Layla Cultural Platform

Home Login News Blogs LCP Contest 2017

%D8%B7%D9%8A%D9%88%D8%B1 %D9%85%D8%AD%D9%84%D9%82%D8%A9

%D8%B9%D8%AF%D8%A9 %D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8

 

  

 

طيور محلّقة

 

(القصص القصيرة والقصيرة جداً الحائزة على المراكز الأولى في مسابقة منصة ليلى الثقافية للعام 2017م)

 

  

 



 

 

العنوان: طيور محلّقة

المؤلف: عدة كتّاب

تصميم الغلاف: منصة ليلى الثقافية

ترقيم الكتاب بالمكتبة: 1800109017

صفحة الكتاب بالمنصة: https://laylacp.net/webaccess/book_view.php?id=1800109017

 



 

جميع الحقوق محفوظة © 2018 منصة ليلى الثقافية

Copyright © 2018 Layla Cultural Platform (LCP)

(https://laylacp.net)

 

هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع اﻹبداعي نَسب المُصنَّف – غير تجاري – الترخيص بالمثل 4.0 دولي

Attribution-NonCommercial-ShareAlike 4.0 International





 

 

القصص القصيرة

 

1.   مايا والبرتقال، بقلم معتصم محمد الطاهر

2.   يوم في حياة، بقلم سارة حسين علي





 

 

مايا و البرتقال..

 

بقلم: معتصم محمد الطاهر

 

 

كانت الساعة تقارب منتصف النضوج عندما أثمر باب المكتب عن برتقالها. كنا حينها ندير فناجين الحوار وزميلات العمل و سقينا إحداهن أقداحا مُرّة لرضاها أن تكون زوجة ثانية مال زوجها إلى الأولى مكانا وزمانا. بعد حين من شهور..

حضورها البرتقال كأن نوراً خرق قامة النهار أو كأنها خرجت غضة من شجرة حلمىحلمى ذلك الذى كنت أحمله صبياً - سماحا -.. ليس كحلمى تماماً، لأنه لا يملك كل ذلك الخيال الخلاق ليرسم مثلها فى يقظته أو أخصب أحلامه.

جميع مآذنى أعلنت لصلاة الانتباه.. نواقيس الدهشة أعلت رنينها.. ونداء يهتف بى "لا تقرب هذه البرتقالة فتكون من العاشقين". حتى شياطين الإنعتاق حذرتنى أن لا أقرب هذه الشجرة. وهاتف داخلى يشدنى، وملائكة العذوبة تسجد ثم تهرب عدا قلبى أبى واستكبر.

همست لـ(نجلاء) زميلتى - والتى يظهر من مواسم الإنبات فيهما أنهما من الحديقة ذاتها
قلت بأرق الساعد والمعول، جاداً بأكثر ما تحمل الأشجار من ورق :" أرجوك.. وأحذرك.. ثم أحملك مسئولية ما يحدث  إذا أثمرت هذه البرتقالة فى مكاتبنا مرة أخرى."

ضحكت (نجلاء) وقالت:- "لا تدنو منها إذن، فليس هناك ما هو أدنى من الأرض لتنـزل إليها." و ملائكة أخرى تسبّح بحبها و أخرى تحرسها و جن الحب يسائلني. مساء ذلك اليوم جلست أحكى لأطفالى قصة الخلق و (حواء) التى خلقت من ضلع (آدم) القريب وعن فلق البذور، و كأننى تعمدت قاصدا تناسى قصة الشجرة المحرمة.

 
صباح الغد أشرقت الشمس بلون البرتقال. المشردون على رصيف النهر خدودهم برتقالية الملمس واللون
تبادلوا بينهم قشور البرتقال ونزلوا إلى الشاطئ يمرحونشرطى المرور يشير بشريحة من البرتقال.
فيحييه السائقون بعذوبة. و تحول الأسفلت الى لون البرتقال.

 

وضعت أمامى السكرتيرة عصير برتقال فاعتذرت لها. فأنا منذ هذا الموسم سلة برتقال.
البرتقال مواسمى معها، لون الإدهاش منها، شرائح الحديث معها، مذاق اصطفانى طويلا، 
هي وسادتى و فطامى، تضاريسها أطلس اشتهائى و رضاب الينابيع التى ما قتلت صبابة.


سألت (نجلاء) عنها ضحكت.. فقد كانت هى تسأل عنى مساء الأمس أيضا.

قالت: "تعجبها. و يعجبها نضوجك، هذه ليست (ماياالتى أعرفها.. أسئلتها لم تدع للنوم طريقا إلا أغلقته ". أما أنا ففتحت أمامى مواسم وفصول من الـ… لا أدرى تحديدا

وقبل أن ينضج برتقال ذاك النهار كانت تزورنى فى المكتب. ليست من اللاتى يختلقن حجة أو سببا للزيارة او الحديث. قطرات قليلة من رضاب التلقائية ترتيب لوضع الألوان ثم إنعتاق الطعم.

و تذكرنا أننا تعارفنا منذ مئات السنين ولكنّا تأخرنا دهورا لنلتقى و خرجنا ذاك النهار معا لينتهي بنا المشوار إلى حديقة لنواصل حوارا لم نبدأه ولنكمل حديثا لا نهاية له لولا غيرة شمس ذلك اليوم وتحرُش غسقها بها.
ولأننا من تلك الذات الواحدة أو من عناصر ذرة الماء فلو أسرعنا قليلا لالتقينا منذ ذاك الضلع قبل ان يعوج و لأن، ولأن.. فهكذا سريعا كان حبا.. انتظرناه حتى تواجد أمامنا، فينا. لم يكن واقعا قاسيا، فقط تأخرنا بعض حين و سنين لنلتقى.

تلك السنين أنبتت فى عمرى زوجة وجدت فى بعض ما تمنّت، ووجدت عندها خيرا سائغا شرابه و جروفا و طميا و بعض احلام ومنى.

اخترتها دون عن من حولى وحولها. أحببتها، وأثمرنا أزهارا وفواكه. أحببتها قبل و عند ما التقت عيونى و(ماياو برتقال (مايا).

 
سالت (نجلاء) قريبتها أن نزورها فى الجامعة فوافقت فرحة و بابتسامة لها معناها. و تركتنا (نجلاء) و صديقات (مايا) فى خلوة حيث حاولت أن أقود النقاش نحو تفسير العلاقة أو تبريرها وأعلمتها أني انسان متزوج، ولكنها قالت " وهل يجب أن يكون للعلاقات هدف او خلاصة او نهاية " فأدركت أنها لا تريد تفاصيل الحوار و تفاصيل العالقة وخاصة أننا فى بدء علاقة لا نعرف أين نقف فيها الآن. و أنّ لنا أن تحتفي بهذا الذى داخلنا وبيننا وألاّ نفسده بتفسير غير مبرر.

 

 ثم تعددت لقاءاتنا، فكلما تمنيتها وجدتها أمامىوكلما اشتقتها ذهبت عندها. وما أكثر ما تمنيتها و اكثر ما اشتقتها. لم يكن غريباً أنّي كلما تمنيتها يصلها ندائى إليها فأجدها أمامي باسقة نضرة. علّها تدرك شوقى قبل أن أحسهكنت مكشوفا أمامها وواضحا بما هو مقدَر وبرغبتى. وجدتها ناضجة طاعمة فى مكان " المساخة " وشفافة فى زمن العتمة. مستجيبة لا منقادةألم تكن أول من خطى نحو هذه العلاقة عندما كنت أهذى مع قريبتها.!


علمتنى أناقة الحوار. حديثها كما أعد لعرس الكتابة بانتقاء المفردات و تقبلت حديثى الحافي على رمل نفسها المبتلة.
أنبأتنى بأسمائى كلها، فذهبت بها إلى الهشاب لأُدهش زهر البَرَمِ بلونها وأغيظ السيسبان
لم أندهس إذ عرفا أنها تحفظ من الشعر مقاطعه الحميمة وأنا أقرأ عليها مقاطع الشعر النضالى وأبيات من قصائدى الصدئةكنا نلتقى فيسعى برتقالها بين يدى وفمى وعيونى وكلّى.

قال صديقى وهو يراني كثير الابتسام و معتدل المزاج دوما: “كأنها أخذت عيونها وكوَت بها صفحة وجهك وجنوبه، إنه جزاء من يكنـز الحب والجمال”.. سألته : “هل يظهر ذلك على ملامحي؟ قال “نعم، كما الوحم فى أول شهور الحمل يعرفه من كابده“ ضحكت للتشبيه ولم أخجل من الشبهة.

 
 
ظلت (نجلاء) أقوى وسائل التواصل بيننا فدعتنا معا إلى مناسبات عامة وخاصة وكانت تجلس معنا لا أعرف فكرة من هى، لكنها أزاحت عنى شعور الاختباء وأشبعت ولو قليلا حاجتى لأن أعلنها على الملأ حبيبة وأخفيها عن الجميع علاقة غريبة. أما هى فقد رغبت دائما أن لا تتوسع دائرة من يعرفون العلاقة
أما أسرة (نجلاء) والتى تسكن معها حبيبتى فى فترة دراستها. فتقبلتنى كزميل وصديق لـ(نجلاء) ولكن ما بينى و (مايالم يخفَ على فطنة أختهم الصغيرة، وربما بقية الأسرة.

ظننا أننا قد ملكنا العالم كله وأنّ الدنيا كلها ملك يدينا و بعدنا عن سكانها وعلى مقعدنا المأثور فى تلك الحديقة فرشنا من أحاديث ونثرنا عليه من حب ونقاش وتهربنا من الحديث عن مستقبل العلاقة خوف المجهول القادم و جمال الحاضر.

وظننا أننا ابتعدنا عن الجميع لا أحد يمكنه أن يعرفنا فى ذلك الموقع حتى جاء ذلك اليوم الذى حيانى فيه أحدهم باسمي متبوعا بلقبى الوظيفى فضحكنا جيدا وقالت “وتظن أنك ابتعدت عن العيون والمعارف”.

وفى يوم أخر تعمّد أحد حراس الحديقة مضايقتنا لما رأى ترددنا على مقعدنا باسئلة ما له أن يسألها. فشكوته لرئيسه و سألته عن واجباتهم و لماذا لا يحب حراس الاماكن العامة المحبين والعشاق؟ و لماذا يضعون البرتقال فى السلال ؟؟ و لماذا يسورون الحدائق ؟؟ 

 

هذا الموقف جعلنى أفكر فى أننا جزء من مجتمع وتقاليد وتراث ولكن هذا المجتمع لا يمكن أن يفهم أو يحس بما نحن فيه، لن يفهمنا. لا أعرف هل كنت أغالط نفسى أم أرضى كبريائى أم هى أنانية التملك!! 
 
عندما حانت عطلة الجامعة ذهبت لوداعها وجعلنا للوداع طعما بمذاق البرتقال حلوا ومختلفا و كما لكل شىء فى حياتنا تصنع له طعما جميلا، الشوق، اللقاء، الأنس، ضم اليدين، حتى الوداع.
تلك البنت تعرف كيف تجعل للأشياء والمواقف طعم الأحلام. أليست هى التى خرجت من حلمى. أليست هى خَلقى الذى لم أستطع إنجازه ؟ 

ذات أريج كنت متلبسا بها واسترجع الفواح من خواطرى حين انتابنى عطرها ذاك الناضح دوما من مسامها. فشعرت بالزهر حولى يقرأ ذاكرة الفواح. بعضه افرج الشفاه اندهاشا وبعضه ضمها تأهبا للقبل. فأدانت وردة - حجبتها عن خواطرى فراشة - تسلط الألوان فى قلبي على الالوان فى عيني. حينها عرفا أني احتاج (مايا) فحملت شوقي فى سلة من اللحاق و وجدتنى ألحق بها فى مدينتها.


إلتقينا وقضينا نهارا فى قضاء بعض حوائجى ولقاء بعض الأصدقاء، ووعدتها بأن الليل لنا وحدنا. فسألتنى قبل أن ألقاهم: ”هم أصدقاؤك ويعرفونك فكيف ستعرفّنى؟ إنه وضع حرج لنا“

عندما التقيت صديقَىْ عرّفتها “(ماياحبيبتى“. هكذا بكل فخر وبساطة.

ولمّا التقيت صديقاً آخر مع خطيبته – و للصدفة هي زميلتها فى الثانوية و صديقة مشتركة- سألتنى تلك “ماذا تفعل مثلها معك ؟ يجب أن تبتعدا عن بعضكما رغم هذا الحب الذى أراه “. ردت علىّ – و ليس عليها – “دع عنك قولها ولك الحدائق كلهاو البساتين”

 فى طوافنا توقفنا عند مكتب قريبتها و التي كما الكثيرين فى طريقها لأمريكا وسألت (ماياأن تلحق بها. فتداخلت بتلقائية: “أما يكفى أمريكا ما أخذت... لن أفرط فى حبيبتى...”

بعد خروجنا قالت لى (مايا) ”لقد حولت اسمى إلى كنية لك وأخذت راحتك فى هذا اليوم. من تريد أن تقابل بعد ؟؟ نحتاج بعضنا بقية اليوم“.. 

كنت أود مقابلة صديقاتها فردت قائلة “لا أستطيع، يكفى أن صديقتي (سمر) قالت أننى منذ عرفتك لا أعرف طعما لأحد غيرك. هل تصدق أنها توبخنى بأنى لم أعد أستطعم غيرك !”

 “وهل هذا صحيح ؟”

 - إنه من حوار البنات ولا يدخل فى جدية العلاقات. ثم “أن هذه من الأمور التى اتفقنا أنها لا تدخل ضمن اجندة النقاش بيننا، هذه مساحتي.”

أذكر أنها من قال ذلك ولكنا لم نتفق عليه، أو أنني لم أضع له أهمية ولا أعرف بيننا شروطا أو غيرها
-  “
لو كان هذا صحيحا وأنه شعور حقيقى فأن هذه العلاقة خطأ وشعورك نحوى...  “

قاطعتنى بأننا اتفقنا أن لا يتدخل أحد فى خصوصيات الآخر

وهل هذه خصوصيات ؟ وهل هى آخر أم أنا الآخر ؟ وهل وافقت أنا على هذا ؟.. 

و هل من الخصوصيات أن تحبك من تصلى وتطلب السماح كل يوم من زوجتى التى لم ترها ولم تعرفها ؟؟ تصلى طلبا للغفران من خطيئة الحب والوقت الذى شاركت فيه زوجها.
بقدر فخر الرجولة فى أن أختصر فى عيونها كل الرجال، كان هذا سببا كافيا لأبتعد عنها لو استطع. ما أحببتها لأبعدها عن الكون. الآن أريد أن أعرف إلى أين تقودنا هذه العلاقة التى أعمتها عن غيرى وحرمتها منهم، و حجبت عنها بقية الرجال. فصارحتها بتفكيرى. “أحب أن أكون أجمل ما فى دنياك وأن أجمَلها لك أكثر، لكن أن أكون كل دنياك ؟ خاصة الآن وأنت تأخذين جزءا يسيرا منى.. و أنا لى غيرك و أكثر. انت تستحقين أكثر..”

هل تقصد دون ارتباط رسمى “ضحكت و منحتني برتقالة.

 
سألتنى ذات موسم برائحة المانجو “هل يمكن أن يحب الإنسان أكثر من واحد ؟”

لا اعرف لماذا أخذت السؤال بشكل شخصى..

أجبتها: “لا أعرف جيدا، ولكنك حبيبة القلب الأولى والمساحة التى تحتلينها فى قلبى لو لم تتركها “هى”خالية أو أهملت فى مفتاح قلبى لما وجدت مساحة لتدخلين. أقول لك : أظنك كنت فى القلب قبل أن يخفق، أو ربما تكونين قد عرفت حل الشفرة”.. 

وذهبت خواطرى قريبا.. أقرب من حبل الحبيب. فإذا بي مشغول بها عنها فاكهة من الزمان. وعيناى تحتسيان الدهشة من برتقال حدائقها. رأت اصرافى عنها بها فنشبت بيننا برتقالة فأخذتُ الأمر بمنتهى الرحيق، ولكنها كانت برتقالها كان حامضا جداً منى حتى أن اللون كان ينضج فيه. اعتذرت لها بكل رضاب الرياض حتى سكت منها البرتقال  وأومأت ببرتقالها راضية.


كنت صادقا فى حبها ووفيا معها ومع زوجتى فعند ما ألتقيها لا أخونها مع زوجتى ؟.. لم أقصد توزيع زمنى أو العدل بينهما فلك سبيل ولكل طعم.. فـ(مايا) بطعم البرتقال وزوجتى بطعم الحليب
فطنت زوجتى لانشغالي عنها يوما و قربي لها آخر. بداخلها دائما الإحساس بوجود امرأة فى حياتى. ربما تدرك أنها تركت مساحة خالية فى القلب أو أهملت مفتاحه. هل تعرف أننى فى حاجة لها أكثر من أى وقت مضى؟ أحتاج اتزانا، دوزنة، خريفا آخر ومواسم للإنبات. أحتاج فاكهة لكل المواسم القادمة.

 
نتيجة (مايا) فى الامتحانات لم تكن كما سابقاتها. و مبررات (مايا) الواهية وأن علاقتنا ليست السبب، لم تجد القناعة فى نفسها لتقنعنى. نعم قد حازت الدرجة القصوى فى حبى و لكنها تدنت درجاتها فى الامتحانات و هي التي تميزت بدرجات عليا. هكذا بدأت أحس بالذنب والحب كما تحس هى تجاه أسرتى.


- ”
ماذا رأي صديقاتك فيما بيننا ؟“ سألتها

- “إنهن لن يقاضيننى. فمن يراك تبتل قطرة فمطرا لا يملك حق القضاء،” ثم تبسمت و ألحقت قائلة : “ومن يأتى للعدالة يجب أن يأتى نظيف اليدين..”

- “وهل تبقى علاقتنا هكذا ؟ لقد بدأت آثارها السالبة..”

أن أحبك وتبقى العلاقة هكذا خير من أن أفقدك.. لا سبب يجعلنى أتخلى عنك. صديقتى (قمر) قالت لى “يجب أن نحتفظ بكل الأشياء الجميلة وما بيننا أجمل ما لاقيت، هل نعلّب هذه العلاقة ؟ ولماذا لا نحتفظ بالعلاقة والحبيب..”

- “تتزوجينى..” سألتها.

كان رد فعلها سريعا ومفاجئا.. عيونها الشقية بدأت تأخذ لون البرتقال المر و سريعا جدا بدأت تقطر رحيقها. وددت لو أني لم اسألها. لكنها قامت من جلستها ودخلت السيارة

لحقت بها و أوصلتها دون نقاش

مدّت يدها عند الوداع وتركتها قليلا فى راحتى دون ذلك الحوار الجريء بين أصابعي وأناملها

انصرفت دون أن تنظر خلفها حتى وصلت باب المنزل. التفتت ولم أرى تعبير وجهها جيدا.. 
فى الغد كانت قريبتها تحمل خطابا قصيرا “لقد اخترت فراقى وأفهم أسباب ذلك.. إذا التقينا مرة أخرى يكفينى منك السلام..”

قريبتها قالت لى “أعرض عن هذا”

سألتها أن تلتقي. فأجابت و استجابت. مجرد لقاؤنا كان عودة. رفضنا الانفصال، رفضنا فكرة الحياة دون فواكه. لم نتقبل فكرة الفواكه دون برتقال.


ذات خروج الى المروج والهروب من المدينة فاجأتنى بما سكتنا عنه كثيرا.

لا استطيع إرضاءك بما تحب و تشتهي مني. ولم استطع اقناع نفسى. و لن اقدر على اقناع المجتمع. لا سبيل لكل ذلك لن اتزوجك و أريد أن أكون لك“

لم اطرح ايا من افكارى على طاولة الفواكه فقد كانت مبعثرة. تعم لقد ترددت، خفت من كل الاحتمالات. و انتابتي آفة الصمت. وكما دخلت فى حياتى أخرجت نفسها، أختفت عن عينى عينيها دون أن تفارقنى، وعن مذاقاتى طعم البرتقال. من يعيد لى طعم الأشياء الأخرى. فكلما انتابتنى تشنجات الذكرى ملأت أنفى رائحة البرتقال. فعلى أن أشفى من العلاقة لا الحب و أسعى لسرعة الشفاء، فما زلت أحمل إحساسا رقيقا نحو البرتقال  فاكهة  و..(مايا)..



 

 

يوم في حياة

 

بقلم: سارة حسين علي

 

 

جرجرت قدميها تحمل أشياءها تعبة..

مسحت بطرف ثوبها قطرات عرق انسالت على وجهها ثم قالت: “الحمد لله.. “..

فكرت وهي تعبر الجسر كم هو بعيدٌ مشوارها.. أكملت الجسر ووقفت لتتنفس في عمق هواء النيل.. امتزجت قطرات العرق بدمعتين فرّتا على حين غفلة منها.. وقفت لتشير لقادم من هناك أن “تمهل أيمكنك حملي بضعة كيلومترات فقط لأريح قدمي المتعبتين”..

تجاوزها القادم الأول ببوق سيارته المعترض على وقوفها مشيرة لسيارةٍ قد تحملها وأخرج رأسه من شباكه المفتوح ليمنحها سُبّة عالية..

فكرت صامتة: “ألديه أم؟”..

سيارات عدة أطلقت ابواقها معترضة او منبهة على حين غفلة منها حين تخطت الشارع لتعبر للرصيف الآخر ليتوقف سائق حافلة:”إلى أين أنتِ ذاهبة يا أمي؟”ولم ينتظر إجابتها بل واصل:”يمكنني حملك عدة كيلومترات علّك تكونين أقرب لمكان ذهابك؛ إصعدي”

منحته نظرة انكسار مصحوبة بدعوات له بالعافية والرزق.. ثم صعدت للحافلة بعد ان اجابت:”شارع النيل”..

اخبرها ان “ضعي اشياءك امامك بحذر ربما بها ما سيكسر”..

انهمك في حديث طوال الطريق عن صعوبات العيش وشظفه..

الدولار المرتفع..

همهمت: ”ومالنا والدولار؟ لانعرف له لوناً أخضراً فليكن أو أحمراً”..  

واصل دونما التفات لهمهمتها التي اعتبرها تأييدا لتحليله الاقتصادي لاوضاع البلد عرّج نحو “ستات الشاي” بائعات الشاي والقهوة.. حمّلهن تحايا قلبية واكمل:”كانت أمي بائعة كسرة”..

حكى كيف تعبت لتربيه واخوته بعد موت الوالد وانه درس حتى سنته الجامعية الثانية لتلفظه مقاعد الدراسة حين عجز عن سداد الرسوم الجامعية ليعمل سائقا لركشة ومنها لسائق حافلة مملوكة لعم بعيد..

كان يتحدث لنفسه يسال ويجيب حتى ظنت انه يحاورها دوما دونما انتظار رد ودونما وجود رفقة..

حملتها همومها بعيدا عنه حين ذكر الدراسة..

لها ابن ينتظرها ان تعود بقليل من مال ليضعه بين يدي جامعته ليكون دكتورا كما تحلم دوما.. ودوما يخبرها: ”أمي أنا أدرس تربية؛ لن أكون طبيباً لايمكنني أن أكونه حتى”..

 لتهز راسها في تأكيد: ”ستكون دكتوراً بإذن الله؛ هذا مايهمني ستصبح دكتوراً.. أنا متأكده”..

ابن إختار دراسة التربية ليخبرها يومهها:”أتمنى أن يمكنني تربية جيل واعي بما نحن فيه وبما يحلم به؛ جيل يكون مجانية التعليم بالنسبه له واقعا معاشا”..

وابنة هي الاخرى تنتظر القليل من المال لتدفع رسوم كهرباء للمدرسة.. تخبرها دوما كذلك:”ياابنتي الكهرباء مقطوعة دوماً؛ ماهذه الرسوم التي يطلبون؟”..

انحسر ثوبها قليلا عن راسها فأعادته بجرة يد متعبة مرهقة كما يكون التعب مجسدا..

استفاقت على صوت السائق يسألها: ”لماذا شارع النيل ياأمي؟”..

ردت: ”أبيع الشاي والقهوة فيه”..

بابتسامة مشرقة قال: ”مكان جيد هو شارع النيل؛ لابد من أنك تربحين الكثير من المال حسبما أسمع؛ فالطلاب والموظفين يتوقفون دوما هنالك؛ وهذه الأيام هنالك سائحون حتى”..

ضحكت ضحكة مقصورة على صوت مكتوب يقرؤه من يعرف القراءة وليست هي منهم.. “هاهاها مربح؟؟ هاهاها”..

ضحكة مبتسرة مخنوقة متشققة كشفتيها المتشققتين؛ تعبة كما أرجلها المنهكتين؛ متألمة كما هي دوماً..

هز السائق راسه بتأكيد: ”نعم مربح أوتعلمين أنك لو بعتِ يوميا مائتي كوب كم ستربحين؟”..

أجابت هي ولكن لم يسمعها حين واصل تحليلاته..

السياحة.. الجاليات العربية.. الأجانب.. أنجلينا جولي التي قدمت للغرب وستأتي الخرطوم ممثلة في فيلم كبير.. السوريون المستوطنون الآن ومحلاتهم.. المثقفين وندواتهم الارتجالية..

تحدث وتحدث وتحدث ربما كثيراً حتى فكرت ماهذا السائق الذي لايصمت..

ماهمها والجاليات ومن هم الجاليات؟ السوريون مساكين رمتهم بلدهم خارجاً في حرب لاناقة لهم فيها ولاجمل.. جارتها سورية لها من الأطفال سبع تخرج صباحاً كل يوم لتمد يدها سائلة المارة ومابين إشارة مرور وأخرى تتمكن من لملمة ماتستطيعه لإطعام هذه الأفواه.. زوجها مات في الحرب.. لم تسألها يوماً كيف عبرتِ الطرقات لتكوني هنا ومالذي أوصلك حتى إيجار هذا المنزل جوارنا.. كانت تعود لتجدها مجرجرة أطفالها وحاملة نائمهم فتهزان الرأس متعبتين وتفتحان الأبواب نصف الثابتة في الحائط وتنامان لتعودا لنفس اليوم السابق مكرراً مرة أخرى..

ومن هذه ال”جولي جوني” أو مهما كان اسمها؟ ماذا يعنيها هي من تمثيلها؟.. ماهو التمثيل أصلا؟ ولم هو مهم وجودها هنا؟..

من هؤلاء المسغفين؟

مربح؟!!

أطلقت تنهيدة بالدعاء بالفرج فثمن ركوبها الحافلة هو استماعها لما يقول..

وهي تسمعه ولكنها لم تستطع الإنصات أكثر.. كل الخرطوم تضج بالألم محكياً وصامتاً..

زفرت آهة أخرى؛ مربح؟ لم تستطع الضحك.. آهٍ لو يعلم أن زبائنها ممن يشربون دونما دفع لأنهم لايملكون ولاتملك هي أن تردهم خائبين دون شاي أو قهوة يبدأون بها يومهم أو يتوسطونه حال قرف مما يحدث معهم..

مربح؟!! كم من مرات إستادنت من سعدية ولم تُعِد دينها فسعدية صارمة لقاء من يشرب ولايدفع..

مربح؟!! أهذا السائق يهزل؟..

وصلا لشارع النيل توقف جانبا: “أمي؛ وصلنا”

شكرته وهي تجرجر كيسها باصوات الاكواب فيه وكيسا اخر يحوي الوقود والموقد..

دعت له ثم اصلحت من ثوبها ليعود مربوطا باحكام حول راسها..

حملت مثقلة اشياءها..

كم بعيد انت ايها الشارع.. كم بعيدة انت ايتها المسافة حتى (سعدية)..”

سلام..”..

قالتها وهي تضع اشياءها جوار (سعدية) التي نظمت المقاعد في دائرتين حول مكانهما المعهود..

مالك اتاخرتي يا (فاطنة)؟”

حكت لها الا متوقف ليحملها من السيارات حتى توقف سائق مركبة نصف نقل ليحملها هنا..

الحياة صعبة يا(سعدية) ياأختي.. تضيق بنا الخرطوم.. هذا السائق الذي أوصلني ذكرني حسن ابني فلقد ترك دراسته لأنه لم يستطيع دفع رسومه الجامعية”..

كانت (سعدية) تهُبّ النار التي أوْقدت من حطبٍ حملته مما هو منثور على شاطئ النيل.. عشوائيا ينبت الشجر ولكن عشوائيته تساعدهما كل يوم لإيجاد ما يوقدن به نار الشاي والقهوة..

قامت (سعدية) تنقب بين شجيراتٍ يبدون ترابا لونهن علها تجد غصناً يابساً آخر..

علقت على ماترويه (فاطمة):”دعي الرثاء على الناس والشفقة فأحق بها نحن يا(فاطمة) ياأختي؛ مايلم بنا من مصائب هو الجدير ببكائنا”ليس هنالك ما سيورثك ضيق الصدر عدا عن إهتمامك بآخرين”..

إشتبك ثوب (سعدية) في أحد الشوكيات فجرته؛ انقطع محدثا صوتا فتمتمت:”انقطع آخر أثوابي”..

كانت (فاطمة) تدور حول شجيرة أخرى مثلها مثل (سعدية) تبحثان عن الغصون اليابسة؛ رفعت رأسها حال تعليق (سعدية):”(سعدية) كلنا جديرون بالرثاء؛ تعبت والله تعبت؛ هذا الكفاح اليومي لاأستطيعة وماعاد في العمر مايكفي مايحدث لي؛ أخاف أن أموت وأترك حنان وحسن دونما معيل”..

عادت الاثنتان لنار شارفت الخمود..

وضعن الأغصان الجافة وبعضاً من الفحم؛ كانت (سعدية) تهب النار لتشتعل بينما ذهبت (فاطمة) لتأتي بالماء في عبوة بلاستيكية من النيل؛ نادت (سعدية) بصوت عال ليبلغ آذان (فاطمة) وهي تهب النار:”الموت شر سيبعد منك يا(فاطمة) ياأختي؛ أرجوك لاتعيدي سيرته؛ ليس الآن.. قلتها أنتِ بنفسك.. حنان وحسن يحتاجانك”..

صمتت قليلاً ثم أردفت:”كم تمنيت لو أن جلال ابني أتم دراسته بدلاً من ذهابه للبحث عن الذهب وانقطاع أخباره؛ هبة البارحة أخبرتني أن عملي يحرجها بين زميلاتها الطالبات معها وأنها تريدني آن آتركه وأن جلال سيعود بالذهب بالتأكيد بعد زمن وجيز”..

كانت (فاطمة) إنحنت لتحمل الماء وعندما تعالى صوت (سعدية) توقفت لتسمعها؛ وحين أتمت جملتها الأخيرة أحست كخنجر غرز داخلها عميقا؛ هبة التي حملتها حين كانت (سعدية) تصر على الحضور لتبيع الشاي فالأب تركها وذهب.. (هبة) التي لطالما تبولت على ثوبها صغيرة تحبو بين جنبات التراب وهن يحضرن الشاي.. ثم طفلة تدرج تحضر كتبها المدرسية لتضعها داخل حقيبة والدتها حتى الوصول وتجلس تحت شجرة قرب موقد أمها لتدرس.. (هبة) التي كانت تلعب مع حسن حين تحضره معها..والتي يعتبرها حسن أخته قبل أن تكون له حنان أختاً… (هبة) كبرت وأصبحت مهنة أمها سبباً للعار!!

تساقطت دموعها صوب النيل.. فغسلها الموج حال إنحنائها.. وإختلطت بمياه النيل التي حملتها لتعود بها لـ(سعدية)..

(هبة) لاتعني ماقالته”قالتها بحزم لاتعنيه..

كانت (سعدية) تعلم أن صديقتها أحست بها فلم تعلق..

أخذن وقتهن لترتيب الأكواب والسكر والشاي والقهوة والنكهات التي قد يطلبها أحدهم..

وانهمكت كلا منهما في خواطرها وأمنياتها..

حاجة (سعدية)؛ حاجة (فاطمة)؛ صباح الخير”..

صوت مشرق تعرفان صاحبه؛ تناديانه “أستاذ (عبدالرحيم)”كما يناديه أصدقاء له عديدون ولكنهما لاتعلمان أنه طالب مفصول من الجامعة سياسيا ومازال يحضر كل يوم صباحا للجامعة ويذهب ظهيرة لمحل تصوير مستندات ليعمل فيه..

صباحك طيب”“صباحك زين”؛ ردت كلتاهما..

بكم أين لك ياحاجة (سعدية)؟”..

قبل أن تجيب قالت (فاطمة):”حينما تتيسر تعال وسدد ماتتذكره يابني؛ كيف تريد قهوتك اليوم؟”..

رمقت (سعدية) صديقتها بنظرة زاجرة ثم التفتت إليه:”لايمكننا منحك مجانية القهوة بني إلى الأبد فنحن نحتاج هذه الملاليم كما تحتاج أنت كوب قهوتك”..

رد مبتهجا:”ستفرج أمي ستفرج صدقيني.. ها إذن اليوم قهوة أمي (فاطمة) التي ترد الروح”..

تمتمت (فاطمة):”الاتنين واحد نحن ياولدي”..

وتوالت الطلبات..

مجموعة شباب يذاكرون صياحاً يتبادلون المعلومات في ظنهم ولكنها ضجة..

موظفين خرجوا ليتناولوا كوبا من القهوة..

هؤلاء الذين يقولون كلاما لاتفهمه (فاطمة) وتخبرها (سعدية) أنه شعر عن حال البلد..

كل مجموعة تأخد كراسياً وتنتظمها مجموعة ولربما كانت الكراسي قطعا من حجارة يتم رصها معا أو بقايا صحيفة أو قطعة بلاستيكية..

الوجوه التعبة ولكنها مفعمة بالأمل.. لاتدري ماهو الأمل (فاطمة).. ولكنها تستشعره في كلماتهم ونكاتهم وملامحهم وضربات الكتف حال الضحك والسلام الحار لقادم جديد..

مجموعة إثر أخرى تعود الأكواب لتُغسل في النيل وتعود الآنية البلاستيكية لتمتلئ يتبرع بذلك أحد الموجودين.. وتتعالى الطلبات.. “بعض من الهبهان”.. “الكثير من السكر”.. “نعناع؟ هل لديك نعناع اليوم؟”.. “كوب آخر”..

مجموعة إثر أخرى تنقسم دونما إتفاق؛ أو ربما باتفاق مسبق؛ فـ(فاطمة) لا تطالب بالمال الآن و(سعدية) تفعل.. (فاطمة) تصنع أجمل قهوة بالنكهات المختلطة “زنجبيلاً وهبهاناً وغيرهم” و(سعدية) تصنع أفضل شاي بالنعناع والهبهان..

عندما إشتدت شمس الظهيرة وتوسطت السماء.. كانت الطلبات أقل.. والمتواجدين حملو أشياءهم إتقاء الحر ليستظلو ببعض بقايا أشجار جافة أقعدها كبر السن عن الإيراق؛ أو ربما أقعدها سوء الاستخدام من قطع وطلاء.. أو ربما تعبت كما (سعدية) و(فاطمة) وملّت الإنتظار للموت فقررت الإنتحار.. جرّت (سعدية) أشياءها لظلٍ قريب أو بعض ظل.. وكذلك فعلت (فاطمة)..

قالت (سعدية):”سأحضر لنا فطورا من داخل الجامعة فهنالك بعض المال”..

وقالت (فاطمة) إنها لاتريد..

كانت (سعدية) تعلم أن صديقتها هكذا سترد وأنها ستحضر الفطور لهما معا كما تفعل دوماً ولكنها العادة ربما..

وحين ميسرة ستحاول (فاطمة) أن ترد مالاً ل(سعدية) لاتعلم متى استادنته منها؛ وستتشاجران بأنهما إخوات والإخوات لايستدن المال من بعضهن.. ثم ستختمانه بالدموع والقبلات كما تفعلن دوماً..

لم تتذكر (سعدية) كل هذا وهي تعبر الشارع لتحضر الفطور الذي وعدت..

كان الحرس الجامعي يجلس في كرسيه بعيداً عن الباب.. ملولاً يتابع الداخلين من الطلاب وغيرهم.. لايستوقف أحدا عادة.. إلا رجلاً سكيراً كان يترنح مرة وآخر كان يتسول مرات عدة؛ لمح (سعدية) فناداها:”صباح الخير (سعدية)”..

أجابته بابتسامة:”إنه نهار قائظ لا صباح هنالك يا(عبدالرحيم)؛ كيف حالك وأبناؤك؟”..

نفس الجمل المتكررة يتبادلانها كل مرة تذهب (سعدية) لإحضار الفطور ويكون هو متواجداً؛ سنين طويلة ماعادت تذكرها ولاعاد يعدها هو؛ لاأبناء له وإنما من تدعوهم أبناؤه هم أبناء شقيقته الذين يعيش معهم في منزل أسرة واحد كبير.. هكذا عرفت حين تقدم لخطبتها يوماً منذ سنوات لاتعلم عدها ولكنها تصغر عمر إبنتها بعامين..

وحينها أخبرته أن زوجها إختفى وحتى تعلم أنه مات أو لن يعود فلن يمكنها الزواج بل ستعيش لخدمه أطفالها.. الأطفال الذين ماعاد منهم أحدهم ولاتعلم إن كان حيا أم ميتا؛ والأخرى التي هددت وتوعدت بمغادرة المنزل حال استمرار أمها بمهنة لا تشرفها هي كطالبة تدرس بكلية الطب..

اليوم كانت (سعدية) مثقلة القلب فلم تنتظر إجابة (عبدالرحيم).. تعثرت بطرف ثوبها المقطوع صباحاً.. توقفت وانحنت.. جرت الطرف المقطوع والملتصق ببقايا خيوط بالية؛ كورته ورمته بعيدا..

وصلت المقصف فنادت:”عيسى.. (عيسى)”..

رفع (عيسى) رأسه من تحت الدكة الخشبية دامعة عيناه؛ يقطع بصلاً مازال يحمل بقيته في يد بينما حمل سكيناً باليد الأخرى..

أوووو صباح الخير يا(سعدية)”..

إنه ليس صباحاً وليس خيراً يا(عيسى) مابالك و(عبدالرحيم) تصرون على دعوته صباحاً وخيراً؟”

كانت هذه المرة الأولى منذ سنوات التي يرى (عيسى) (سعدية) ترد بنزق؛ مندهشاً وضع السكين:”ماذا بك اليوم؟!!”

تمالكت (سعدية) نفسها قبل أن تنخرط بالبكاء وهمست لنفسها ماهذا يا(سعدية):”لاشئ لاشئ.. إعطني فولاً وطعمية.. أيمكنك ذلك؟ أم أن الأسعار زادت مره آخرى؟”

لم يحول عينيه عنها بل نادى:”ياعلي يااااعليييي”..

وجاء (علي) فبادره: “هات طلب فول وضع طعمية فيه وزده سلطة”

ثم أردف بصوت خافت مخاطبا (سعدية):”أهي (هبة)؟ مذ دخلت (هبة) كلية الطب وأنت لست أنت.. تعملين أوقاتاً متأخرة”..

هنا كانت دموع (سعدية) التي حبستها أمام صديقة العمر قد تدافعت بالنزول..

ف(عيسى) في يوم من الايام كان يعمل مع زوجها الذي إختفى..

إختفى كما أخبرت الجميع قبل أن تنتقل من حيها لحي آخر وهي تعلم يقيناً أنه ذهب لحرب في أحد أطراف البلاد ولم يعد ولن يعود.. سمعت أنه تزوج أخرى واستقر.. وسمعت مرة أخرى أنه إنضم لجماعة مسلحة.. هذه الأخيرة تشبه زوجها الذي تعرف..

(عيسى) عمل معه قبل أن يحال للصالح العام..

ماذا عملا وأين هذا مالايحاولان قوله.. وحينما إنتقلت من سكنها فوجئت ب(عيسى) يعمل هنا ولكنها لم تعلّق ولم يتحدث هو..

جميع العاملين يعرفونها ويعلمون كم كانت فخورة بنجاح ابنتها (هبة) ودخلوها كلية الطب.. كانت تخبر كل من يأتي أن هذه ابنتي تم قبولها بكلية الطب.. كانت ومازالت فخورة بها.. ربما لهذا كان مؤلما أن تكون سبباً لخذلان ابنتها..

كانت تحاول كبح جماح دموعها.. و(عيسى) المتفاجئ من بكائها أخذ يتمتم معتذراً..

حملت طبق الفول وهي لاترى أمامها..

حجبت الدموع خطواتها..

حجبت الطريق الذي تحفظ والذي خطته بآلية وبخطوات مسرعة تلقاء مكان تواجدها وصديقتها..

مرت ب(عبدالرحيم) دونما سلام..

رآها وهي تبكي فقام من كرسيه كي يلحق بها.. لا العمر يسمح باللحاق ولا …

ولاماذا؟”تمتم لنفسه.. (سعدية) القوية التي لم يرها باكية أبدا تجري ودموعها تسابقها؟؟؟..

نادى زميله مخبرا اياه بأنه سيقطع الشارع فقط نحو الناحية الأخرى وسيعود حالا..

خرج من باب الجامعة ليسمع صرير عجلات المدوي..

ثم الصراخ..

أسرع خطواته أكثر..

كان صوت (فاطمة) يصرخ من الجهة الأخرى للشارع: “(سعدية) لااا!!”..

 



 

 

القصص القصيرة جداً

 

1.   حلم وحقيقة، بقلم صلاح محمد إدريس

2.   لقاء الشجن، بقلم أماني محمد صالح





 

 

 

حلم وحقيقة

 

بقلم: صلاح محمد إدريس




كانت الساعة تشير الي الحادية عشرة ليلا وكان الجو في تلك الليلة ممطرا.. وقد اعتاد سكان القرية على تجهيز كل مواد الطبخ قبل ان يدخل عليهم فصل الخريف.. فالكل يصعب عليه الذهاب الي الطاحونة - آلة تستخدم لطحن الحبوب حتي تصير دقيقا - في فصل الخريف..

ومع اشتداد هطول الامطار وقدوم نسيم البرد شعر سكان منزل الحاج (محمد احمد) بالجوع الشديد.. واذا بضيف يقول بلغة اهل القرى:

سلام عليكم سلام عليكم..

ويستمر بالمناداة.. وكان حاج (محمد احمد) من اصحاب الشأن في القرية وكانت ظروفه جيدة ولكن في احدى السنوات شب حريق في مخازنه وقضي على كل شي فأصبح فقيرا..

كان الضيف يواصل مناداته:

-اهل البيت.. ضيف ضيف

فرد له حاج (محمد احمد):

مرحبا بالضيف.. تفضل تفضل..

ومن شيمة اهل البادية ان يكرمو ضيفهم ولايسألوه حتى يكرموه.. فقام حاج (محمد احمد) واجلس الضيف.. ثم دخل الي زوجته الحاجة (زينب) وكانت (زينب) هذه برغم الفقر امرأة ذات شان وتحب الخير فقال لها:
-
يا (زينب) معنا ضيوف ماذا لديكِ..

فدخلت ولم تجد دقيقا فقالت له:

يا حاج والله جوال الدقيق فارغ..

فتذمر الحاج لذاك الموقف وقال لها:

لماذا لم تذهبي يا(زينب) للطاحونة؟..

 ودار جدال غير مسموع بينهما..

تحرك حاج (محمد) نحو منزل صديقه حاج (ابراهيم) وكانت الساعة تشير الي منتصف الليل.. فحكي له مامر به فقال له الحاج (ابراهيم):

هات الضيف عندي وسأوقظ كلتوم ونكرمه..

غضب حاج محمد لهذا الموقف ورأي ان حاج (ابراهيم) يريد ان يخطف ضيفه فعاد الي بيته وسط دهشة من حاج (ابراهيم).. وكان لحاج محمد إثنين من الجمال وخمسة من الضان وقرران يكرم ضيفه بضبح احد الضان.. فذبحه وتم اعداد وجبة شهية ولكن دون الخبز المعد في المنزل فلا يوجد دقيق.. وقد تناول الضيف العشاء وشكر الحاج (محمد) لكرمه.

وعندما اراد الحاج (محمد) القيام اتت الحاجة بالباتيل - مشروب الشاي الساخن - وبدأ الضيف وحاج (محمد) يتبادلان اطراف الحديث وقال له الضيف بانه اسمه (عبد الودود) وانه من احدي قرى بادية كردفان وانه ذاهب الي الابيض وضل طريقه.. وختما حديثهما وترك الحاج الضيف يخلد للنوم في بيت الضيوف بينما توجه هو الي داخل “قطيته”- القطية هو مبني من القش ويتميز بالتكيف مع كافة فصول السنة - لينال قسطا من النوم..

قبل عدة ايام تمت سرقة ماشية من احدي القري المجاورة لقرية حاج (محمد) ولم يعد الفزع حتي تلك الليلة.. وماكان ضيف الحاج (محمد) الا زائرا ليليا من لصوص البادية أو ما يعرف بـ”الهمباتة”الذين قاموا بسرقة الماشية من القرية المجاورة والآن دور هذه القرية.. إنتظر “الهمباتي”بعد أن ذهب الحاج (محمد) مدة من الزمن حتى تأكد أنه نام الجميع وهبّ لسرقة جمال الحاج (محمد).. وقام باعداد الجمال للركوب.. وكان يحمل بندقية طراز جيم 3 كان قد اخفاها بعيدا.. ولكن شعاعا من ضوء بطارية الحاج (محمد) - الذي أحس بأن هنالك حركة غير عادية خارج القطية فهب نحو زريبة جماله - أوقف “الهمباتي”.. وكان الحاج (محمد) قد عرف أنه ضيفه الذي أكرمه قبل قليل فقال له:

أهذا جزاء الاحسان؟؟..

فقال له “الهمباتي”:

ابتعد وحافظ على حياتك..

ولكن حاج (محمد) أصر على التقدم فقام “الهمباتي” بإطلاق طلقة من سلاحه وأردى حاج (محمد) قتيلا وفر هاربا بعد أن قاد الجمال بسرعة..

همباتي”.. “همباتي”.. “همباتي”..

صرخ حاج (محمد احمد) عاليا.. واستيقظ من نومه وصوت الحاجة (زينب) خلفه:

- بسم الله ياحاج أين “الهمباتي”؟..

ولكنه لم يرد وإنما قام ليتفقد جماله وهو يقول:

- بلله لاتذهبي لاي طاحونة..

ولم تفهم الحاجة شيئا.. وعندما وجد الحاج (محمد) جماله موجودة عاد وادرك ان ذلك ماهو سوى كابوس من كوابيس الاحلام..



 

 

لقاء الشجن

 

بقلم: أماني محمد صالح

 

 

جمعهم القدر صدفة؛ فكانت من اجمل صدف الحياة رسمت بداخلها أجمل لوحة عاشت على ذكراها أعواما طويلة.

التقيا في طريق عودتهما من الجامعة تأخرت في ذلك اليوم ولم تكن تدري أن هذا التاخير سيسطر لها أجمل خطوط في حياتها.. جلس بجانبها في المركبة دق قلبها دقات لم تعرف معناها.. وبعد صمت طويل بدأ معها الحديث فكان أجمل حوار.. وشعرت كأنها تعرفه من زمن بعيد وكأنه كان في عقلها الباطن.. كانت تحمل رواية موسم الهجرة إلى الشمال في يدها فكان مدخله لبدء الحديث معها.. أعجبت به من أول لحظة وكان شئ بداخلها يؤكد انها سوف تتلقى به يوما ما.. عرفت انه صديق لأحد زملائها في الجامعة

-اذن حتما سنلتقي يوما..

هكذا همست وبداخلها شئ من الفرح وبعد فترة ليست بالقليلة قابلته في الجامعة جاء لزيارة صديقه أو هكذا تظاهر ولكنه كان يبحث عنها فقد أحس هو أيضا بشئ من الفرح.. تكررت تلك الزيارات وأصبحت من أجلها وأحست القلوب بذاك الاحساس المريح وتغير طعم الحياة وتلونت بألوانها الوردية فكان حبها الأول وأول من فض بكارة قلبها وتلك الأسطورة التي تتمرد على النسيان.. عشقته بجنون فقد كان غيورا تلك الغيرة التي تزيد الانثي كبرياء وعشقا..

تكررت اللقاءات في الجامعة وكان حديث أصدقائه  فكانت سعيدة بذلك لأنه كان مميزا.. ومع مرور الأيام احبته أكثر لكن غيرته لم تعد تلك التي تزيدها كبرياء وغرورا فقد تحولت إلى شك وشجار يومي  “لماذا تتحدثين مع هذا وذاك”وتدخل في طريقة اختيار صديقاتها..

أحست أنها سجينة للحب.. رجل يحركها كما يشاء وهي تلك المتمردة.. وحنت لتلك الفترة التي كانت بلا قيود ولا رقابة من حبيب.. فجأة قررت أن تتمرد وتتحرر.. تريد أن تعيش حياة الشلة والصديقات.. الحياة الاجتماعية المنفصلة عن الحبيب وقيوده.. وأصبحت لا تشتاق لقائه خاصة عندما حدث شجار عنيف مع أحد زملائها بسببه فكانت حديث الأصدقاء..

سافر إلى بعثة خارج البلاد ارتاحت من قيوده ولكن في نفس الوقت كان هناك شئ ينقصها بطعم الملح والسكر.. فقد عشقته رغم غيرته المدمرة.

 

عاد وطلبها للزواج عاد بنفس الغيرة فأحست أنها سوف تسجن مرة أخرى هذه المرة لابد فرفضت لانها تريد أن تعيش حياة هادئة باستقلالية.. شروطه كانت مجحفة.. “لن تعملي” وهي ليست تلك الشخصية التي تجلس في البيت وتربى وتتنظر “آدمها”.. رفضت وفي قلبها شئ من الوجع ظنا منها أنه سيبرأ يوم ما..

- لماذا لا يتنازل هو حتى نكون معا؟

مضى هو وشقت طريقها في الحياة ونجحت وارتبطت بشخص يفهم شخصيتها واستقلاليتها  وحاجتها لرجل يحبها ويفهم وما تريد دون تسلط ذكوري لكن لم تجد معه ذاك الاحساس المريح

هي الحياة لن تعطيك كل شئ لابد من مرارة ربما هي التي تجعلنا أكثر خبرة وصلابة في مواجهة ظروف الحياة..

بعد سنوات وبعدما شق كل منهما طريقة في الحياة ولعبت الأقدار بهما التقيا فكان للقاء طعم آخر.. لقاء الشجن وبطعم الذكريات وعادت تلك الدقات - التي أعتقدت أنها لن تعود - معه.. فقد نسي قلبها أن ينساه فله وحده دق قلبها دقاته الأولى والأخيرة.. تجمدت في مكانها عندما رأته فقد كان مذهولا هو أيضا لم يتوقع أن يراها هنا وفي مكتبه فكان عناق النظرات التي اختصرت شوق كل تلك السنوات.. ساد صمت رهيب بينهما.. كان حوار العيون والقلوب.. وبعدما استوعب كل منهما اللقاء حكي عن حياته وأنه مازال يحبها رغم السنوات.. فأحست بالسعادة وكأن السعادة مرتبطة بوجوده فقط وفي لحظة استرجعا كل الذكريات.. فكان لقاء جمع أفراح الألم.. سنوات الفراق..

 كان لقاء الشجن..

خرجت من عنده بداخلها مشاعر وأحاسيس تكفي الكون كله فقد كان مخزونا بداخلها واستيقظ من نوم عميق نزلت منها دمعة عندما تذكرت أن لكل منهما حياته بعيدا عن الآخر.

رغم أنهما أسرى لحب قديم فعجلة الحياة يجب أن تستمر.. كان حبا ترك بداخل كل منهما أجمل الذكريات فكانت تزين الحاضر وعندما يحن القلب للحظات صادقة وجميلة يستدعي كل منهما تلك الذكريات لتحلو بها قسوة الحياة وتقلباتها فكانت بمثابة واحة لاستراحة من عناء الحياة.. الطاقة التي تساعدهم للاستمرار في هذا الحياة.

 

 

 



منصة ليلى الثقافية

https://laylacp.net

2018م