..

و وجه كلامه بعناء لوفاء.. أرجوك يا ابنتي سامحيني..

سامحوني جميعاً .. سامحو....

و انطلق صوت حاد من جهاز مراقبة القلب..

تدافع على أثره طاقم من الأطباء و الممرضين الذين طلبوا منهم البقاء خارجاً.. ليتم إنعاش الشيخ..

و بعد ربع ساعة من المحاولات الحثيثة..

إنا لله و إنا إليه راجعون..

عظم الله أجركم في الشيخ..

نزلت كلمات الطبيب عليهم كالصاعقة..

توفي عبد القادر العبيد..

رحل تاركاً وراء ظهره أسئلة لا مجيب لها.. و أشياء كثيرة في القلوب..

حملت هذه الشهور الأخيرة معه أكوام من التضاد في الأحاسيس و المشاعر..

كانت أيامه الأخيرة كفيلة أن تنسي وفاء و محي الدين مأساة عمريهما.. و تبقي غادة في عالمها الخاص..

و أن تخلص عزة من عقدة ذنب لم ترتكبه..

لكن.. يبقى للقدر حكمه.. في أن يختبر الحب الذي في القلوب و يمتحن صلابته في مواجهة أعتى الصدمات..

انتهت أيام العزاء..

مرة أخرى عادت الفيلا لوضعها السابق.. لكن الحياة لم تأخذ مجراها القديم..

توترت العلاقة بين طارق و عزة جداً.. هي لم تصدق أن حبه لها يستطيع الصمود أمام كل العالم..

و أنه يعطف عليها و يضغط على نفسه من أجل ابنيه..

* و هذه الشفقة تقتلني.. تنهدت بألم و هي تخاطب نسرين التي تحاول جاهدة أن تعيد صديقتها لعقلها..

* عزة.. هل أشفق عليك أنا؟؟

هزت عزة رأسها نافية..

* حسناً.. لماذا تستكثرين على طارق أن تصدقيه؟؟

لماذا لا يقدر عقلك أن يستوعب أننا عندما نحب فعلاً ، فالعيوب لا تعنينا و لا ترى عيوننا نفس الصورة التي يراها الآخرون..

أنا أعلم أنه يحبك بكل خلية في قلبه..

فأمنحي نفسك فرصة أخرى .. عيشي حياتك طولاً و عرضاً..

فقد طُويت الأيام السود و ما ينتظرك فقط .. مواسم ربيع لا تنتهي..

* هل تعتقدين يا عزة أن طارق سوف يأتيه يوم و يذّكرك بهذا الأمر؟

هل تتخيلينه ذاك الرجل الذي قد لا يأبه لمشاعرك و يتخذ من معرفته لوضعك أن يعيرك يوماً؟؟

آن لكِ أن تعودي لرشدك يا عزة.. فحب طارق لكِ يظهر في ملامح وجهه..

قرع طارق باب الغرفة و أطل برأسه.. تراجع قليلاً عندما لمح أن نسرين تحيط عزة بذراعيها؛ غير أنها نادته و قالت أنها على وشك المغادرة..

فالحاجة سيدة بحاجة أن تذهب للبيت..

طبعت قبلة على خد عزة .. أمسكت بيد طارق و هزتها مودعة..

نظرت لهما من فوق كتفها و طارق يقترب من عزة في حذر..

أغلقت الباب خلفها.. مؤملة أن يعودا كما عهدتهما ..

* مساء الخير.. قالها طارق و هو ينظر في عينيها..

فردت عليه و صوتها يرتعش.. و هو يقترب منها هبت واقفة لتبتعد عنه ، لكنه كان أسرع منها و احتواها بين ذراعيه..

حاولت أن تتملص من بين يده لكنه شدها إليه.. و همس في إذنها بكلمات لم أسمعها.. بقيا على تلك الحالة ..

هو.. يحتضنها إلى جسده و يهمس في أذنها ..

و هي.. تقف على رؤوس أصابعها متعلقة في رقبته بعدما هدأت قليلاً..

أفلتها.. فوضعت يديها على صدره .. تسمع نبض قلبه.. بكفيها..

رفعت رأسها لتواجه وجهه الذي أشرق بإبتسامة أنستها كل عنادها و حملتها بعيداً .. أخذتها لأيام مضت..

كان فيها الحلم و الخيال.. كان بلاد الأمن و الملاذ..

كان فيها الحرية و الحب الذي لا يعرف الحدود و لا تؤطره نهاية..

قبلها على رأسها و تراجع خطوة.. و مدّ يده لها..

خطوتان و كانت يدها ترسم درب مستقبل جديد.. يتقاسمانه مع عائلتيهما الكبيرة و الصغيرة..

لم يأتي اليوم الذي كانت تخافه.. أن تقف وصمة عار أمام محبة طارق المطلقة لها.. لم يعاملها سوى بالإحترام الذي يكنه لها .. و لم يُفش سرها يوما و بقي بين صديقتها و عائلتها..

و صفحات دفتر صغير..

كتبت عليه : وحدها.. هذه الجدران تعرفني.. و ذيلته بتوقيعها..

عزة محي الدين..

 

النهاية..

 

 

 

 

منصة ليلى الثقافية

https://laylacp.net

2018م