Layla Cultural Platform

Home Login News Blogs LCP Contest 2017

%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D8%AD%D8%AF

nisrine m.noor

 

 

أنا ببساطةٍ.. طفلٌ مختلف

 

(1)

 

التَّــوحُّـد

 

 

نسرين محمد نور

 

 

 

العنوان: التَّوحُّد – سلسلة (أنا ببساطةٍ.. طفلٌ مختلف)

المؤلف: نسرين محمد نور

الرسومات الداخلية: سارة محمد حسن

تصميم الغلاف: لبنى عصام

ترقيم الكتاب بالمكتبة: 180030022

صفحة الكتاب بالمنصة: https://laylacp.net/webaccess/book_view.php?id=180030022

 

جميع الحقوق محفوظة © 2018 منصة ليلى الثقافية

Copyright © 2018 Layla Cultural Platform (LCP)

(https://laylacp.net)

 

هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع اﻹبداعي نَسب المُصنَّف – غير تجاري – الترخيص بالمثل 4.0 دولي

 

Attribution-NonCommercial-ShareAlike 4.0 International

 

 

الفهرس

 

(١)

(٢)

(٣)

(٤)

(٥)

(٦)

(٧)

(٨)

(٩)

همسة محبة

 

 

 

(١)

 

 

تعالى التصفيقُ بعدمَا انتهتْ فقراتُ اليومِ المدرسيّ المفتوحِ و خَرجَ التلاميذُ راكِضين و صُراخهم يختلطُ بضحَكَاتِهم ، كأنّهم يزفُرونَ كلّ تعبِ العامِ بأَصواتِهم..

كانُوا يختصِرونَ كُلَّ العالمِ بألوانِهم وسَحَنَاتِهم المُختلفة..

تلفتتْ (مَيْ) باحثةً عَن (مَعْنٍ) بين ذلكَ الحشدِ الصاخبِ و(سامي) يشدُّ ذِراعَها.. يودُّ لو يتحررُ منْ قبضتِها.. وقدْ فعَل.

وأخَذَهُ الحشدُ في مَعِيَّتِهِ فصَاحتْ باسمهِ ليتوقفَ، لكنْ هيْهَات فقدْ أطْلقَ سَاقيْهِ للريحِ فَما كانَ مِنها إلّا وأنْ حاولتْ أنْ تُرَكّزَ على تلكَ القُبَّعَةِ الزرقاءِ و هِي تَنْقُلُ نفسَها بينَ التلاميذِ..

يَصدِمُهِا هَذا وتَتعثرُ بِذاك.. وتلْك الأيَاديّ الصغيرةُ تُمسكُ بالرأسِ وتُطْبِقُ على الأُذنينِ كأنّما تخَافُ فِرارهُما..

حتى لمحَتْهُ أمامَها ونَادَتْهُ:

- (سامي)..

فإذا بِه يَلتفِتُ ناحِيتهَا وابتسامةٌ بعرضِ السَّمَاءِ تُزَيِّنُ وَجههُ..

ولكنَّهُ.. ينظرُ مِنْ خِلالِهَا.. لا تكادُ تُمْسِكُ بنظرةٍ مِنهُ إلى عَينيهَا..

وأشارَ بيدهِ نحوَ الجدارِ..

كَانتْ هناكَ مجموعةٌ منْ الصورِ تَملأهُ.. ومِن بينِها صورةٌ لـ(مَعْنٍ) وهُو يَتَوسَّطُ فريقَ كُرةِ القدمِ لصفِّهِ..

جَثتْ بجَانبهِ فقالَ لهَا بصوتهِ الصَّغِيرِ:

- (مَعْن).. (مَعْن)..

فَحملتْهُ بينَ ذِراعيْهَا وتقدَّمَتْ منْ الصُّورَةِ.. فلَمَسَها وأعادَ الكَرّةَ مرَتينِ فأنزَلتهُ، لِيمسكَ بِها (مَعْنُ) منْ الخلفِ فتَصَنَّعَتْ قفزةً صغيرةً والتَفَتَتْ ناحِيته فضمّها إليهِ بقوةٍ.. والتصَقَ بِهم (سَامِي) في مشهدٍ يحْتوي كلّ مَحَبَّةِ الأرْض..

 

P1.jpg

فَحملتْهُ بينَ ذِراعيْهَا وتقدَّمَتْ منْ الصُّورَةِ.. فلَمَسَها وأعادَ الكَرّةَ مرَتينِ فأنزَلتهُ، لِيمسكَ بِها (مَعْنُ) منْ الخلفِ فتَصَنَّعَتْ قفزةً صغيرةً والتَفَتَتْ ناحِيته فضمّها إليهِ بقوةٍ.. والتصَقَ بِهم (سَامِي) في مشهدٍ يحْتوي كلّ مَحَبَّةِ الأرْض..

 

 

تَعيشُ (مَيْ) معَ ولديْهَا.. (مَعْن) أكملَ عامهُ الثانِيَ عشَر بيْنما سَيبْدَأُ (سَامِي) عَامهُ السابعَ بعدَ شَهْرَيْن..

وهِيَ أمٌ وحيدةٌ انفصَلَتْ عنْ زوجِها منذُ قُرابةِ ثَلاثِ سَنوات..

شُخِّصَ (سَامِي) بالتَّوَحُّدِ فِي مُنتصفِ عامِه الثَاني.. حَيثُ لاحظتْ (مَي) أَنّ ابْنها تغيّرَ فجأةً.. فَخَفتَ صَوتُهُ وقَلَّتْ كَلماتُهُ..

صارَ منعزلاً وانطوائيّاً بعدَما كانَ حُضُورهُ يملأُ المكانَ الذِي يتواجدُ فِيهِ بَهْجَةً..

هَجرَ ألعابهُ كُلهَا واخْتارَ مجموعةً صَغيرةً مِنها.. و كانَ يُرتِّبُهَا في خَطٍّ مُسْتَقيمٍ.. و لا يَقْبلُ أنْ يُعدّلهَا أحدٌ أوْ يُحرِّكَهَا مِن مَكانِها.. كانَ يصرخُ بقوةٍ ويَبدأُ فِي ضَربِ رَأسهِ بيدَيهِ الصَّغيرتَينِ..

وَعِندمَا يَهْدأُ قَليلاً يأْخذُ فِي الاهتزازِ كبَنْدُولِ السّاعةِ..

نَومهُ الآخرُ كانَ مُشكلةً كبيرةً.. فَهوَ لا يغْفُو إلّا لسَاعَاتٍ قَليلَةٍ ليلاً ثُمّ ينْهضُ بنَشاطٍ.. ثُمّ تَتَوَزعُ سَاعاتُ نوْمِه أثنَاءَ اليَومِ بشكلٍ متقطعٍ.. تَنَاوُلُ الطعامِ أضْحَى تحديّاً مَقِيتاً بالنسبةِ إليهَا.. (فسَامِي) يَبقَى أيّاماً يشْربُ الحليبَ ويَأكُلُ الأَرزَ فَقطْ..

وَكُلّمَا حَاولتْ جاهِدةً أنْ تُضِيفَ أيّ أصْنَافٍ أُخرَى لوجَباتهِ يَرفضُ بِشدّةٍ وَفِي بَعْضِ الأحيانِ يَقومُ بدفعِ الآنيةِ حَتى تَنْسَكِبَ عَلى طاولةِ الطعامِ وعلَى مَلابِسهِ..

وَقدْ كانَ (سَامي) يَرّفُضُ التَّواجُدَ مَعَ أَقْرانهِ وحَتَّى أفْرادِ عَائلتهِ فِي اجْتمَاعَاتِهمْ الأُسَريّةِ.. فَكانَتْ (مَي) تُضْطَرُّ أَنْ تَتجنَّبَ تِلكَ اللقاءاتِ قَدْرَ الِإمكَانِ..

كَانتْ تَسّمَعُ مِنْهمْ أنّ ابْنَهَا بهِ مَسٌّ شَيطَانِيٌّ .. فَهو يَتضَايقُ إذَا مَا اسّتَمَعَ للقرآنِ بصَوْتٍ عَالٍ أوْ تَفَضَّلَ أَحَدُهمْ بِقراءةِ الرُّقيَةِ عَلَيه.. أوْ أَنّه فِي مُجْمَلِ الحالِ مُتَخَلِفٌ عَقْليّاً.. أوْ أنّ (مَي) تَتحَججُ بـ(ِسامِي) لِتَتخَلّفَ عَنْ أيّامِهمْ تِلكْ.. فَهي تَعْتقِدُ أنّها أفْضَلُ مِنهُمْ؛ هَكذا كانَ رأْيُ النّاسِ فِيها.. وَخُصُوصاً الأَهْل..  وَكمْ كانَ ذلكَ مُؤلِماً وغَيْرَ مُنْصِفٍ لهَا أو مُراعِيّاً لمَا تَمُرُّ بهِ..

 

اجْتمعتْ كُل تلكَ الأشْياءِ وَأَصبَحتْ سببَ خلافٍ معَ (عَادلٍ) زَوجِهَا.. فاتّهَمَها بالتَّقصِيرِ فِي رِعايةِ الأولادِ نِسبةً لعملِهَا وأَنَّ ذلكَ الوقتَ الّذِي تَقضِيهِ خَارجَ المنزلِ هُو مَا جعلَ (سَامي) يُصابُ بهَذا الشَيءِ.. كمَا اعتادَ تَسْمِيَتَهُ.. كأنّهُ بِتَجَنُّبِ ذِكرِ اسمِ التَوَحّدِ سَوفَ يمنحُ نفسهُ طاقةً لِتَقَبُّلِ طِفْلَهُ..

برَغمِ أنَّها قدْ وَفَّرَتْ لـ(سَامي) مُعالِجاً مُخْتصّاً وألْحَقَتْهُ بأَحدِ أفْضَلِ مَراكزِ التَأْهِيلِ إلّا أنّ (عَادِلَ) استمرَّ فِي تَعَنُّتِهِ وافتعالِ المشاكلِ منْ اللَّاشَيء..

فأَذْعَنَتْ لهُ واسْتَقالَتْ مِن وَظِيفتِها التِي تدَرَّجتْ فيْها لتصلَ لمركزٍ مَرموقٍ..

لكِنَّ كُلّ ذلكَ لمْ يشفعْ لهَا وَبدأتْ الهُوّةُ تتَّسِعُ بينهُما وكَثُرَتْ المُشاحَناتُ وَوصلَ الأمرُ أَنَّ (عادلَ) كانَ يُمضِي أياماً خارجَ البيتِ..

تأثرَ (مَعْن) بذلكَ جداً فصارَ صامتاً هو أيضاً واخْتفَتْ رُوحهُ المرحةُ وَسَكنَ وَجْهَهُ الحُزنُ..

فَقرَّرتْ (مَي) أنْ تَطْلُبَ الطَّلاقَ مِن (عَادلٍ) الذي لمْ يَصْدُمْهُ ذلكَ.. لأنّه أرادَ منَ البدايةِ التَّمَلُّصَ منْ ذلكَ الشيءِ.. التَوَحّد..

عاشتْ أياماً عصيبةً وهِي تَرى ابْنَها الصغيرَ يَنْغَمِسُ أَكثرَ فَأكثرَ فِي عوالمهِ الخاصّةِ و ابنَها البِكْرَ يبتعدُ عنْها ويَتَّهِمُ أخَاهُ الأصْغرَ بأنّهُ سببُ خروجِ أبيهِمْ مِن حياتهِمْ..

بدأَ اليأسُ يتسربُ إلى نفسِها و كادَتْ أنْ تَفقِدَ الأملَ لوْلَا أنْ رُؤيةَ أُسْرَتِها الصغيرةَ تنهارُ أمامَ عيْنيهَا قد حَرَّكتِ العَزيمَةَ بداخِلهَا وجعلتْهَا قسراً تُواجهُ نفسَها وتسألُهَا: مَا الذي سيحدثُ لولديْهَا لَوْ قَدّرَ اللهُ وفَارقَتْهُمْ.. ألا يكفيهمْ أنّ أبَاهم قدْ اختارَ طوعاً أنْ يَهْجُرَهُم..

وشَرعَتْ فِي تَغْييرِ حَياتِهِمْ.. فاسَتغلَّتْ مُدَخراتِها ومعاشَ نهايةِ خدمتِها وانتقَلَتْ لشقَّةٍ أُخرى و قامَتْ بتخصيصِ غُرفةٍ لكلِ واحدٍ منْ أبنائِها..

وطلبتْ منْ (مَعْنَ) أنْ يُساعدهَا في اختِيارِ الأثاثِ وشِراءِ مُستلزماتِ البيتِ الأُخرى برغمِ حَداثةِ عُمرهِ آنذاكْ.. فلاحظتْ أنّ شَخصيّتَهُ المرحةَ قدْ عادتْ..

وَتعززّتْ ثقتُهُ بنفسهِ وحَتَّى أنّ مُعاملتَهُ لـ(سَامي) قدْ تَغيَّرتْ وصارَ أكثرَ اِحْتواءً لأَخيهِ.. برَغمِ رَفضِ الصغيرِ لذلكَ فِي بَعضِ المَرّاتِ..

لمْ تَكُنْ تَملكُ إجاباتٍ لطفلٍ يَسألُ:

- لمَاذا أخِي لَا يَلعبُ مَعي كبقيّةِ أشِقّاءِ أصْدقائي.. لمَاذا يَتلقَى (سامي) مُعاملةً خاصةً.. ولِماذَا تُعَدُّ زيارةُ الطبيبِ أوْ الذهابُ إلى المولِ للتسوّقِ مهمةً شاقةً مَعَهُ..

فأقترحَ عَليها مُعَالِجُ (سامي) أَنْ تُدْرِجَ جلساتٍ لـ(مَعْنَ) مَع (سَامي)، حَتّى يَتمكَّنَ مِنْ فَهْمِ عَقليّةِ أخيْه واضْطرابهِ.. وبِالفعْلِ كانَ (مَعْن) يَحْضُرُ عدةَ جلساتٍ لـ(سَامي) فِي تَعديلِ السُلوكِ والتأْهيلِ الإجْتماعيّ والإدْراكِيّ وحتّى في التَخاطُبِ..

فصارَ مَنُوطاً به تدريبُ (سامي) عَلى بعضِ المهاراتِ.. ورُوَيْداً رُوَيْداً تَلاشتْ الفَجوَةُ بينَ الأَخَويْنِ.. وصارَ (سامي) يسمحُ لـ(مَعْنَ) باللعبِ مَعهُ وإنْ كانَ بشروطٍ.. كانَ يَفهمُهَا (مَعْنُ) ويُطبّقَها بسرورٍ..

مثلاً ليْسَ مسموحاً لهُ أنْ يَلمسَ قِطعَ المُكعَّباتِ إلا بعدَ أنْ يُعطِيها (سامي) لهُ.. و أنْ يَتحدثَ مَعهُ بِهدوءٍ ولا يُصدرَ أصواتاً عاليةً وحَتى ألعابَ (معن) التِي يُحْضرِهُا مِن غُرفتِهِ يَجبُ أنْ يُوافِقَ عَليها..

كانَ يَخافُ مِنْ الكُرةِ جداً لأنّه لا يَتحكّمُ في اِرتِدادِها..

فَأصرَّ (معن) أنْ يَكْسِرَ ذَلك الخَوفَ.. وَباءتْ كُلّ المحاولاتِ بالفَشلِ .. فشكَى لأُمهِ أنّه لمْ يَستطعْ أنْ يَجعلَ أخاهُ يُشاركهُ شَغَفَهُ بالكُرةِ..

فأَجلستْهُ أَمَامَها وأَمسكتْ بيديهِ و قالتْ لهُ بِحُنُوٍّ:

(مَعْن).. أَنْتَ أَرْوعُ ابنٍ وَأَحَنُّ شَقيقٍ فِي الدُنيا.. انظُرْ ماذا فعلتَ لِي ولأخِيكَ.. لقَدْ تَغيرَ (سامي) للأَفضَلِ بِسببكَ.. صارَ يَلعبُ مَعكَ لفتراتٍ أَطولَ مِن السَّابقِ ويَأكلُ معكَ أصنافَ أطعمةٍ جديدةٍ كانَ يَرفُضَها وَحتْى نُطقهُ للكلماتِ تَحسّنَ.. بفضلكَ.. وحَتّى أَنْا.. فأَنْتَ تُساعِدنِي يَا عَزيزِي فِي جَميعِ الأَشياءِ.. ولمْ أشعرْ أبداً أنهُ ينقصنِي أحدٌ فِي وُجودكَ..

ألْقَى بنفسهِ بينَ ذِراعَيّ أُمِّهِ وأَجْهَشَ بالبُكاءِ..

جَعَلتهُمْ تلكَ الفَترةِ يَكْبرُونَ مِئةَ عَامٍ.. فقدْ تَلَبَّستْ ملامحَ (مَعْنَ) الحُلوةَ روحُ كَهلٍ عَجُوزٍ وَوَخَطَ المَشِيبُ مِفْرقَ (مَي)..  لَكن مَع انْقضَائِها عَادتْ تلكَ الشُّعْلَةُ الّتي خَبأَتْ فِي أَرْواحِهمْ وَهَا هُمْ يَستَعِيدونَ عَافيتَهُمْ شَيئاً فَشيئاً..

تَوقفُوا فِي أحَدِ المَطاعِمِ وتنَاولُوا وجْبةَ الغداءِ.. وكعَادتهِ بَدَأَ (سامي) فِي تنظمِ الطاولةِ أمامهُ.. وَعندَ وُصُولِ الوجبةِ رتّبَ قِطَعَ الدجاجِ في صَفّينِ متوازييّنِ وأَخرجَ أصابعَ البطَاطَا المقليّةِ منْ صُندوقِها وكَدّسها بجانبِ الدجاجِ في صَحْنِه..

مَزجَ الكاتشبَ مع القليلِ من المايونيزِ وأكلَ طعامهُ بهدوءٍ.. ثمّ بعدَ أنْ انتَهى مَسح يديّهِ بمناديلهِ المُبلَّلةِ واعْتدلَ في جلستهِ..

سألتهُ (مَي):

- ألا تريدُ دخولَ الحمامِ مع (مَعْن)؟ فرفضْ.. الحمامْ لاَ.. بالطبعِ كانَ سيرفضُ ولكنّهَا أرادتِ المحاولةْ..

وَصلوا إلى شقتهمْ وذَهبَ كلُّ واحدٍ منهم إلى غرفتهِ ليبدّلَ ثيابهُ..

جلستْ (مَي) على حافّةِ السريرِ وهي تنْتظِرُ (سَامي) أنْ يفْرغَ منْ الإستحمامِ بعدَ أنْ ساعدتْهُ فِي فَرْكِ جسدهِ بالصابونِ وهِي لاَ تُصدِّقُ سماعَ صوتِ المياهِ ينسابُ منْ الصنبورِ..

(سامي) يعتمدُ علَى نفسهِ بشكلٍ شبهِ كاملٍ بعدَ أنْ كانَ يستعملُ الحِفاظاتِ حتْى عامهِ الرابعِ..

الحمدُ لله..

زفرتْ بِراحَةٍ..

فخرجَ بعد قليلٍ.. ورأسُهُ مُطأطأٌ وهو يقولُ لهَا:

- لقدْ ابتلّتْ المِنشفةُ بالماءِ يَا ماما..

فرَدَّتْ عَليه:

- ليستْ بمشكلةٍ يا عزِيزِي.. فَسَتَضَعُها أنْتَ في سلَّةِ الملابسِ المُتَّسِخةِ وسأقومُ أنْا بغسّلِها وستجِدها غداً فِي مكانهَا في الحمَّام.. ارتدِ ملابسكَ وتعالَ إلى غُرفتي.. حسناً..

هزّ رأسَهُ موافقاً..

فخرجتْ (مي) منْ عندهِ وتوقَّفتْ عندَ غُرفةِ (مَعْن) لتطرقَ بابهُ.. فأطلَّ برأسهِ فأخبرتهُ أنْ يأْتي لغرفتِها بعدَ أنْ يفْرَغ..

حضرَ (مَعْنُ) أوّلاً وتأخّرَ (سامي) قليلاً فطلبتْ (مي) منْه تفقُّدَ أخِيه..

فوَجدهُ يدورُ في حَلقات.. فثَبَّتهُ بكِلْتَا يديهِ.. فأخذَ (سامي) يُردِّدُ:

- العِطرْ.. العِطرْ.. لمْ أجدْ العِطرَ على الرَّف..

فأفلتهُ ليبحثَ لهُ عنْ العطرِ.. و لكنْه لمْ يجدْه.. فنادَى أمَّهُ التي جاءتْ مُسرِعةً .. وكَأنها تتَوقّعُ حدوثَ مكروهٍ لـ(سامي)..

فرَأتْ (سامي) يدورُ في حَلقاتهِ بدونَ توقفٍ.. فقالَ لها (معن):

- لمْ نجدْ العِطْر..

فذهَبتْ منْ فَوْرِها وجَلبتْ قارورةَ عطرٍ جديدةٍ وضَغطتْ عليها، فصدرَ عنهَا صوتُ  رشّةٍ.. تصَنّمَ (سامي) لحظتَها وكأنهُ قدْ سَمِعَ صوتَ قُنبلةٍ واستدارَ بكاملِ جسدهِ نحوَ أمّه.. التِي ناولتهُ العِطر..

فبدأَ يرشُّ ملابسَهُ.. مرةً واثنتينِ.. و ثالثةً أخيرة..

كانَ يفعلُ كلَّ شيٍء بسلاسةٍ حتى يبدأ في تكرارِ الشيء لثلاثِ مرات..

وضعَ القارورةَ في مكانهَا على الرّف..

وخرجَ بحركةٍ آليّةٍ تاركاً أمَّهُ وأخاهُ في غرفتهِ وتوَجّهَ إلى غرفة أمِّه كما طلبتْ منه سابقاً..

ضَحِكا من تصَرُّفهِ ولحِقَا به..

أجْلَسَتْهُمْ (مَيْ) على الصُوفَا بِجانبِ سَريرها و قَفَزتْ هِيَ إلى وسَطِ السّرير..

فصَفّقََ لَها (سامي) فَرِحاً وتَهَلّلَتْ أسَاريرُهُ.. فَقَفزَ هُو الآخر إليها..

ابْتَسَم لَهُما (مَعْن) و قال مُمَازِحاً:

- يبْدُو أنّنِي العاقِلُ الوَحيدُ في هذا البَيْتِ..

فأدْخلت (مَيْ) يَدها تحت وسادتها وأخْرَجَت مَظْروفاً أبْيَضاً .. طُبِعتْ عَليْهِ صورةُ طائرة ٍ وذيَّلَتْهُ أحرفٌ إنجليزيةٌ لاسْم إحْدى خطوطِ الطيران..

ولوّحَتْ بهِ في الهواءِ وقالت مُخاطِبةً (مَعْن):

- ولأنّكَ العاقلُ الوحيدُ يا سيِّد (مَعْن).. هذه هدِيّتُكَ..

خطفَ (مَعْن) الظرْفَ وقامَ بفَتْحِهِ ليَجِدَ كُتَيِّباً و ورقةً مطْبوعةً باللُّغَةِ الإنْجِليزيّةِ..

فنَظَرَ إلَيْها والدُموعُ تكَادُ تقْفِز مِن عَيْنَيْهِ.. و أنفاسهُ تتلاحَق..

ثُمّ أنْزَلَ وجهَهُ أرْضاً  واخْتَفتْ تِلْك الحماسةُ .. فهَمَستْ (مَيْ) باسمه فرَفعَ رأْسَهُ و إذا بدُموعِهِ تنْسابُ على وَجْنَتَيْهِ..

وقال بِصَوْتٍ مَخْنوقٍ:

- لم يكُنْ عليكِ فِعْلُ ذلك يا أُمِّي..

 

P2.jpg

فأدْخلت (مَيْ) يدها تحت وسادتها و أخرجت مظروفاً أبيضاً .. طُبِعتْ عَليْهِ صورةُ طائرة ٍ وذيَّلَتْهُ أحرفٌ إنجليزيةٌ لاسْم إحْدى خطوطِ الطيران..ولوّحَتْ بهِ في الهواءِ و قالت مُخاطِبةً (مَعْن): - ولأنّكَ العاقلُ الوحيدُ يا سيِّد (مَعْن).. هذه هدِيّتُكَ..

 

 

فَرِعايَةُ (سامي) تُكَلِّفُكِ الكَثير.. هذا زِيادةً عن مصْروفِنا وإيجارِ الشَقَّة.. وأعلمُ أنّ ما يبْعثُهُ أبي من نُقودٍ شهريّاً لا تَكْفي.. ولا تَنْسَيْ أنّ (سامي) سيَنْتَظمُ في مدرسةٍ هذا العام وأنّ احْتِياجاتَهُ تتطَلّبُ مِنّا أنْ نَقْتصِدَ في مَصْروفاتِنا .. وهذه العُطْلة يُمْكِنُها الانْتِظار.. أنا يمْكِنُني الانْتِظار.. فمُعَسْكراتُ تدْريبِ الأشْبالِ مُسْتمرةٌ في كُلِّ عُطَلِ الصَيْفِ..

قامَتْ إليه (مَيْ) و احْتَضَنتْهُ طويلاً وحَاولتْ أنْ تُغَالِبَ جميعِ المَشاعِرِ الّتي إعْتَرَتْها لحْظَتُها..

شعَرتْ بالفَخْر أنَّها أنْجَبَتْ رجُلاً يُحِسُّ بِما تَمُرُّ بِهِ.. يضَعُ شقيقَهُ قَبْلَهُ و ما بَيْنهُما فقَط خَمْسُ سنواتٍ مِن العُمْر..

أحَسّتْ بالفَرحِ أنْ كُلّ ما عَانَتْهُ في تِلكَ الفترةِ الّتي عاشَتْها وحيدةً دون زوْجِها قدْ تَهَاوت أمامَ ما أصْبَحَ عَليْهِ (مَعْن)..

قَبّلَتْهُ مِراراً ومَسحتْ دُمُوعَهُ بِكَفَّيْها ورَفعَتْ وَجْههُ المُغَضّن ليَنْظُرَ إليها وقالتْ بحنانٍ:

لَقَدْ اسْتَحْقَقْتَ هذه الهدّية.. ولْتَعْلَم أنّك لمْ تَضْغطْ علَيَّ بتكالِيفِ هذِهِ الرِّحْلةِ.. وَهِيَ ليْسَتْ لكَ وحْدك.. فنَحْنُ سَوْفَ نُسافرُ معكَ.. وهُناك مُفاجَأَةٌ أخْرَى.. لقد عُدْتُ للعمل..

قاطعها (مَعْن):

- لكِنَّكِ لا تذْهَبينَ للمَكْتبِ يا أمّي!

أوْمَأتْ بِرأْسِها ورَدّتْ علَْيه:

- أجَل؛ فأنا في الوقْتِ الحاضِرِ أعَمْلُ مِن المنْزلِ وسَوْفَ أعودُ لمُزَاوَلةِ العَمَلِ في المكتبِ تَدْريجيّاً وحَسب الحاجة.. وَهُناك أمرٌ آخر.. هَذِهِ المُعَسْكرات الصّيْفِيَّة تَقومُ شَرِكَتُنَا بِتَمْويلِها ويُمْنَحُ المُوَظَّفونَ خَصْماً على الاشْتِراكِ فِيها..

غَمَرَ (مَعْن) سُرورٌ جارِفٌ وأخَذَ يَقْفِزُ أمَامَها وشارَكَهُ (سامي) القَفْزَ وَهُوَ لا يُدْرِكُ حقاً سببَ هَذِه الفَرْحةِ.. لكنّهُ يُشَارك أخاه إيّاها..

راقَبَتْهُم (مَيْ) وَهِيَ تَقْبِضُ على قَلْبِها مِن شِدَّةِ ما يَعْتمِلُ فيه.. تَأكّدَت (مَيْ) مِنْ أنّها تَحْمِلُ جَوازاتُ سَفَرِهِم وتَذاكِرُ السَفَرِ..

أَلْبَسَ (مَعْن) (ساميسَمّاعاته وأعْطَاهُ جِهاز الآيْبود.. فَذَلِكَ يَحْجِبُ عَنْهُ الضّجيجَ ويَجْعَلهُ هَادِئاً في أماكِنِ الإزْدِحامِ..

وَضَعَ لَهُ حِزامَ الأمانِ وجَلَسَ بِجانِبِ سائِقِ سَيّارةِ الأُجْرَةِ الّذي طَلَبَتْ مِنْهُ أمّه التّحَرّك..

كان صَباحاً جَميلاً و كانت حَرَكَةُ المرورِ سَلِسَةً على الطَريقِ المُؤَدّي للمطار..

لم تَسْتَغْرِق إَجْراءاتُ السفرِ وَقْتاً طَويلاً.. لكِنّها وكَما جَرَتِ العَادَةُ تُعانِي مَعَ (سامي) في مِثْل هَذِهِ المواقِفِ..

فَرُؤْيَةُ الكَثِيرِ من النّاسِ والأَضْواءِ تُصِيبُهُ بالتَّوَتّر والإنْتِظار كَذلِكَ.. وَتَجْعله يَتَمَرّد وَيُحاول الهُروب لَعَلّهُ يَجِدُ مَكاناً هَادِئاً يَخْتَبِئُ فيه..

 

(٢)

 

 

البَارِحة وَفي مَنْزلٍ آخر..

- يَجِبْ أن تَخْلُدَ للنّومِ يا (فارس).. و إلّا لنْ تَسْتطيعَ النُّهوضَ باكراً..

خاطَبَتْ (فَدْوى) ابْنها ذو الإثْنَيْ عَشَر عاماً.. وَهِيَ تُشيرُ لساعةِ الحَائِطِ الّتي تَعْلو مَكْتَبتَهُ الصَّغيرة..

- حسناً يا أمّي سأُحاوِل .. فأنا مُتَحَمِّسٌ جداً لِرِحْلَةِ الغَدِ .. أشْعُرُ أنَّني أسْتَطيعُ أن ْ أبْقَى مُسْتَيْقِظاً حَتّى بَعْد غَدٍ..

أجابَها و الفَرْحةُ تَكادُ تَقْفِزُ مِنْ وَجْهِه..

ضَحِكَتْ و أخْفَضَت إضاءةَ الغُرْفةِ و أَغْلَقتِ البابَ..

لم يَسْتَغْرِق بِضْعةَ دقائقٍ حتَّى غطّ في نومٍ عميقٍ..

أَعْلَنَ المُنَبّه ُتمامَ السّادِسَة ِصباحاً ، فَقامَ (فارس) بنَشاطٍ و بَدَأ فَوْراً بِتْجهيزِ نَفْسِهِ..

وعِنْدما جاءَ والِدُهُ ليَتْفَقّدَهُ وَجَدَهُ قدْ فَرغَ من إِرْتِداءِ ملابِسِهِ .. فَأَلْقَى عليه التَّحِيّةَ و أَخْبَره ٌ أنّ الفُطورَ مُعَدٌ في المطبخ..

نَزَلَ مُسْرِعاً فَتَناوَلَ كَأْسَ العَصيرِ مِنَ الطاولةِ فَسَكبَ بَعْضَه عليها وتَطايَرَت بعضُ قطَراتُِ العَصيرِ لِتَسْتَقرَّ علَى قَميصِهِ الأَبْيَض..

- أووووه.. لا .. سأُضْطّرُ أنْ أَغَيِّرَ ملابِسي..

قالها (فارس) بضَجَرٍ..

في تِلْك الأثْناءِ كانَتْ أمُّهُ تَهُمُّ بالنُّزولِ على السُّلَّم حينَ اصْطَدمَ بها..

فأمْسَكتْ بِهِ من ياقةِ قَمِيصِهِ وشَدَّّتْهُ.. تَوقَّفَ أمامها .. فلاحَظتْ البُقعَ على القَميصِ..

فسَأَلتْهُ:

- ماهذا يا (فارس).. لَقَد كَبُرتَ علَى هذِهِ التّصَرُّفات.. انْظُرْ إلى نَفْسِكَ.. هيّا إِذْهَب ْ سريعاً وبَدِّلْ ملابِسَكَ.. لقدْ اقْتَرَبتْ مَواعيد رِحْلَتِنا وَقَدْ نَجِدُ الطَّريقَ مُزْدَحِماً إلى المَطار..

هل رَبَطتَ حزام الأمان يا (فارس)؟..

إلْتَفتَ إِلَيْهِ والِدُهُ وَلَمْ يرد.. فأشار إليه أن يُبْعِدَ سَمّاعةَ الأُذُن حتّى يَتَسَنّى لهُ سَماعَهُ..

- ماذا قُلتَ يا أبي؟؟

أجابَهُ (عادل):

- هل رَبَطتَ حِزامَ الأمانِ؟؟

لقد فَعَلْتُ ..

ثُمّ أعادَ السّمَّاعةَ إلى أُذنَيْهِ وبَدَأَ يُدَنْدِنُ أُغْنِيَتَهُ الّتي يَسْتمعُ لها..

تَحَركت السّيّارةُ وسَطَ الزّحامِ مُتَوَجِّهةً نَحْوَ المطار..

ثُمّ أكملَ (عادل) حَديثَهُ مع (فَدْوى)..

- إنّ (فارس) مُتَحَمِّسٌ جداً لِهَذهِ الرحلة.. أرْجو ألّا يُتْعبكِ في هذه الأيام التي سَتْمضونها بِدوني..

فَرَدّتْ عَلَيْهِ (فَدْوى) أن:

- قد بات (فارس) كَبيراً و لَمْ يَعُدْ ذَلِكَ الوَلَدُ الصّغِير المُدَلّل، لقد إسْتَحَقَّ هَذه الرِّحْلة لإلْتِزامِهِ وتَفَوّقِه في دِراسَتِهِ..

وَصَلوا إلى المطار وتَمّتْ إجْراءاتُ السّفَرِ في يُسْرٍ وسُهولَةٍ ، فَلَمْ تَكُن هُناك رِحْلاتٍ كَثيرة ٍ صَبيحةَ ذَلِك اليّوْم..

وَدَّعَهم (عادل) بحرارةٍ مُتَمَنِّياً لَهُم إجازةً سَعيدةً..

سَحَبَ (فارس) حَقيبةَ أُمّهِ الصّغيرةَ وتَقَدَّمَها لِيَجِدَ لهم كَراسِيّاً فارغةً رَيْثَما يَصْعدون للطائرة..

جَلَسَ بِجانبِ أُمّهِ وأخذَ يُراقِبُ مِنْ خِلالِ الزّجاجِ حَرَكةَ الطّائِراتِ في الخارجِ بَيْنَما بَدَأَ المُسافِرون بالتَّوَافُدِ إلَى صَالةِ المُغادَرَةِ..

صَارت صالةُ المُغادَرَةِ كَأَطْلسٍ سُكَّانِّيٍ مَفْتوحٍ..

تَعُجُّ بِعَددٍ مِن الجِنْسِيّاتِ بِمُخْتَلَفَ ألْوانِهم و أَزْيائِهم مِمّا شَدَّ انْتِباه (فارس) فَأَغْلَقَ هاتِفَهُ و سَأَلَ أمَّه بِفُضولٍ:

- أُمّي.. هلْ تَسْتَطيعينَ تَفْرِقَةَ هَؤُلاءِ النّاس مِنْ مَلامِحِ وُجوهِهِم وَمَلابِسِهِم؟؟

وَضَعتْ (فَدْوى) المَجَلّةَ الّتي كانَتْ تُطَالِعُها جانِباً وَرَدّتْ إيجاباً.. وَأَشارتْ بِرَأْسِها لِزَوْجَيْن وقالت له:

- هَذانِ مِنْ (بَاكستان) .. فالزيُّ البِنْجابِيّ يُمَيْزُهُما.. وانْظُرْ هُنالك.. هَؤُلاءِ يَبْدو أنَّهُم مِنْ إِحْدَى دُوَلِ جَنوب شَرْقِ آسيا.. مَلامِحَهُمْ تَدُلُّ على ذَلِك..

فأَخذَ يُشيرُ بِيَدِهِ نَحْوَ مَجْموعةٍ أُخْرَى وأُمُّهُ تُحاوِلُ أنْ تَجْعَلهُ يَسْتَنْتِجَ بِنَفْسهِ بُلْدانَهُم..

إلى أنْ إسْتَوْقَفهُ مَنْظرُ طِفلٍ مِنْ بَعيدٍ..

كانتْ والدةُ ذلك الطّفلِ تُحاولُ أنْ تَحْمِله على المسيرِ ..  لَكِنّهُ يَرْفُضُ بِشدَّةٍ .. فَتُحاوِلُ أنْ تُغْريهِ بِحَلْوَى لَعَلّهُ يُصْغِي لها .. لكن هَيْهات..

فَقَال لأُمهِ:

- انْظُري هُناك ياأُمّي.. وأنْتِ تَتّهِمِينَنِي بالشَّقاوةِ..

لَمْ تُعِرْ أُمّه المنْظَرَ اهْتِماماً بَلْ قالت له:

عِنْدَما كُنْتَ صَغيراً كُنْتَ تَفعلُ أشْياءً أكْثَرُ مِنْ هذا..

ثُّمَ تَناولَتْ مِجَلّتَها وعادَتْ تُطالِعُها بَيْنَما أَعادَ هُوَ سَمّاعتَهُ لأُذُنَيْه مَرةً أُخْرى..

أَعْلَنتْ سُلْطاتُ المطارِ عنْ تَأَخُّرَ رِحْلَتِهم عن مَوْعدِ إِقْلاعِها.. وَذَلك لأسْبابٍ تِقَنِيّةٍ..

فَضَجّتْ الصّالةُ بِأَصْواتِ الرُكّابِ الحانِقينَ ومُطالَبَتِهِم بِتَغْييرِ الطّائرةِ لاسِيَّما وأنّ بَعْضُهُم لَدَيْهِ رِحْلاتٍ إِضافِيَّةٍ مُرْتَبطةٍ بِمِحَطَةِ وُصُولِهِم لِمُدَنٍ أُخْرى..

زَفرَ (فارس) بِضَجَرٍ وطَلَبَ مِنْ أُمِّه السّماحَ لَهُ بالتَجَوُّل قَليلاً في الصّالةِ..

فَقَامتْ مَعَهُ قائِلةً: هَيّا ياصَديقي.. سَأَتَجَوَّلُ مَعكَ.. فَساقايَّ قَدْ تَيَبَّسَتا مِنْ طُول الجُّلوسِ هُنا..

وبالفِعْلِ سَحَبتْ حَقيبَتَها الصّغيرةَ وحمَلَ (فارس) حَقيبةَ ظَهْرِه وَشَرَعا في التِجْوالِ في الصّالةِ.. بِدايةً بالسُّوقِ الحُرَّةِ..

P3.jpg

كانتْ والدةُ ذلك الطّفلِ تُحاولُ أنْ تَحْمِله على المسيرِ ..  لَكِنّهُ يَرْفُضُ بِشدَّةٍ .. فَتُحاوِلُ أنْ تُغْريهِ بِحَلْوَى لَعَلّهُ يُصْغِي لها .. لكن هَيْهات.. فَقَال لأُمهِ: - انْظُري هُناك يا أُمّي.. وأنْتِ تَتّهِمِينَنِي بالشَّقاوةِ..

 

 

حَيْثُ تَفَقّدا السّاعاتِ اليَدَوِيّةَ ومَحَالَّ الألْعابِ والمَكْتَبةِ مُتَنَوِّعَةِ الإصْدارات..

وَقعَ نَظَرُهُ مَرّةً أُخْرى عَلى ذَلِك الطّفْلِ الّذي كانَ يَتَمَلَّصُ مِن يَدِ والدِتَه.. إلّا أَنّهُ هَذهِ المَرّة كان يَجْلسُ بِهُدوءٍ ويَهْتَزُّ جِيئَةً وَذَهاباً كَبْندولِ السّاعةِ..

اسْتَغْرَبَ مِن ذَلِك وَأَرادَ أنْ يُخْبِرَ أُمَّهُ لَكِنَّهُ وَجدَها قَدْ ذَهبتْ لِرُكْنٍ آخَر مِنْ السّوقِ فَتَبِعَها و نَسِيَ الأمْرَ بَعْدَ ذَلِك..

 

(٣)

 

 

مَرَّ الوَقْتُ ثَقيلاً عَلَى الجَّميعِ وَحَضرَ مُمَثِّلونَ عَنْ شَرِكةِ الطّيَرانِ الّتي يُفْتَرضُ بِها نَقْلُهم على مَتْن طائِرَتِها وتوَجّهوا بالاعتذار للمسافرينَ عَنْ طُول إنْتِظارِهِم وأَكّدوا أَنّهُم يُحاوِلون جَهْدَهُم أنْ يُصْلِحوا العُطْلَ الّذي أَصابَ الطّائرةَ..

وَفي حَالِ تَأخَّرتْ عَنْ المَوْعِدِ الجَديدِ سَوْفَ يَقومون بِنَقْلِهم إلى أحَدِ فَنادقِ المطارِ..

أصابَ (فارس) لَحْظَتَها إحْباطٌ حَقيقيٌّ.. فَقَدْ بَدأَ النُّعَاسُ بالتَّسَلُّلِ لعَيْنَيْهِ.. وَقَدْ لاحَظت (فَدْوى) ذَلك فابْتَسمت في وَجْهِهِ.. وَهَزَّتْهُ قَليلاً فَابْتسمَ وقالَ لَها:

أعْرِفُ مَاذا سَتَقولين.. لَكنَّني حَقّاً نِمْتُ جَيِّداً .. لَكنَّ رُبَّما المَلَلُ هُوَ ما ..

وقَطَعَ تَثَاؤُبُهُ حَديثَه.. فاسْتَطْرَدَ:

- هُوَ ما أصَابَني بِالنُّعَاسِ..

لَنْ أَقولَ شَيْئاً..

وَعادَتْ (فَدْوى) لابْتِسامَتِها..

أَخْرجَ (فارس) وِسادَةَ عُنُقِهِ مِنْ حَقيبَتِهَ ولَبِسَها .. ثُمَّ اعْتَدلَ في مِقْعَدِهِ وَأَغْمَضَ عَيْنَيْهِ..

لَمْ يَلْبَثْ كَثيراً حَتّى أَيْقَظتْهُ (فَدْوى) وَأَخْبَرتْهُ أَنّ َشَرِكةَ الطّيَرانِ قَدْ أجَّلَتْ رِحْلَتَهُم حَتّى يَوْمَ الغدِ لِعَدَمَ توَفُّرِ طائراتٍ .. وَأنَّهُم سَوْفَ يَأْخُذونَهُم لِيُقيموا في فُنْدُقٍ..

- حَسَناً ياأُمِّي.. وَلَكِنْ لماذا لا يَسَعُنا أنْ نَذْهَبَ للبَيْتِ ونَأْتي غَداً للمَطارِ؟؟“

فَرَدّتْ عَلَيْه:

- لِقَدْ أُصْدِرتْ لَنا تَأْشيرةُ خُروجٍ مِن البِلادِ.. فَلا نَسْتَطيعُ الدُّخولَ مَرّةً أُخْرى.. وإِلّا لَنْ نَسْتَطِيعُ السّفرَ إلّا بِإِصْدارِ تَأْشيرةٍ أُخْرى..فَهِمتْ؟؟“

هَزَّ رَأْسَهُ إِيجَاباً..

- يَبْدو الأمْرُ مُعَقَّداً ..

وَبَدَأَ يَتَمَطَّى..

- ما رَأْيُكَ لو تَذْهَبُ إلى آلةِ البَيْعِ تِلْك..“

 وأشارَتْ (فَدْوى) بِيَدِها لإحْدَى الزَّوايا..

- وَتَبْتاعُ لنا بَعْض الحَلْوى والعَصير..

مُوافِقٌ بالطّبْعِ يا أُمّي.. 

قال (فارس) وَقَامَ مِنْ تَوِّهِ..

أَرَادتْ (فَدْوى) أنْ تُعْطيهِ نُقوداً لَكِنّهُ أَخْبَرها أنّهُ يَدْعوها هَذِه المَرّة..

وَقَبْلَ أن يتَحرَّكَ مِنْ مَكانهِ ذَكَّرتْهُ أمُّهُ أنْ يَحْترِمَ الدَوْرَ وَيَتْرُك لكبارِ السِنِّ مَجالاً وَأن يُساعِدَ الصِّغارَ مِنْ الّذينَ لا يَطولونَ أَزْرارَ الآلَةِ..

هَزَّ رَأْسَهُ ثانيةً وَذَهَبَ..

وَعِنْدَ وُصولِهِ وَجَدَ امرأةً تُحاولُ إدْخالَ النُّقودَ لَكِنّها تَأْبَى.. فَعَرضَ عَلَيْها المُساعدةَ..

ناوَلَتْهُ إيّاها وَسَأْلها عَمّا تُريدُه..

وبالفِعْل بَعْد لَحظاتٍ كانَ قَدْ أَعْطاها كُوبَ الكَاكاوِ الساخِنِ وعُلْبةَ الكَعْكِ الصَّغيرةِ..

عَرَضَتْ عَلَيْه أن تَبْتاعَ لَهُ ما جاء لشِرائِهِ.. لَكِنّه رَفضَ بِلُطْفٍ وَشَكرها..

جالَ بِبَصَرِهِ علَى مَعْروضاتِ الآلةِ قَليلاً  ليُقَرِّر ماذا يَشْتري..

فَجَاءَهُ صوتٌ مِنْ خَلْفِهِ..

- مَرْحبا.. هَلْ قَرَّرْتَ ماذا سَتَشْتَري أمْ أنْتَظِرُ أكْثَر؟؟

قال له (مَعْن) مُمَازِحاً وَهُوَ يَقِفُ خَلْفَهُ فالْتَفَت إليه (فارس) مَذْهولاً..

-”(مَعْن) ! ما الّذي جاءَ بِكَ إلى هُنا؟؟“

ضَحِكَ (مَعْن) وَقَالَ لَهُ :

- جِئْتُ لأُصَوِّرَ فيلْمَاً وَثائِقِيّاً عَن المطارِ..

اسْتَغْرَبَ (فارس) رَدّهُ وَلَكِن قَهْقَهَة (مَعْن) جَعَلَتْهُ يُدْرِك أَنّهُ يَمْزح..

- أنا مُسافِرٌ مَعَ أُمِّي وَأَخِي الصّغيرِ لألْتَحِق بِمُعَسْكَرِ الأَشْبالِ الصَّيْفِيِّ“..

وأنا أَتَمَنّى لَوْ كُنْتُ كذلك ..

رَدَّ عَلَيْه (فارس)..

- أنا سَأُمْضِي العُطْلةَ مَعَ أُمّي..

- حَسَناً هَلْ سَتَشْتري أَمْ لا؟؟“

إِعْتَذرَ (فارس) وَقَامَ بِطَلَبِ عُلْبَتَيْ عَصيرِ فَواكِهٍ مُشَكَّلةٍ وَقِطْعَتيْ شُوكُولا جَالَكْسي كارامِيل..

ابْتَسَمَ لـ(مَعْن) وَقَال له:

- تَفَضّل..

أَوْقَفهُ هَذا الأَخيرُ  وَقالَ لَهُ:

- أِنْتَظِرْني لِنَذْهبَ مَعاً.. مَا رَأْيُك؟..

وافَقَ (فارس).. فقامَ (مَعْن) باِبْتِياعِ عِدَّة عُلَبٍ مِن العَصيرِ والمَشْروباتِ الغازِيَّةِ وَرَقائِقِ البَطَاطِسِ وَحَلْوى..

فتَعَجّبَ (فارس) مِن كِمِّيَةِ الأَشْياء..

وَسَأْلَهُ:

- هَل سَتُقيمُ حَفْلَةً بِكُلِّ هَذِهِ الأَشْياء..

لَمْ يَمْلِك( مَعْن) فُرْصَةً للإجابة.. فَقَدْ صُمَّتْ أُذُنُ الصَالَةِ.. بِصَرْخَةٍ عَالِيَةٍ جِدّاً.. وَتَلَتْها أُخْرى..

فاْلَتَفتَ الجَّميعُ لِمَصْدَرِ الصّوْتِ..

وَيالِلْدَهْشَة هُوَ ذاتُ الطِّفْلِ الّذي لَمحَه (فارس) لأَكْثَر مِنْ مَرةٍ هَذا اليَوْم..

شَعَرَ بِالغَضَبِ مِنْ تَصَرُّفاتِهِ..

مَعَ أَنَّهُ  يَبْدو أَصْغرَ سِنّاً مِنْهُ بِكثيرٍ فَهَذا لايُعْطيهِ الحَقَّ ألّا يُراعِيَ آدابَ الّلياقةِ العامّةِ..

وَعَبّرَ عَنْ ذَلِك لـ(مَعْن) .. الّذي شَعَرَ بِانْزِعاجٍ واضِحٍ مِنْ حَديثِ (فارس).. وَقالَ لَهُ بِحَزْمٍ:

لَيْسَ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تُصْدِرَ أَحْكاماً عَلى النّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْرِفَ تَفاصيلَ ما يحْدُث معَهم..

وَذَهبَ دونَ أَنْ يَقول لَهُ شَيْئاً آخراً..

P4.jpg

وَعَبّرَ عَنْ ذَلِك لـ(مَعْن) .. الّذي شَعَرَ بِانْزِعاجٍ واضِحٍ مِنْ حَديثِ (فارس).. وَقالَ لَهُ بِحَزْمٍ: - لَيْسَ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تُصْدِرَ أَحْكاماً عَلى النّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْرِفَ تَفاصيلَ ما يحْدُث معَهم..

 

 

(٤)

 

 

في تِلْكَ الأَثْناءِ حَضَرتْ (فَدْوى) بَعَدَ أَنْ تَأَخّرَ (فارس) في العَوْدَةِ وَأَخْبَرَتْهُ أَنّ مُوَظَّفي خُطوطِ الطَّيَرانِ يَجْمَعون المُسافرينَ لِنَقْلِهم إلى الفُنْدُق..

قالَ لَها وَهُوَ يَشْعُرُ بِالحَيْرَةِ:

- كُنْتُ سَأَعَرِّفُكِ عَلى (مَعْن) صَديقي مِنْ المَدْرسةِ .. وَلَكِنَّهُ اِنْصَرَفَ غاضِباً مِنْ تَعْليقي عَلى ذَلِكَ الصَّبِيّ ..

حاولَ أَنْ يَبْحَثَ عَنْهُ بِنَظَرِهِ، لَكِنّه أِخْتَفى بَيْنَ الجُّموعِ..

عِنْدَما وَصَلَ (مَعْن) إِلى حَيْثُ تَرَكَ أُمَّهُ وَأَخاهُ؛ وَجَدَ (سامي) مُسْتَلْقِياً عَلى الأَرْضِيّةِ و(مَيْ) جَاثِيَةٌ بِجانِبِهِ تُحاوِلُ أَنْ تَجْعَلُهُ يَقِفْ لأَنّ الجّميعَ تَجَمّعوا لِيُنْقَلوا إلى الُفْندُق..

وَلَكِنّهُ يَرْفُضُ وَيَبْكي بِشِدّةٍ..

وَضَعَ (مَعْن) الأَشْياءَ جَانِباً وَأمْسَكَ بِيَدِهِ إلّا أَنّ (سامي) أزاحَ يَدَهُ واسْتَمَرّ في البُكَاء..

حَاوَلتْ (مَيْ) تَهْدِئَةُ (سامي) بَيْنَما بَقِيَ (مَعْن) مُحْتاراً مَاذا يَفْعل..

اقْتَرَبَتْ مِنْهُم مُوَظَّفُة أَمْنِ المطارِ وَهِيَ تَظُنُّ أَنّ هُناك شَيْئاً مُريباً يَتَعَلَّقُ بـ(سامي)..

وَكَانت تُجْرِي حَديثَاً لاسِلْكِيَّاً مَعَ مُشْرِفِها تَخْبِرُهُ بِشُكُوكِها، فَرُبّما كانَ الصَّبِيُّ مُخْتَطَفاً وَيَرْفُضُ المُضِيّ .. وَصُراخُهُ المُتَكَرّر ماهُوَ إلّا طَلَباً للمُساعَدَة..

وَضَعتْ يَدَها عَلَى جُرابِ سِلاحِها وَسَأَلتْ (مَيْ):

- هَلْ كُلّ شَيْءٍ عَلى ما يُرام سَيِّدَتي..

رَفَعتْ (مَيْ) رَأْسَها إِلَيْها وَأَجابَتْها بِتَعَبٍ:

- نَعمْ نَحْنُ بِخَيْرٍ؛ لكن ابْنِي يَرْفُضُ أَنْ نَلْتَحِقَ بالجَّميع..

نَزَلَتْ المُوَظّفَةُ عَلى قَدَمَيْها وَسَأَلتْ (سامي):

- مااسْمُكَ ياصَغيري..

لَمْ يُجِبْها بَلْ انْتَفَضَ كَمَنْ صَعَقَهُ تَيّارٌ كَهْرُبائيٌ وأَطْلقَ صَرْخةً أَقْوى..

مِمّا جَعَلها تَجْفُلُ للخَلْف..

تَجَمّعَ عَدَدٌ مِنْ حُرّاسِ الأَمْنِ حَوْلَهُم في تِلْكَ الأَثْناءِ..

- إنّ أَخي مُشَخّصٌ بـ(التَّوَحُّدِ) واسْمُه (سامي).. أنا (مَعْن) وهَذِهِ أُمُّنا (مَيْ)..

تَكَلّمَ( مَعْن) بِحِدّة مَعَ أُولَئِكَ الّذينَ يُحيطونَ بِهِم.. وتَجَاهلَ صَوْتُ (مَيْ) وَهِيَ تَشْرحُ للمُشْرِفِ حَالَة (سامي) وَتُبْرِزَ لَهْ أَوْراقَهم الثُّبُوتِيّةَ..

اسْتَطْرَدَ (مَعْن) بِصَوْتٍ واثِقٍ:

الضَوْضاءُ والزِّحامُ يُصيبانِهِ بالتَّوَتُّرِ..

وانْحَنَى نَحْوَ (سامي) وَتَفَقّدَ سَمّاعة أُذُنِهِ وجِهاز الآيْبود الخاصّ بِه ..

وتابَع:

يَبْدو أنّ شَحْنَ جِهازِهِ قَدْ نَفذَ..

ثُمّ أَخْرَجَ الآيْبود الخاصّ بِهِ هُوَ؛ وفَتحَ فيه قائِمَةَ تَشْغيلٍ باسم (سامو) ووضعَ السّماعاتِ فِي أُذُنَيْ (سامي) الّذي كان يَئِنُّ ويَبْكي مُهْتَّزاً للخَلْفِ والأَمامِ..

فَسَكتَ الصّغيرُ وكَأَن شَيْئاً لَمْ يَكُنْ.. كأنّ (مَعْن) ضَغَطَ زراً للإيقاف..

إعْتَذَرت المُوَظَّفة مِنْهُما وَبَرَّرَت تَصَرُّفِها هَذا بِأَنّهُ احْتِياطاتٌ أَمْنِيّةٌ يُلْزِمُها القانونُ بها.. وتَمَنّتْ لَهُمْ رِحْلةً سعيدةً..

اسْتَجْمَعَت (مَيْ) أنْفَاسَها ونَظَرت لـ(مَعْن) الّذي مازالَ مُنْفَعِلاً وَرَأتْ دَمْعتين تَتَرَقْرَقانِ في مقلَتَيْه..

..

فَهَمَستْ لَهُ:

- (مَعْن) لَقَدْ كانَ سُوءُ فَهْمٍ لَيْسَ إلّا.. وَقَدْ اعْتَذروا لَنا..

رَدّ علَى أُمّه بِغَضَبٍ:

لماذا يَفْتَرِضُ الجَّميعُ أنّ هُناكَ خَطْباً ما؟! .. لماذا يُطْلِقون عَلَيْهِ الأَحْكامَ دونَ أنْ يُكَلّفوا أنْفُسَهُم عَنَاء السُّؤالِ بِلُطْفٍ.. حَتَّى ..

خَنَقَتِ العَبْرَةُ كَلِماتِهِ وانْسابَتْ دُموعُهُ علُى وَجْهِهِ..

هَزَّتْهُ (مَيْ) مِنْ كَتِفَيْهِ وقالتْ لَهُ :

(سامي) لَيْسَ طِفْلاً عادِيّاً فَهُوَ مُخْتَلِفْ وأَنْتَ تَعْرِفُ ذَلك.. صَحيح؟؟ .. وَكُلُّ تَصَرُّفاته تُثيرُ الإنْزِعاج لِمَنْ لايعرِفه؛ لَيْسَ مِنْ حَقّنِا نَحْنُ أَنْ نُجْبِرَ النّاسَ علَى أَنْ يَتَصَرَّفوا وِفْقاً لمَعْلوماتٍ لايَعْرِفونَها مُسْبَقاً.. وأَقْرَبُ مِثالٍ تِلْكَ المُوَظّفة.. لَقَدْ شَكَّتْ في أَنّ (سامي) مُخْتَطَفٌ أو أن ّ إساءةً في المُعامَلةِ قَدْ لَحِقَتْ بِه.. فَتَصَرّفتْ بِناءً على وَاجِبها.. وعِنْدَما تَبَيَّنَ لَها العَكْسُ تَفَهَّمْت ذَلك واعْتَذَرتْ..  ألَيْسَ كذلك؟؟ ..

هَزّ رَأْسَهُ إيجاباً وَمَسحَ وَجْهَهُ بِمِنْديلٍ وَرَقِيٍّ وَقَذفَهُ نَحْوَ سَلّةِ المُهْمَلاتِ .. لَكِنّهُ لمْ يَسْقُط ْ داخِلها بَلْ سَقَطَ أمامَ تِلْكَ المُوَظّفةِ الّتي إلْتَقَطَتْهُ وأَلْقَتْ بِهِ داخلَ السَّلةِ .. فَسارَعَ (مَعْن) بالأسَفِ ، لَكِنّها أشارَتْ بِيَدِها أنّه لاعَلَيْك..

وَعَرَضَتْ عَلَيْهم أنْ يُنْقُلوا إلى فُنْدُقِ المطارِ بسيّارةٍ خاصَّةٍ..

رَفَضتْ (مَيْ) بِلُطْفٍ وَأَخْبرتها أنّ (سامي) في العادةِ هادِئٌ ومُسالِمٌ وأَنّ ماحَدَثَ سابِقاً هُوَ نَتيجَة لِعَدَم عِلْمي أنّ بَطّارِيّةَ جِهازِهِ قدْ نَفَذتْ..

لكنّ المُوَظّفة أصَرَّتْ علَى طَلَبِها وقالتْ أنَّ هَذا أَبْسَطُ طَريقَةٍ لِتُقَدِّمَ اعْتِذارها ..

نَزَلتْ (مَيْ) عِنْدَ رَغْبَتِها وَلَمْ يَمْضِ إلّا وقْتٌ قَصيرٌ  وَوَجَدوا أَنْفُسَهم داخلَ جَناحِهم في الفُنْدقِ..

صَعَدَ الجّميعُ علَى مَتْنِ الحافِلَةِ المُتَّجِهَةِ إِلَى فُنْدُقِ المطارِ.. حَيْثُ كانَ في اسْتِقْبالِهم سَيِّدَةً يَبْدو مِنْ زِيِّها أنّها مُوَظّفة في شَرِكةِ الطّيَرانِ..

وعِنْدَ اِكْتِمالِ العَدَدِ طَلَبَتْ مِنْهُم أنْ يَقوموا بِمَلِء اسْتِماراتٍ خاصَّةٍ لَيَتَسَنَّى لاسْتِقْبالِ الفُنْدقِ تَوْزيعَهم علَى غُرَفِهم بِسُرْعةٍ..

أخْرَجَ (فارس) قَلَماً وَنَاوَلَهُ لأُمّهِ.. الّتي بَدَأَتْ في تَعْبِئَةِ الوَرَقة بَيْنَما أَخذَ يَتَلَفّتُ يَميناً ويَساراً  باحِثاً عَنْ (مَعْن).. وَلِكِنّهُ لَمْ يَجِدَهُ بَيْن َالأَوْجُهِ المُحيطَةِ به ..

لاحَظَتْ (فَدْوى) خَيْبةَ الأَمَلِ الّتي ارْتَسَمتْ في عَيْنَيْهِ فَرَبّتَتْ بِحُنُّوٍ عَلَى كَتِفِهِ وقالت له :

- سَوْفَ تَلْتَقي بصَديقِكَ.. لا تحْزن..

 

(٥)

 

 

لَمِحَ (فارس) (مَعْن) في رُدْهَةِ الفُنْدقِ عِنْدَ وُصُولِهم وَهُوَ يَتَجَوّلُ في الجِوَارِ مُمْسِكاً بِيَدِ ذَلِكَ الصّغيرْ ممّا أدْهشه..

هَلْ كانَ صَوْتُ (مَعْن) الصّارِمَ وَهُوَ يُحَاوِلُ أَنْ يَجِدَ تَبْريراً لِتِلْكَ التَصَرُّفاتِ المُزْعِجَةِ لأَنْ الصَبِّيَ أَخَاهُ؟؟

هَلْ تُراهُ يُعانِي مَرَضاً نَفْسِيّاً أَمْ تُراهُ فَقَطْ يَفْتَقِرُ لأَبْسَطِ قَواعِدِ الأَدَبِ..

لَمْ يُنادي عَلَى (مَعْن) أو يُحاوِلَ أَنْ يُظْهِرَ نَفْسَهُ لَهُ..

تَحَرّكَ المِصْعَدُ في هُدُوءٍ إلِى الطَبَقَةِ الثّالِثَةِ حَيْثُ تُوجَدُ غُرْفَتُهم..

نَزَلتْ أُسْرتان مَعَهُما فِي ذَاتِ الطّابِقِ وكانت غُرَفُ الأسرتَيْن بَعيدة ًعنْ المِصْعَدِ بِعَكْسِ غُرْفَة (فَدْوى) و (فارس) الّتي تَبْعُدُ بِضْعَ خُطَواتٍ عَنْهُ..

اسْتَلْقى (فارس) علَى السّريرِ دونَ أنْ يَخْلَعَ حِذائَهُ وَأَخذَهُ نَوْمٌ عَميقٌ..

فَجَاءتْ (فَدْوى) وَخَلَعته بلُطْفٍ حتّى لا يَسْتيقِظَ وغَطَّتْهُ وطَبَعَتْ قُبْلةً حَانِيَة ً عَلى جَبِينِه..

جَلسَتْ عَلى طَرفِ السَّريرِ الخاصِّ بِها واتَّصَلتْ عَلى (عَادِل) لتُطَمْئِنَهُ عليهِم..

ثُمَّ لَمْ تلبَثْ إلاَّ واسْتَسْلَمَتْ هِيَ الأخْرَى للنَّوْم..

أيْقَظَها رَنينُ الهاتِفِ بِجَانِبِهَا..

- ألو.. مَرْحباً.. نَعمْ أنَا هِيَ..

حَسناً سوفَ نَنْزِلُ بَعْدَ قلِيل.. شُكْراً..

"(فَارِس).. (فَارِس).." نَادتْ عَلَيْهِ أُمُّهُ لَعلَّهُ يَسْتَيْقِظ.. لكنَّهُ تَدثَّرَ بأغطِيَتِهِ مُحاوِلاً الحُصولَ عَلى بِضْعِ دَقائِقٍ أُخرَى مِن النَّوْم.. لكنَّهَا لَمْ تَسْمَح لَهُ وسَحَبتْ الأغطِيَةَ مِن وَجْهِه..

- قُمْ هَيَّا.. فقد اتَّصَلوا عليَّ مِن الاسْتِقْبَالِ يُخبرونَنِي بأَنَّ مَطعمَ الفُنْدُقِ قَد خُصِّصَ لنَا لتنَاوُلِ العشَاءِ لمدَّةِ ساعَتَيْنِ ومِن ثَمَّ سَوف يَقوم بِخدمَةِ النُّزَلاءِ الآخَرين..

تَملْمَلَ ثُمَّ نهضَ بكَسَلٍ وتَوجَّهَ للحمَّامِ حَيْثُ رَتَّبَ هِنْدَامَهُ ..  وانتَظَر أُمَّه خارِجاً أمامَ بابِ الغُرْفَة..

لَحِقَتْ بهِ (فَدْوَى) بَعْدَ وَقتٍ قَصيرٍ ونَزَلا معاً إلى رُدْهَةِ الفُندُقِ حَيْثَ يَقعُ المَطْعَم..

تعدَّدتِ الطَّاوِلاتُ مَا بَيْن العَائِليَّةِ التي تَحتوِي أكثرَ مِنْ ثَمانِيَةِ مَقاعِد..  وأُخرَى تَحتوِي عَلى خَمْسَة..

اختَارتْ (فَدْوى) طاوِلةً فِي رُكْنِ المَطْعمِ بَها كُرسِيَّان.. فوَضعَ (فَارِس) حَقيبةَ ظَهْرهِ بجانِبِ قَوائمِ الطَّاوِلةِ وتَناوَلَ قائِمَة الطَّعامِ وقَدَّمهِا لِوالِدَتهِ وطَلبَ مِنْهَا أَنْ تَخْتارَ لَهمْ أصْنَافَ الوَجْبَة..

تَمَّتْ خِدمتُهُم عَلى أكْمَلِ وَجْهٍ ثُمَّ تُركَتْ لَهم حُرِّيَّةُ الذَّهابِ إلى غُرَفِهِم أَو المُكُوثِ في حَديقَةِ الفُنْدُقِ الخَارِجِيَّةِ بشَرْطِ عَدمِ الخُروجِ مِنْ الفُنْدقِ لِما قَدْ يُسَبِّبُه ذَلك مِن مَشاكِلَ لَهُم كمُسَافِرين..

اقْتَرحَتْ (فَدْوى) على (فَارِس) أَن يَجْلِسُوا في الحَديقَةِ لَعَلَّهُ يُصَادِفُ صَدِيقَهُ (مَعْن).. لَكِنَّ (فَارِس) لَمْ يَكُن مُتَحمِّساً لِذَلك..

فسَألَتْهُ عَن سِرِّ فُتُورِ حَماسَتِهِ المُفَاجِئ..

فقَصَّ عَليها مَا حدَثَ مَعهُ مِنَ الألفِ حتَّى اليَاء.. وأنَّه نَدِم أَن قامَ بِانتِقَادِ تصَرُّفاتِ ذَاكَ الصَّبِيّ.. لكَنَّهُ أَرْدَفَ أنَّ (مَعْنَ) كانَ يجبُ أَنْ يُخْبِرَهُ أنَّ ذَلكَ الصَّبِيّ ذُو صِلَةٍ بِهِ..

صَمتَتْ (فَدْوى) قَليلاً وقَالتْ لهُ أنَّها لا تَمْلِكُ مَعْلومةً عَنْ ذَاك الغُلامِ لِتُبَرِّرَ مَوْقِفَهُ هُوَ أَو مَوْقِفَ (مَعْن).. وأَنَّ اختِلافَ الآخرِينَ عَنّا لا يُنَصِّبُنَا قُضَاةً عَلَيْهِم.. ولا يُمَلِّكُنَا الحقَّ أَنْ نَحْكُمَ عَليْهِم..

تَلقَّتْ (مَيْ) ذاتَ المُكَالمَةِ مِنْ اسْتِقْبَالِ الفُنْدُقِ ولكنَّها فَضَّلتْ طَلبَ خِدْمَةِ الغُرَفِ فِيما بَعْد، حَتّى لا تُوقِظَ (مَعْن) و(سَامي) اللّذيَنِ استَسْلَما لنَوْمٍ عمِيقٍ.. كانَا حقّاً بِحاجَةٍ ماسّةٍ للرّاحَة.. جمِيعُهُم كانُوا كَذلك..

لمْ تَعلَمْ كَمْ ساعةً قَدْ نَامتْ.. حَتّى شَعَرتْ بِيَدٍ صَغيرةٍ تُدَاعِبُ وَجْهَها.. اعتَادَ (سَامي) أَن يُوقِظَ أُمَّهُ بِهذِه الطَّريقَةِ  لأنَّها تَفْعَلُ لَه ذَلك..

وقَالَ لَها بكَلِمَاتهِ التِي لَها وَقْعُ الآليَّة..

- الحَمّام.. الحَمّام.. المِنْشَفَة ..

تذكَّرَتْ أنَّها لَمْ تُرَتِّب لَهُ أشْيَائهُ عَلى المِنْضَدةِ بِجانبِ سَرِيرِه..

فَقَدْ نصَحهَا مُعَالِجوه أَن تَعْتَمِدَ ثَلاثةَ طُرُقٍ لتَرْتِيبِ حَاجيَاتِه حتّى تَتمكَّنَ مِنْ جَعْلِه يتَقبَّلُ تَغْيِيرَ الرُّوتِين.. وهذِه أَحدُ الحَالاتِ التي يَسْتحِيلُ فِيها التَّرْتِيبُ كَما فِي المَنْزِل..

فحَمَدتِ اللهَ على ذَلك.. وإلا لَمْ تَكُن لتَعْرِفَ كَيْف تتصَرَّفُ مَع عِنادِ (سَامِي) ونَوْبَاتِ غَضبِه..

فَرِغَ (سَامِي) مِن الحَمَّامِ واستَيْقظَ (مَعْن).. فقَامتْ (مَيْ) بطَلبِ الوَجْبَةِ لَهُم وتَناولُوهَا بِنَهْمٍ..

"عَلى هَذا المِنْوالِ ستَأْكُلانِني أَيْضاً" خَاطبَتْ طِفْلَيْهَا ضَاحِكَة..

لَمْ يَكْتَرِث (سَامي) لدُعَابَتِها.. فهُوَ لا يَسْتوعِبُ هذهِ الأشيْاءَ إلا نَادِراً بَينمَا ابتَسمَ (مَعْن) وعَيْناهُ تُرَاقِبانِ أُمَّهُ التِي شَرَدتْ فِي وَجْهِ (سَامي) وحَركةِ يَدِهِ المُنْتَظِمَةِ بَيْنَ الطَّبَقِ وفَمِه..

قَطعَ عَليهَا (مَعْن) شُرودَها وسَألهَا أَنْ تَسْمحَ لهُمَا بالنُّزُولِ إلَى حَدِيقةِ الفُنْدق.. على أَن لا يُهْمِلَ (سَامي) وينْتَبِهَ لَه..

وافَقَتْ عَلى مَضضٍ تَحْتَ إلْحَاحِ (مَعْن) وتَرْدِيدِ (سَامي) لكَلِمَةِ حَدِيقةَ عِدِّةِ مَرَّات..

 

(٦)

 

 

انتَهَى (فَارس) و(فَدْوى) مِن تَناوُلِ الطَّعَامِ وجَلسُوا فِي حَدِيقَةِ الفُنْدُقِ التي تُطِلُّ عَلى مَسْبَحٍ عِمْلاق.. وبِجَانِبهِ وُضِعَتْ عِدَّةُ أَكْواخٍ خَشَبِيَّةٍ تُبَاعُ فِيهَا مَشْرُوباتٌ ومَأْكُولاتٌ خَفِيفة وتِذْكَارَات ومَشْغُولاتٌ يَدوِيَّة..

وهُنَاكَ رُكْنٌ خَاصٌّ يَسْتَمِعُ فِيهِ النُّزَلاءُ لمُغَنّيينَ مَحَلّيّين..

كَانَ الجوُّ جَمِيلاً لا سِيَّمَا وقَدْ زُوِّدَت السَّاحاتُ بمَرَاوِحَ ضَخْمَةَ تَبُثُّ رَذَاذاً مُنْعِشاً..

جَلَسَتْ (فَدْوى) مُسْتَمْتِعَةً بِهذِه الأجْوَاءِ الجَمِيلَة..

رَنَّ هَاتفُهَا النَّقَّالُ وكانَ (عَادِل) يسْتَفْسِرُ عَنْ مَكَانِهم فِي الفُنْدُق.. طَلَبَتْ مِنْهُ الجُلوسَ فِي البَهْوِ رَيْثَمَا تَأتِي إِلَيْه..

أَخْبَرتْ (فَارِس) بأَنْ يَمْكُثَ فِي مَكانِه حتّى لا يَفْقِدُوا هَذه الطَّاوِلَة..

رَكضَ (فَارِس) نَحْوَ والِدِه وتَلقَّاهُ (عَادِل) بذِرَاعَيْنِ مَفْتُوحَتَيْن.. وقَالَ لهُ:

- لَقدْ اشْتَقْتُ لكَ جِدَّاً يَا صَدِيقِي.. مَا رَأْيُكَ لَوْ تَرَكْتَ هَذهِ الرِّحْلَةَ وعُدْتَ وأُمُّكَ مَعِي إلى المَنْزِل..

فرَدَّ (فَارِس):

- حَسناً لا مَانِعَ لديّ..

وجَلَسَ مُتَأفِّفَاً عَلى الكُرْسِيّ..

فنظَرَ (عَادِل) إِلى (فَدْوى) مُسْتَغْرِباً رَدَّةَ فِعْلِ (فَارِس).. فهَزَّتْ لهُ رَأْسهَا بِمَعْنَى أنَّنِي سَأخْبِرُك لاحِقاً..

أَعْطَى (عَادِل) ابْنَهُ بُطَاقتَهُ الائْتِمَانِيَّةَ وأشارَ لأحَدِ الأكْوَاخ..

- اشْتَرِي لكَ مِنْ هُنَاكَ مَا يُعْجِبُك..

أخذَهَا (فَارِس) بكَسلٍ وجَرْجَرَ أقْدَامَهُ نَحْوَ الكُوخ..

عِندهَا التَفَتَ لـ(فَدْوى) وسَألهَا عنْ سِرِّ هَذا التَّغْيِيرِ المُفَاجِئ فِي (فَارس) وما الذِي أَفْقَدهُ حَمَاسَه..

قَالتْ (فَدْوى):

- لَيْسَ التَّعَبُ يا عَزِيزِي.. إنَّما حَدثَ مَوْقِفٌ لهُ مَع أَحَدِ زُمَلائِهِ فِي المَدْرَسةِ وهُوَ مَا حَزّ فِي نَفْسِه.. سَتَعُود حَماسَتُهُ غَداً بمُجَرّدِ ما يَصْعَدُ عَلى الطَّائِرَة.. ألا تَعْرِفُ (فَارِس)؟؟..

عَادَ (فَارِس) خِلْوَ اليَديْنِ وأعَادَ البُطَاقةَ لأبِيهِ.. وأَخْبَرَهُ أنَّهُ لَمْ يَجِدْ شَيْئاً..

أَجْلَسَهُ (عَادِل) على طَرفِ كُرْسِيِّهِ وقَالَ لَه:

- هَذهِ المَرَّةُ الأولَى فِي حَياتِكَ تَرْفُضُ أَنْ تَبْتَاعَ شيْئاً بِهذِه البُطَاقة.. انْظُر لَها..

وجَعَلَ يَهُزُّهَا أَمَام نَاظِرَيْه.. واسْتَطْرَدَ:

- إنَّهَا تَرْقُصُ فَرَحاً..

ضَحِكَ الجمِيعُ بِما فِيهِم (فَارس)..

ثُمَّ قَرَّبَهُ مِنْهُ وطَلبَ مِنْهُ أَن يُواجِهَ الحَياةَ بِقُوَّةٍ وألّا يَتأثَّرَ بِالمَواقِفِ مَهْمَا كَانَتْ.. وأنْ يَكُونَ شُجاعاً في تَقْديمِ التَّنَازُلاتِ والاعْتِذَارِ إذَا مَا لَزَمَ الأمْر.. وأنَّ (مَعْن) وذَاك الصَّبِيّ لَهُمَا قِصَّةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَن يَعْرِفَها لَو كَانَ حَرِيصاً على عِلاقَتِهِ بـ(مَعْن).. أو أَن يَنْسَاها ها هُنَا..

وافَقَهُ (فَارس) الرَّأْيَ بإيمَاءَةٍ من رَأْسِه.. واسْتَطْرَدَ قَائِلاً:

- سَأعْتَذِرُ مِن (مَعْنَ) لَو صَادَفْتُه..

- هذا هُو بَطلِي.. وعَبثَتْ يَدُ (فَدْوى) بشَعْرِه بِدلال..

وفِي أَثْناءِ جلْسَتِهِم تِلكَ لاحَظُوا حَركةً غَيْرَ اعْتِيادِيَّةٍ لمُوَظَّفِي الأمْنِ وبَعْضَ مُوَظَّفِي شَرِكَةِ الطَّيَران.. ثُمَّ اقْتَربَ أَحَدُهُم مِنْ طَاوِلَتِهِمْ وسَألَهُم بشَيْءٍ مِن العَجَلة:

- مَساءُ الخَيْر..

رَدُّوا عَليْهِ التَّحِيَّة.. فقال:

- هَلْ رَأيْتُم سَيّدِي.. سَيّدَتِي طِفْلاً في السَّابِعَةِ تَقْرِيباً مِن عُمْرِه .. يَرْتَدِي بِنْطَالاً أَسْودَ وقَمِيصاً مُخَطَّطاً ولا يَبْدُو عَلى مَا يُرَام؟؟..

رَدّتْ عَليهِ (فَدْوى) بالنَّفْيِ واسْتَفْسَرَتْ عَنِ المَوْضُوع.. فأجَابَها أنّ طِفْلاً مُصَاباً بالتَّوحُّدِ قَدْ فَقَدتْهُ أُسْرَتُهُ قَبْلَ قَلِيل.. وهُوَ لا يُجِيدُ التَّواصُلَ أو الكَلامَ..

- لِذا أَرْجُو مِنْكُم أَنْ تُخْبِرُوا أَحدَ رِجالِ الأمْنِ أَو مُوَظَّفِي شَرِكَةِ الطَّيَرانِ إِذا رَأَيْتُمُوه.. وبِالمُنَاسَبةِ اسْمُهُ (سَامي)..

فهَبَّ (فَارس) واقِفاً وتَطوَّعَ أَن يَبْحثَ عَنْهُ هُوَ أَيْضاً وسَألَ المُوَظَّفَ عَنْ مَلامِحهِ أَو أنَّهُ يَحْمِلُ صُورَةً لَه.. فأَعْطَاهُ الرَّجُلُ صُورَةً لـ(سَامي) و(مَعْن) مَعاً.. فهَتفَ (فَارِس):

- أبِي.. أُمّي.. هذا (مَعْن).. سأذْهَبُ لأبْحَث عَنْهُ وأتمَنَّى أَن أَجِدَهُ حتّى يَكونَ اعْتِذَارِي فِعليّاً لـ(مَعْن)..

استَوْقَفَت (فَدْوى) (فَارسَ) وسَألتْهُ كَيْفَ سيَتَصرَّفُ إذَا مَا لَقِيَ ذَلكَ الصَّبِيَّ.. (سامي)..

فكانَتْ إجَابتُهُ أنَّهُ سَوفَ يَصْحَبُهُ إلى أَحدِ المُوَظَّفِينَ كَما طَلبَ الرَّجُل..

فقالَتْ لَه:

- لَمْ يَطْلُب مِنّا المُوَظَّفُ أَن نَصْحَبَهُ لَهُم .. بَلْ أَنْ نُخْبِرَهُمْ إذا مَا رَأْينَاه.. هَلْ تَعْرِفُ لِماذَا يا (فَارِس)؟..

سألته فدوى.. فأجابها:

- لا يا ماما..

- حسناً يا بُنَيّ..

وأجْلَسَتْهُ على المِقْعَدِ المُقَابِل لهَا وبَدأَتْ تَشْرَحُ لَه:

- (سامي) طِفْلٌ مُصَابٌ بالتَّوَحُّدِ.. فَهلْ تَعْلَمُ أيَّ شَيْءٍ عنْ أَطْفالِ التَّوَحُّدِ أَو عَنْ التَّوَحُّدِ فِي حَدِّ ذَاتِه؟..

هَزَّ رَأْسَهُ نافيّاً..

- سَأشْرَحُ لَك..

واصَلَتْ (فَدْوى) حَدِيثَها:

- التَّوَحُّدُ هوَ اضْطِرَابٌ سُلوكِيٌّ يُصِيبُ الأطْفَالَ مُنْذُ الوِلادَةِ ولا يَظْهَرُ جَلِيّاً إلاّ بَعْدَ السَّنَةِ الثَّانِيَة.. ولَهُ أَعْرَاضٌ مُتَعَارَفٌ عَليْهَا.. أَهَمُّها عَدَمُ تَواصُلِهِم البَصَرِيِّ المُبَاشِرِ وحسَاسِيَّتُهُم الزَّائِدَةُ في التَّعَامُلِ مَعَ الغُرَباءِ والضَّوْضَاءِ والازْدِحَام.. بَعْضُهُم يا عَزيزِي لا يَتَكَلَّمُ مُطْلَقاً وآخَرُونَ يَتَكَلَّمُونَ لَكنْ بِشَكْلٍ مُخْتَلِفٍ.. هَلْ تَذْكُرُ كُلَّ الصُّرَاخِ الذي قَامَ بِهِ (سَامِي)؟؟.. هُوَ شَكْلٌ تَعْبِيرِيٌّ لرَفْضِهِ لتَغْيِيرِ البِيئَةِ المُحِيطَةِ بِه.. أو لانْزِعَاجِهِ مِنْ شَيْءٍ مَا.. لِذَا سَنكُونُ حَذِرِينَ جِدّاً فِي بَحْثِنَا عَنْه.. وأتَمَنّى أَنْ يَجِدَهُ أَحدُهُم قَبْلَ أَنْ يُؤْذِيَ نَفْسَهُ لأنَّهُ رُبَّما يَكُونُ غَيْرَ مُدْرِكٍ لِمَا حَوْلَه.. ويَعُودَ لأسْرَتِه سَالِمَاً..

كُلُّ تِلْكَ المَعْلُوماتِ عَقَدَتْ لِسَانَ (فَارس) وصَارَ كُلُّ هَمّهِ أن يَجِدَ (سَامي)..

 

(٧)

 

 

استَمَرَّ البَحْثُ لعِدَّةِ سَاعَاتٍ وتَأخَّرَ الوَقْتُ وبدَأ الإحبَاطُ واليَأْسُ يَظْهَرُ عَلى الجَمِيعِ وتَجَمَّعَتْ السَّيِّداتُ (مَيْ) وَالدَةُ (مَعْن) و(سَامي) يُحَاوِلْنَ تَهْدِئَتَها وطَمْأنَتَها..

في تِلكَ الأثْنَاءِ تَمَّ التَّأكُّدُ أنَّ (سَامي) لَمْ يُغَادِر الفُنْدُق وذَلكَ مِنْ خِلالِ كَامِيراتِ المُرَاقَبَةِ.. لكنَّها لَمْ تَسْتَطِعْ تَتَبُّعُ تَحَرُّكَاتِهِ دَاخِلَ أَرْوِقَةِ الفُنْدُق..

وبَعْدَ قَليلٍ ظَهرَ (فَارس) ومَعَهُ (سَامي).. فهَرَعَ الجَمِيعُ نَحْوَهُمَا مُهَلِّلينَ إلّا أَنَّهُم تَوقَّفُوا عِنْدَما لاحَظُوا أنّ (سَامي) بَدَأ يَضْطَرِبُ ويضَعُ يَدَيْهِ عَلى أُذُنَيْه.. ويُصْدِرَ أَصْواتاً غَيْرَ مَفْهُومَة..

لَمْ تَقْدِر (مَيْ) أَن تَقِفَ عَلى قَدميْهَا فسَاعَدتْهَا سَيِّدَةٌ كَانَتْ بِجَانِبِها لِتَصِلَ إلى ابنِهَا..

فتَقدَّمَتْ مِنْهُ قلِيلاً ونادَتْهُ بصَوْتٍ وَاضحٍ.. فرَفَعَ رَأْسَهُ بِحَركةٍ آليَّةٍ ورَكضَ نَحْوَ الصَّوْت.. فاحْتَضنَتْهُ والِدَتَهُ بِقُوّةٍ وحمَلتْهُ بَيْن ذِرَاعَيْها وهِيَ تُحَدِّثُه هَامِسةً حتّى يَهْدَأ..

كَانَ مَشْهَداً مُؤَثّراً جِدّاً اخْتَلطَتْ فِيهِ دُموعِ الفَرَحِ بالضَّحَكاتِ..

لَمْ يَنْتَبِه أحَدٌ فِي غَمْرَةِ فَرحِهِم بِعوْدَةِ (سَامي) إلى (مَعْن) الذي كَانَ يُجْهَشُ بالبُكَاءِ إلّا صَدِيقَهُ (فَارس) الذي ذَهبَ نَحْوَهُ وقدَّمَ لَهُ مِنْدِيلاً وَرقيّاً ليَمْسَحَ دُمُوعَهُ التي بَلَّلَتْ وَجْهَه..

أَمْسكَ (مَعْن) بالمِنْدِيلِ ومَسحَ دُمُوعَهُ وهوَ يَقُولُ لَه:

- لَقدْ كَانَ فِي عُهْدَتِي.. وقَدْ ذَهبْتُ بِهِ ليَلْعَبَ فِي الحدِيقَة.. فهُوَ يُحِبُّ أَن يَلْمِسَ أَوْرَاقَ الأشْجَارِ ويَعُدَّ الزُّهُور.. وقَدْ غَفِلْتُ عَنْهُ لثَانِيَتيْنِ.. فَقَطْ ثَانِيَتَيْنِ وفَقَدْتُه..

وبَدَأ أُخْرَى فِي البُكَاء:

- لَوْ حَدثَ لَهُ شَيْءٌ لَم أَكُنْ لأُسَامِحَ نَفْسِي مُطْلقاً..

لَمْ يَسْتطِع (فَارس) أن يَحْبِسَ دُموعَهُ، فمَسَحَها بِكَفِّهِ ورَبَّتَ عَلى كَتْفِ (مَعْن)..

- لَقَدْ وَجَدْتُه بَيْنَ تِلْكَ الشُّجَيْرَاتِ هُنَاك.. وقَدْ كَانَ يَهْتَزُّ جِيئةً وذَهَاباً.. ويُرَدِّدُ كَلِماتٍ لَم أَفْهَمْها.. وعِنْدمَا اقتَرَبْتُ مِنْهُ بَدأَ فِي الصُّرَاخِ وحَاولَ أَنْ يَرْكُض.. فنادَيْتُ عَليْهِ بِاسْمِه.. فتَوَقَّف.. فنَادَيْتُه أُخْرَى ورَفَعْتُ لَهُ قِطْعَةَ حَلْوَى كَانتْ لَديَّ وقَارُورَةَ مَاءٍ.. فتَقَدَّمَ نَاحِيَتِي بِبُطْءٍ.. وقُلْتُ لَهُ أنَّكَ قَدْ بَعثْتَنِي لأبْحَث عَنْه.. ويَبْدُو أنّ ذَلكَ طَمْأنَهُ وجَعَلَهُ يَأتِي مَعِي.. حَمْداً للهِ أَنَّهُ عَادَ سَلِيماً ولكِنَّهُ مُتْعَبٌ بَعْضَ الشَّيْء.. هَيَّا لنَذْهَبَ لعَائِلَتِكَ حتّى لا يَقْلَقُوا عَليْكَ أَيْضاً..

عِنْدَ وُصُولِهِم لِرُدْهَةِ الفُنْدُقِ انْدَفعَتْ (فَدْوى) لـ(فَارِس) وضَمَّتْهُ إلَيْها طَوِيلاً وقبَّلتْهُ مِرَاراً.. فقَالَ لَها بِخَجَل:

- أَنْتِ تُحْرِجِينَني يا أُمّي..

ضَحِكَتْ وتَرَكَتْ لأبِيهِ الفُرْصَةَ أَن يَضُمَّهُ إليهِ كَذلك..

تَقدَّمَتْ مِنْهُم (مَيْ) ورَئيسُ طَاقَمِ الأمْنِ فِي الفُنْدُقِ.. وشَكَرُوهُ لجُهْدِهِ في البَحْثِ عَنْ (سَامي) وكَوْنِ أَنَّ ذَلك تَكَلَّلَ بالنَّجَاح..

قَابَلَ (فَارِس) كُلَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرِ بتوَاضُعٍ وأَصَرَّ أنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئاً غَيْرَ مُسَاعَدَةِ صَدِيق..

انْفَضَّ الجَمْعُ وبَدأَتْ الرُّدْهَةُ تَخْلُو مِنَ النَّاس..

P5.jpg

كان مشهداً مؤثراً جداً .. اختلطت فيه دموع الفرح بالضحكات.. لم ينتبه أحد في غمرة فرحهم بعودة سامي إلى معن الذي كان يجهش بالبكاء إلا صديقه فارس الذي ذهب نحوه و قدم له منديلاً ورقيّاً ليمسح دموعه التي بللت وجهه..

 

 

(٨)

 

 

انْقَضَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ الطَّوِيلَة.. وفِي صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي التَقَتِ العَائِلتَانِ فِي بَهْوِ الفُنْدُق..

كانَ (سَامي) حَذِراً جِدّاً فِي تَعَامُلِهِ مَعَ (فَارِس) و(فَدْوى).. اللّذانِ اكْتَفَيَا بإلقَاءِ التَّحِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيد.. وجَلَسَ مُلْتَصِقاً بِأُمِّه.. بَادَرَتْ (مَيْ) بِالحَدِيث:

- لَنْ أَسْتَطِيعَ مَهْمَا قُلْتُ أَنْ أَشْكُرَكَ كِفَايةً يا (فَارِس)..

- لا شُكْرَ عَلى وَاجِبٍ..

رَدَّ (فَارِس) وأَخْفَضَ رَأْسَهُ خَجِلاً.. ثُمَّ قَالَ:

- أنَا.. أنَا..

ونَظرَ لـ(فَدْوى) التي شَجَّعَتْهُ بإيمَاءَة..

- أنَا أَعْتَذِرُ يا (مَعْن).. عَنْ مَوْقِفي مِن (سَامِي) سابِقاً.. حَقّاً لَمْ أَقْصِدْ أَنْ أُضَايِقَكَ بأَيِّ شَكْلٍ ولَمْ يَكُنْ مِنْ حَقّي أَنْ أُلْقِيَ بأحْكَامٍ مُسْبَقَةٍ عَنْ أيِّ شَخْص.. أَرْجُوكَ أَنْ تَقْبَلَ اعْتِذَارِي..

مَدَّ (مَعْن) يَدهُ لـ(فَارِس) وصَافَحَهُ وقَالَ لَه:

- بَعْدمَا فَعَلْتَهُ بِالأمْسِ لَمْ يَعْدَ هُناكَ مَا أَحْمِلُه عَلَيْكَ فِي قَلْبِي.. غَيْرَ أَنَّكَ أَصْبَحْتَ صَدِيقاً أَدِينُ لَه..

وقَاطَعَتْهُ (مَيْ):

- أَرْجُو أَنْ تَدُومَ هَذِهِ الصَّدَاقَةُ وكَعُرْبُونٍ لهَا نَحْنُ نَوَدُّ أنْ نُقَدِّمَ لكَ هَذِهِ الدَّعْوَة..

وأَعْطَتْهُ وَرَقةً مَطْبُوعَة.. لَمْ يُصَدِّق (فَارس) عَيْنَيْهِ.. وصَارَ يَقْفِزُ فَرِحاً..

كَانَتْ هَذهِ دَعْوةً للمُشَارَكَةِ فِي مُعَسْكَرِ الأشْبَالِ لمُدَّةِ أُسْبُوعَيْنِ مَدْفُوعَةَ القِيمَة..

نَاوَلَ (فَدْوى) الورَقةَ فقَرَأتْهَا وقَالتْ لـ(مَيْ):

- هَذا كَثِيرٌ يا (مَيْ).. لَمْ يَفْعَل (فَارِس) ما فَعَلهُ آمِلاً فِي هَدِيَّةٍ أَوْ رَدِّ مَعْرُوف.. مَا فَعَلَهُ اعْتَبَرَهُ اعْتِذَاراً لأسْرَتكِ عمَّا بَدَرَ مِنْه..

أَصَرَّتْ (مَيْ) عَلى أَنْ يَقْبَلُوا الدَّعْوَة.. وقَالتْ لَها:

- عَلى العَكْسِ.. هذِه طَرِيقةٌ جَيِّدَةٌ لنَتَخلَّصَ مِنْهُمَا بِشَكْلٍ آمِن.. وهِيَ فُرْصَةٌ لِي أَيْضاً أَنْ أَكْسِبَ صَدِيقةً جَدِيدة..

شَدَّتْ (فَدْوى) عَلى يَدِهَا ووَافَقَتْ بِسُرور..

لَمْ تَكُن تِلْكَ العُطْلَةُ بِضْعَةَ أَسَابِيعَ وانْتَهَتْ.. بَلْ كَانَتْ أَكْبَرَ مِنْ ذَلكَ بِكَثِير..

فَرَابِطَةٌ بِعُمْقِ مَا جَمَعَ بَيْنَ زَمِيلَيْ دِرَاسَةٍ وصَيَّرَهُمَا صَدِيقَيْنِ لجَدِيرَةٌ بِأنْ تَبْقَى عَالِقَةً بالذَّاكِرَة..

 

(٩)

 

 

عَادَ الصَّدِيقَانِ لمُمَارَسةِ حَياتِهِم العَادِيَّة.. وبَدَأَتِ السَّنَةُ الدِّرَاسِيَّةُ الجَدِيدة..

وفِي أحَدِ الأيَّامِ طَلَبتْ مِنْهُم مُعَلّمَتُهُم فِي الصَّفِّ وَرَقةَ عَمَلٍ عَنْ مَوْضُوعٍ جَدِيدٍ صَادَفَهُم فِي عُطْلَةِ الصَّيْفِ المَاضِيَة.. وأن يُنْجِزَهُ طَالِبانِ عَلى أَنْ يَتِمَّ احْتِسَابُ دَرَجاتِهِ آخِرَ العَام..

لَمْ يَتَردَّد (فَارس) بِاخْتِيَارِ التَّوحُّدِ والتَّحَدِّيَاتِ التي تُحِيطُ بالمُصَابِينَ بهِ وأُسَرِهِم.. واشْتَركَ هُوَ و(مَعْن) فِي ذلِكَ.. وبِالفِعْلِ بَدَأت أَبْحَاثُهُمَا عَلى صَفحَاتِ الإنتَرْنِت وبَيْنَ أَرْفُفِ المَكْتَبات.. حتّى أنَّهُمَا زَارا الأخِصّائِيَّةَ المَوجُودَةَ فِي المَدْرَسَةِ ومُعَالِجَ (سَامي) لِشَرْحِ مَا اسْتَعْصَى عَليْهُما فَهْمُهُ مِنَ النَّواحِي العِلْمِيَّةِ والطِّبِّيَّة..

حَضَّرا مَوْضُوعَهُما وقدَّمَاهُ لمُعَلِّمَتِهِما..

وفِي اليَوْمِ المَنْشُودِ وَقفَ (مَعْنُ) مُتَحدِّثاً بَيْنَما اكتَفَى (فَارسُ) بِعَرْضِ الشَّرائِحِ الإيضَاحِيَّةِ عَلى شاشَةِ العَرْض..

وذَلكَ أمامَ هَيْئَةِ التَّدْرِيسِ وجَمْعٍ مِن أَوْلِياءِ الأمُورِ والطُّلاَّب..

شَمِلَ عَرْضُهُ مُقَدِّمَةً عَنِ الأطْفَالِ ذَوِي الاحتِيَاجَاتِ الخَاصَّةِ ونَظْرَةِ المُجْتَمَعِ لَهُم والصُّعُوبَاتُ التي تُوَاجِهُهُم..

ثُمَّ تَحدَّثَ عَنِ الأطْفَالِ العَادِيِّينَ وقَارَنَ بَيْنَهُم وذَوِي الاحتِيَاجَاتِ الخَاصَّةِ مِنْ مُخْتَلَفِ النَّوَاحِي.. فبَدَأ بالأعْضَاءِ الحَيَوِيَّةِ ووَظَائِفِهَا والخلَلِ الذي يُصِيبُها مُسَبِّباً الإعَاقَةَ أو الاضْطِرَاب..

وكَذلِكَ أَوْرَدَ التَّأَخُّرَ فِي النُّمُوِّ الجَسَدِيِّ والعَقْلِيِّ فِي بَعْضِ الحَالات..

وصَمَتَ قَلِيلاً ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنِ التَّوَحُّدِ وعَنْ تَجْرُبَتِهِ الشَّخْصِيَّةِ مَعَه..

وعِنْدَما خَتَم مَوْضُوعَه.. وَقَفَ الجَمِيعُ مُصَفِّقِينَ لَهُ ولـ(فَارِسَ) الذي سَاهَمَ مَعَهُ فِي صِيَاغَةِ المَوْضُوعِ وعَرْضِهِ بِهذِهِ الصُّورَةِ الجَمِيلَةِ والوَاضِحَة..

 

IMG-20180403-WA0002-filtered.jpeg

وقف الجميع مصفقين له ولفارس الذي ساهم معه في صياغة الموضوع وعرضه بهذه الصورة الجميلة والواضحة..

 



 

همسة محبة

 

 

يَبْقَى أَنْ نَقُولَ أنَّ كُلَّ شَخْصٍ يَحِقُّ لَهُ نَصِيبٌ وَافِرٌ مِنَ الرِّعَايَةِ والاهْتِمَامِ.. وأَنَّ الأطْفَالَ ذَوِي الاحْتِيَاجَاتِ الخَاصَّةِ مُمَيَّزُونَ.. لَيْسَ لاخْتِلافِهِمْ بَلْ لأنَّهُمْ تَحَدٍّ يَخْتَبِرُ مَدَى إنْسَانِيَّتِنَا.. وأَنَّ المُجْتَمَعَ يَحْتَاجُ وَقْفَةً جَادَّةً لتَعْدِيلِ تِلْكَ النَّظْرَةِ التي يَرْمُقُ بِهَا هَؤلاءِ المَلائِكَةَ التي تَمْشِي عَلى الأرْض..

نَاهِيكَ عَن تَوفِيرِ المُعِينَاتِ ومَرَاكِزِ التَّأهِيلِ التي تَغْفَلُ عَنْها بَعْضُ الحُكُومَاتِ مِمَّا يُؤَثِّرُ سِلْباً فِي دِقَّةِ التَّشْخِيصِ وبالتَّالِي فِي كَيْفِيَّةِ العِلاجِ وسُرْعَةِ دَمْجِ الطِّفْلِ فِي بِيئَتِه..

كَما لا يَجْدُرُ بِنَا أنْ نَنْسَى ضَرُورَةَ الدَّعْمِ النَّفْسِيِّ لَهُم ولأسَرِهِم، ويَتَمَثَّلُ ذَلِكَ فِي تَقَبُّلِهِم والتَّعَامُلِ مَعهُم بِمَحَبَّةٍ دُونَما أَنْ نُعْطِيَ اِنْطِبَاعاً أنَّنَا نَتَعامَلُ قَسْراً مَعَهُم..

فأَمْثَالُ وَالِدِ (سَامِي) كَثِيرُونَ.. يَنْسَحِبُونَ عِنْدَ أوَّلِ اخْتِبَارٍ ويَنْصَاعُونَ لآراءِ مُجْتَمَعاتٍ عَرْجَاء.. تَارِكِينَ شُرَكَاءَ حَياتِهِم بِلا مُعِين.. غَيْرَ مُبَالِينَ بِمَا قَدْ يَتَرتَّبُ على هُرُوبِهِم.. مُتَنَاسِينَ فَلِذَاتِ أَكْبَادِهِم.. ومُغْلِقِينَ قُلوبَهُم دُونَهُم..

وفِي نِهَايَةِ الأمْر.. لِسَانُ حَالِهِم يَقُول..

نَحْنُ بِبَساطَةٍ.. أَطْفَالٌ مُخْتَلِفُون

 

 

 

منصة ليلى الثقافية

https://laylacp.net/

2018م