رحلة
الطريق إلى أبو رقية:
قضينا يوماً مزدحماً بالتجهيز لرحلة قتلنا تفاصيلها بحثاً على مدى أسبوع كامل، فنحن سوف نغادر إلى حيث لا صلة للمكان بالمدينة، إلا بما نأخذه معنا من أدوات تعيننا على العيش في تلك الأصقاع البعيدة، والغائرة في أقصى خارطة البلاد.
ورغم كثرة التفاصيل كان همي الأول هو التأكد من صلاحية وحدة الطاقة الشمسية التي سوف تعمل على تشغيل جهاز الأم بي ثري الذي أحمله معي, ولا أدري إن كانت زحمة العمل الذي ينتظرنا ستسمح لي بسماعه.
خلدنا إلى النوم مبكرين وصحونا أبكر حيث غادرنا في الثلث الأخير من الليل على أن نصلى الفجر خارج العاصمة, ويا لها من متعة أن تصلى في فضاء تلتقي فيه الأرض بالسماء, فيسكن الخاطر، وتسبح النفس في بحور من الصفاء والرضا تكشف للإنسان مدى الفقد الذي تكبدته روحه بسبب طغيان حضارة الزجاج والمعدن على حياته.
واصلنا مسيرنا - بعد الصلاة - مسرعين حتى نغتنم فرصة برودة الأسفلت وخلو الطريق من الشاحنات, الشيء الذي يتيح بعض المتعة ومشاهدة المنظر المحيط الذي تتفتح مشاهده مع انبلاج النور الآتي من شمس لطفت حدتها غلالة حرير الفجر الناعمة.
يقولون (السرعة قاتلة) وهي فعلاً كذلك, ولكن الإنسان لا يفتأ يغامر ليعيش لحظات إثارة تصارع الملل الذي يجده في حياته, فبعد تخطي عداد السرعة المئة والعشرون ينتفي القلق وتتناغم النفس مع هدير المحرك.
فهل هناك رابط بين مركز القلق في المخ وصريخ المحرك بعد أن تفتح الفونية (وحدة تغذية الوقود في محركات الديزل) لأقصى حد, أم إن المسألة مرتبطة بالشعور فقط, حقيقة لا أدري رغم معايشتي للظاهرة كثيراً في أسفاري المتعددة.
واصلنا سيرنا، وبسبب مباشر من السرعة العالية غيرنا خططنا حيث واصلنا بدون توقف, وكانت تفاصيل الحياة الريفية تتابع أمامنا في أبداع إلهي, اللوحة تلو الأخرى، فمن شجيرات ترتفع لتشكل سقفاً أخضر مزدهر بزهر أصفر، إلى قطعان ومجموعات أنعام تشكل مع البساط الأخضر لوحة أبدع الخالق في رسمها.
يا إلهي كم أنعم الله على الإنسان حين وهبه تلك المخيلة المستوعبة للجمال من حوله, فقد أحسست بدواخلي تنعم بسكينة وهدوء لم أعهده في المدينة وحياتها المتسارعة.
وهناك فكرة مجنونة تنتابني كل ما طاولت قمم الشاعرية المنيرة, وهي أن أصبح ومضة تسكن قلب (من أحب)، تفرح بفرحه وتستمتع بنغماته وهو يدق مسارعاً حيناً, وهادئاً أحياناً.
(من أحب) يا لها من حالة أعلم بوجودها ولا أعيشها, فالسياسة قد أكلت عقلي كما يقول أبي، وأفقدتني أي رقة تعطر حياتي التي أحسها جافة إلا من نغمات أعيشها فتسكن روحي إليها كوليد وجد الرحابة في صدر أمه.
هل هو محظوظ من يعيش الحب شلالاً روياً كما يقول الكابلي؟. لا أدري فأنا ما عشت يوماً عشقاً شاعرياً, وكل ما أعشقه هو أن أثير تساؤلاً وأبحث عن إجابته في أضابير المعرفة المتاحة والمتنزلة. لعل الله ادخرني لمستقبل أعيشه بعقلي ولا دخل للقلب في مساره.
عائلتنا تتبدل فيها الأدوار كثيراً, فأنا ابن جدي, وابنة عمي هي ابنة أبي, والذي رفض طلب جدي بزواجي منها بحجة إنني أحتاج إلى أم ترعاني وليس زوجة أرعاها, وقالها بوضوح: ".. ولدك ده يا أبوي محتاج أم ترعاه، وليس زوجة يتحمل مسؤوليتها, ده ثمانية ساعات شغل، واتناشر ساعة سياسة، وأربعة ساعات يستيقظ بعدهن كمن يجر قاطرة, بتي متعلمة وتستحق حظاً أفضل".
كانت صدمة لي - رغم ارتياحي للنتيجة - فأمامي الكثير من الواجبات التي تفضل مسألة الزوجة والأبناء, ولكن يبقى السؤال قائماً: هل أنا بهذا السوء الذي طغى على عاطفة الأبوة عند أبي, ورغبته في الخلود عبر الأحفاد؟.
تلك الرغبة التي أخرجت أبونا آدم من الجنة كما يقول د. عماد في كتابه (آذان الأنعام) حيث يقول بأن لفظ شجرة في الآية يعني التداخل الجنسي - لا خرافة شجرة التفاح كما تقول التفاسير - الشيء الذي منع منه آدم في جنته, فأغراه الشيطان بخلوده عن طريق الأبناء والأحفاد, ولو صبر آدم لشرع له الزواج ولنعم بالأبناء والأحفاد في جنته التي أخرجهم منها اللعين.
هذا وبسبب مباشر من زواج ابنة عمي ممن أختاره لها أبي, أنا الآن أنهب الأرض نحو ريفي حاضرة من حواضر جنوبنا الجديد - بعد أن انفصل جنوب عشناه زماناً ومكاناً - فقد رأى أبي أن أبتعد عن نظر جدي حتى لا أذكره بأمله المنهار وحفيدته التي ابتعدت بزواجها من خارج الأسرة.
ابنة عمي فتاة رقيقة, كنسمة خريف عطرة تفاجئك (في رقة) من قلب حقل نضر, بسيطة بساطة ماء نقي, كانت في صغرها أشبه بوردة يانعة وسط صحراء يغلفها عمي بطبعه العسكري الكاره للرومانسية ومياصة البنات كما يقول, الشيء الذي دعا أبي لإبعادها عنه, وها هو اليوم يبعدها عني, وبقي عمي مع من تصالح مع طبعه من أبناءه الباقين, فهل أجد من تتصالح مع طبعي.
دارت هذه الخواطر في رأسي مزاحمة للوحات الطبيعة على جانبي الطريق الذي أمتد بلا نهاية, وتتابعت الحواضر والأرياف؛ غرب رفاعة ومسجدها الذي يرحب بك من البعيد, مدني السني وخضرتها اليانعة, الحاج عبد الله التي يجنح خيالك بالتجول داخل بيوتها الأمدرمانية, سنار وعبق تاريخ أحيائها, لم نتوقف إلا في الطريق إلى سنجة, حيث قمنا بزيارة مزرعة عامرة لعائلة أحد العاملين معنا، والذي كان من ضمن ركبنا المكون من ثلاث سيارات من ذوات الدفع الرباعي, والتي نسميها بذوات الجدي لقفزها المتواصل في الطرق غير المعبدة.
وكان للاتصال أثره حيث استقبلتنا العائلة المضيفة بالشية والمرارة والكثير من الشربوت, والذي عب منه الجميع بعد خلطه بالمشروبات الغازية, فبعد الوجبات الضخمة يحتاج الإنسان لهاضمة تكفيه شر الشره الذي تسببت فيه نضارة الطبيعة في ذلك الشاطئ البعيد للنيل الأزرق.
وكنت أعلم عادة أهل تلك المنطقة في ختمهم لوجباتهم ذات الخصوصية باللبن, ولذلك لم أكل كثيراً بل تعمدت في معظم الوقت التظاهر بالأكل, الشيء الذي جعلني أنفرد باللبن الطازج الذي تتميز به تلك المنطقة, هذا فضلاً عن تلك النكهة التي تذكرني بضواحي الدامر, فأهل الشمالية حتى وإن لم يسكنوها يحنون إليها ويتغنون لها كما خالد الباشا حين يترنم شعراً:
محل سافرت لقيتك شوق ...
مشتت في الشوارع ضي
أماسينا البتسهر بيك، نجيماتنا البتشهد لي
أونس بيك نصايص الليل، أحجيك دندنة وموال
سألت عليك ضفاف النيل
تميراتنا وعصافير الهوى الصداح
لقيتك في عيون الناس
حنين ساكن القلوب مرتاح
بتطلع من حكاياتنا, وخيالاتنا
يبق نورك مع الفجرية,
علي النخل العزيز أفراح
الطبيعة هنا غنية غناءً ظاهراً ولكنها لا تعدل الحنين الذي تبثه قري النيل في شمالنا الحبيب, لعل شخصية المكان هي التي تؤثر في مشاعرنا, وإلا لما ملأ شعراء الشمال دنيانا شعراً, الشيء الذي لم يفعله ساكني غنى الطبيعة في الجنوب, ورحم الله حميد حين قال:
لا بي إيدك تمنع قلبي *** ولا قلبي كمان بي ايديا
ودعتنا الأسرة المضيفة في احتفالية تعلم ما نحن مقبلين عليه من مشقة ومواجهة لانفلات أمني في طريق (أبو رقية) حيث ينعدم الأسفلت والأمان, في مسيرة محسوبة ومحمية بواسطة أطواف من الشرطة والجيش.
الاندفاعة الأخيرة لعاصمة الإقليم كانت متواصلة, وكان الكل متشوقاً لأن يغادرها متى يصلها, حتى تتواصل مسألة مفارقة المدنية, ولا ندخل في حالة كر وفر، فالنفس إن عايشت وضعاً ألفته.
دخلنا المدينة ظهراً وتوجهنا لاستراحة الشركة التي كانت تمور بالحركة لتجهيز باقي الطوف المغادر معنا, شاحنات عامرة بالتقاوي ومؤن العاملين بالمشاريع, تناكر مواد بترولية, شاحنات مدمجة (شبه عسكرية) لمساعدة العربات التي تنغرز دواليبها في الرمال أو الطين.
لم تتح لنا فرصة للراحة، حيث علمنا بأننا سنغادر فجر الغد, الشيء الذي جعلنا نراجع كشوفات الحمولة, وجاهزية العربات لرحلة في طرق وعرة ومليئة بمجاري المياه، والوديان ذات الأرض المرنة.
واصلنا العمل والمراجعة دون كلل لأن كل ذلك يجب أن يتم قبل آخر ضوء, وفي أثناء عملي تقدم منى العم عبد الرحمن - وكنت قد تعرفت إليه حين حضوره للعاصمة للاستشفاء – وقال لي شحنت لك سرير ختري, وحين استفسرت عن مواصفات مخدعه المرعب هذا, قال لي هو عنقريب وأربعة براميل, ويتم استخدامه للنوم وسط المزروعات في حالة ما كان المعسكر - في المشاريع الطرفية - مستهدفاً من الشفتة.
شكرته وتذكرت مقولة طه حسين الشهيرة: (المثقف الحقيقي هو كل من يحسن التعايش مع محيطه, وليس الأمر متعلق فقط بتحصيل العلوم), ويا لها من ثقافة (مشاريع طرفية, شفته, سرير ختري).
ولت الشمس مودعة, وكذلك قوانا المنهكة بسبب السفر والعمل المتواصلين. صلينا المغرب وانتظرنا آذان العشاء بآخر نفس حيث غرقنا في نومة أظنها بدأت أثناء الصلاة, فقد ظللنا في حركة دائبة مدة ستة عشر ساعة متواصلة.
استيقظت مبكراً, وخلدت إلى تفكير جدي - ساعدني عليه الهدوء الذي يلف المكان – حول أمانة التكليف ونشر ثقافة: (الاستفادة من الروح بوصفها قناة اتصال لتلقي العلم), وكيفية (التحكم في القدر), والوصول إلى (الخيرية على المجتمعات المجاورة), وهل في الإمكان ذلك والعمر محدود, عليَّ أن أعمل جهدي راجياً توفيق الله سبحانه وتعالى.
قدموني للصلاة فقرأت عليهم آيات سورة السجدة، التي تقول بأن الروح نفخت في آدم وهو حي يرزق، وأن لا علاقة مباشرة للروح بالحياة والموت؛ وكما هي العادة لم تحرك فيهم الآيات ساكناً، فقد تعامل معظم المسلمين منذ أمد بعيد مع آيات القرآن الكريم كدابة تحمل كتاباً لا تدري ما بداخله.
بدأنا مسيرنا على ضوء السيارات فقد صلينا الصبح بغلس لم نمكث بعده كثيراً, وسرنا ببطء شديد بسبب انضمام شاحنات التقاوي منخفضة السرعة لموكبنا. ولكن الطبيعة الجميلة التي بدأت تشف عنها أشعة الفجر الناعمة, جعلتنا نتناغم مع المنظر المحيط.
قال لي مرافقي عثمان: "منظر يرد الروح". انتهزت الفرصة وقلت له: نعم ولكن هل تعلم بأن الروح ليست سبب الحياة, ولا علاقة لها بالموت, فالروح هي قناة أتصال تتلقى الفيوض الرحمانية، والوسوسة الشيطانية، فنظر إلي باستغراب وقال لي: إن كانت الروح ليست سبب الحياة, فلماذا يموت الإنسان حال مغادرتها للجسد؟!.
فقلت له لعلك لم تنتبه لآيات سورة السجدة التي قرأتها عليكم في صلاة الفجر اليوم, فقال: بل أحفظها عن ظهر قلب، فقلت له أقرأها علي. فقرأها فأوقفته عند الآيات: {وَبَدَأَ خَلْقَ ٱلإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ من مَّآءٍ مَّهِينٍ} وقلت له: " هذه الآيات كما تدبرها د. عماد حسن في كتابه (آذان الأنعام)، تقول بأن الإنسان بدأ خلقه من الطين، ثم تطور إلى كائن حي ومتناسل ذو سلالة، وذلك بدلالة: (جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ).
ثم طلبت منه أن يواصل فقرأ: { ثُمَّ سَوَّاهُ } وقلت له: هذه الجزئية من الآية تقول بأن ذلك الكائن (الحي المتناسل), تم تعديله (سواه) ليقف على قدمين, ويتغير شكل يده، وتنتفخ جمجمته ويكبر حجم دماغه. أي عدله ووصل به إلى معيار معين حتى يتقبل المنظومة التي سيزود بها.
ثم واصل عثمان: { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)}. فقلت له: وهنا أتت لحظة الحقيقة حيث نفخت في الكائن الحي الذي تم تعديله (سواه)، روح كان (حياً) من قبلها، وأضيف له سمع وإبصار خاصين وكذلك فؤاد.
وقد تمخضت هذه المنظومة الرباعية عن إنسان بداخله كائن أثيري أو حالة واعية ذات: روح وسمع وبصر وفؤاد، وهي التي أكسبته العقل المتعارف عليه. وسمى القرآن هذه المنظومة المكونة للكائن الأثيري بالنفس، وقال بأنها تغادر الجسد مؤقتاً حين النوم، ونهائياً حال الموت. وهذا (الكائن الأثيري) هو الذي يفسر لنا ظواهر الاقتراب من الموت، والتنويم المغنطيسي العميق (الليتارجيا)، والإسقاط النجمي.
أحسست بعثمان ينكمش بعد أن تحفز ليلجمني عبر ما يحفظه من تفسير (ابن كثير) للآية 34 من سورة البقرة، وقصة خلق آدم من ذلك التمثال الطيني الشهير.
ودام الصمت بيننا لعدة دقائق قال لي بعدها, كأنما أسمع هذه الآيات لأول مرة, فقلت له هكذا أرادنا الشيطان, دواب تحمل كتاباً تنال بموجب حمله الجزاء، ولا تفقه ما بداخله.
صمتنا متابعين لمنظر نسوة يحملن أدوات قطع القش في الطريق إلى عملهن, فغيرت الموضوع سائلاً, كم مرة وقعت في الحب يا عثمان, فأجابني: كثيراً, فسألته: وماذا كنت تفعل، فقال: لا شيء أقرأ سورة يوسف, فقلت له وهل تقرب إليك المحبوبة, ضحك وقال نافياً: لاااااااااااا بل تشفيني مما بي، ضحكت وقلت له مازحاً: لو علم ناس الخرطوم وصفتك هذه, لما تزوج أحد منهم.
ضحك عثمان طويلاً وسألني: هل المرأة عندكم شريرة إلى هذا الحد؟. فقلت: لاااااااا ولكن تبعات الزواج في العاصمة كثيرة ولا تنتهي. تواصل الطريق متعرجاً بسبب كثافة الغطاء الشجري في المنطقة, وحكى لي عثمان عن سفرياته السابقة للمشاريع. وعن الحياة في المعسكرات وكيف إن الحياة فيها بدأت تختلف عن ما كانت عليه في الماضي.
توقفنا عند العاشرة صباحاً في سهل صغير, بعد خمس ساعات من السير المتواصل في طريق وعرة, ورغم قلة السرعة ولكن القفز المتواصل للسيارات - المعدلة مخففات الاهتزاز فيها بحيث تصبح أقل مرونة وأكثر قوة - يخلق شعوراً غير مريح للراكب, الشيء الذي جعلنا نرحب بهذه الاستراحة بشدة.
وصاح أحد الخرطوميين المخضرمين, دقداقة تفك الريال تعاريف, فأجابه آخر: لا بل تقطع الخلف كما يقول أهل مصر, ضحكنا من الاثنين، ولكن لانشغالنا بتهيئة المكان للجلوس في الأرض الثابتة لم يتواصل المزاح.
خلد الجميع للراحة عدا عن ثلاثة، رجل وامرأتان انشغلوا باعداد الطعام, وكانوا بعيدين بحيث لم ألق إليهم بالاً، واستمر عثمان يحكي عن حال المشاريع قبل دخول الشركات ساحتها, وكيف إن التجار كانوا يستثمرون مساحات صغيرة, وكانوا يجازفون بحراسة مزروعاتهم دون رفيق, مع وجود الشفتة والنور (النور مع تعطيش النون) وهم الشفتة السودانية, الشيء الذي أنبت فكرة السرير الختري.
كلام عثمان الأخير أدخلني في تفكير عميق حول زمان كانت فيه الذرة في مناطق الإنتاج أرخص من جوال الخيش الذي يحملها, وكان السبب في ذلك رجال لم يهابوا بنادق الشفتة, ولا الخسائر بسبب عدم هطول المطر، فهل يحق لأحد أن يغتصب مجهودهم هذا بحجة الفقر الذي يعيش فيه البعض, والذي قد يكون مسبباً بعدم الرغبة في الكسب.
واصلت التفكير في اتجاه المواهب البشرية، ومسئولية الدولة تجاهها، وكذلك الفرق بين الطموح والحاجة, واحتيال الإنسان المستمر في تبديل الطموح لحاجة, وذلك بهدف التكسب غير المشروع، وضد المصالح الوطنية.
وأخذت أعدد، سكنى المدن طموح، والطعام حاجة، التعليم طموح، العلاج حاجة، الثروة والسلطة طموح، والعمل حاجة، وبنظرة سريعة نجد إن الطموح يحتاج لموهبة تدعمه, والحاجة يجب أن تتوفر للجميع بدون فرز، كما أن الطموح يحتاج موارد لا قبل لدولة بها, والحاجة تحتاج فقط لتنظيم إداري، تدعمه موارد الطموح.
ولكن عندما تختلط الأمور بسبب الرعونة السياسية, تنقلب الموازين وتصبح متطلبات الحاجة أغلى وأثمن من متطلبات الطموح, فالتعليم مجاني، وجوال الذرة بمئة دولار, ارض السكن في المدن (عشوائي) مجاناً، وزراعة حواشة بملايين تسبب الإعسار.
مرت بي هذه الخواطر وأنا أتذكر شهراً من المتعة، قضيته في مأمورية عمل في مزرعة بقرية بشرق النيل الأزرق، حيث اكتشفت إن هؤلاء الناس – ما شاء الله ألف مرة - عايشين بلوشي, وبروقة بال يحسدهم عليها أتخن مليونير عاصمي, والسبب توفر الحاجة من عمل وسكن وقوت.
انتزعتني من خواطري جلبة غير مسموعة فألتفت - وليتني لم أفعل - فقد احتضنت عيناي سراً أفاض عليّ قدر من السعادة والعلو, حتى رفرفت روحي فوق المكان، ترى كل شيء ولا ترى سواها, كانت في الرابعة عشرة من عمرها كما علمت فيما بعد، ولكنها فعلت بي الأفاعيل, كل هذا حدث في ومضة من الزمن, كشذا ورد يفاجئك من وراء سور، وأنت سادر في مشيك تفكر في البعيد.
شذا زهر ولا زهر, وسُكر ولا سُكر، تلك كانت ابنة مسئولة المطبخ - من أم إثيوبية وأب إيطالي, وقد انضمت أمها للسفرية لزيارة أهل لها في طريقنا، فأقترح عليها المدير أن تدير مطبخ الكونفوي وتستفيد من البدلات السفرية.
كان الطعام تقليدياً ولا يتناسب مع الملاك الذي أحضره, خبز وعدس وسلطة ستنقطع عنا حال توغلنا باتجاه المشاريع، ولكنها كانت مائدة عامرة بالنسبة إلي, ترى من أين أمسكت الصحن, وهل أحظى بحبة عدس لامست يدها, الاستحواذ كان كاملاً فهل ألجأ إلى وصفة عثمان لكي تطلق أساري، ليتني أفعل ولكن لا أظن إنني فاعل فللعشق - رغم آلامه - لذته.
واصلنا سيرنا ولكن بروح جديدة بالنسبة إلى، فقد أحسست بنفسي, أطوف فوق الركب بجناحي ملاك حارس, يا الله ماذا ألم بي, كأنما انفصلت روحي عن جسدي، تجوس خلال الركب تبحث عن من زلزل كيانها، وصرت مشتعلاً بهوى يصادق الألم, ويصارع المستحيل ليخترق السماء كما الشهب، وكيف لا وقد ألمت بي قوة طاغية لن تقنع بأقل من السماوات سكناً والنجوم موطناً.
والعجيب على الرغم من كل ما أحدثته تلك المفعوصة بي, إلا أنني لا أذكر شيئاً من تفاصيل وجهها أو لون شعرها أو درجة امتلاء جسدها, كأنما اقتحمتني موجة راديو لتقلب كياني وكفى.
عثمان شعر بما ألم بي, فقد حكي لي حين جاءت سيرة القهوة المميزة التي أعقبت الفطور، كيف إن أمها حضرت قبل خمسة عشر سنة, وقالت جملة واحدة للمدير فعينها على الفور.
وكانت الجملة, ".. زوجي توفي وأريد أن أربي طفلي القادم بالحلال", ولهذا السبب تعتبر سارا, أو جزيل كما تدعوها أمها ابنة الكل, فقد فرضت أمها احترامها وأخوتها على الجميع, واشتهرت بالصدق والأمانة لدرجة حرمان أبنتها من معلقة سكر بعبارتها الشهيرة (عيب ده حق ناس).
فقلت لعثمان: إن هذه المرأة حققت مقصد إسلامي كبير, وهو التحكم في القدر من خلال التقوى والعمل الصالح , فالقدر في الإسلام ليس أعمى , ولكن الطغاة أرادوه كذلك حتى يقنعوا العامة بأن فسادهم هو قدر لا مفر منه.
وواصلت قائلاً: ولعل أول من ابتدع سيطرة القدر على الأحداث هم الأمويين, فبعد تنكيلهم بآل بيت النبي وطوافهم ببناته سبايا من بلد لآخر, أرادوا أن يوهموا الناس بأن القدر هو المسئول عن كل ما حدث.
وهذا خطأ كبير لأن القرآن الكريم أخبرنا بأن القدر يسير وفقاً لمسيرة الشخص, قال تعالى: ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً))، ومن الجهة المقابلة قال تعالى عن الأشرار: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً)), لاحظ حروف التأكيد في الآيتين.
صمت عثمان ولم يعقب بسوى: فعلاً هناك توفيق إلهي في نبوغ سارة، ومن سلسلة تجارب كثيرة، أستطيع أن أقول بأن القدر ليس أعمى.
واصلت قافلتنا مسيرتها كثعبان مثقل بفريسة ضخمة ابتلعها للتو، وبتوغلنا جنوباً زادت كثافة الغطاء الشجري وكثرت المنحنيات بحيث لم نعد – في أحيان كثيرة – نرى العربة التي أمامنا, الشيء الذي دفع السائقين إلى استخدام آذانهم لكي يعلموا طبيعة الأرض التي تمر عليها العربة التي أمامهم، فإن علا صريخ المحرك علم أن المنحنى يحوي أرض مرنة وعليه الاستعداد لها حتى لا تنغرز دواليبه في الأرض.
أما أنا فبقيت على حالي بعد ومضة هيروشيما تلك، متمثلاً أبيات محمد سعد دياب:
إني أراك كأنما لم نفتــرق أبداً ..... ولا شطّ المزار ثوانــــــي
تبقي حضوراً صادحاً في خاطري .... فعسى ألاقي مقلتيك عســـــاني
قدر بأن ألقاك تذهل أحرفي .......... وجوارحي قدر بأن تلقــــاني
قدر, ويا له من قدر سخر مني حتى بانت نواجذه, أنا المسمى بفارس الحديد، وقلب الحجر أيام الجامعة، وفي العمل حيث الحسان بلا عدد, أسقط مجندلاً في مسيرة لا تحوي سوى امرأتين إحداهن في عمر الوالدة, وصدق من قال: (يطلعلي أسد).
انتزعني عثمان من خواطري، التي أخذت تتجه نحو اللا منتهى متسائلاً بلا مقدمات: ".. هل هناك مسائل أخرى في القرآن الكريم خفيت علينا غير خلق آدم، والتحكم في القدر".
فكرت ملياً، أممممممممممم براك سويته في نفسك يا زول، وسوف (أبراك) برية ترتسم على جبينك فلا تنساها.
ولكن عليَّ أن أكون حذراً، فأصنام الطغيان قد إنغرست – في المجتمع الإسلامي – بعمق ألف وثلاثمائة عام ونيف، وصارت كسفود مسنن بآراء تقدست قداسة الكتاب والسنة، ومن هنا فانتزاع هذا السفود مباشرة عمل مؤلم, وعليَّ أن أعطيه الأدوات لينتزعه هو, وليكفني الله شر قتال مسلم.
استعدلت في جلستي لأواجهه وقلت له: ".. الإسلام يا عثمان (تعاليمه) بسيطة جداً وميسرة, وهذه البساطة والتيسير تقتضيها مسألة عقاب كل من لا ينصاع إلي هذه (التعاليم)، فلا يعقل أن يحاسبنا الله على منهج عاصي على الفهم, أو متضارب في تعاليمه, كما هو الحادث في النصوص الفقهية اليوم، ثم يعذبنا بنار تتبدل فيها الجلود مع التخليد.
ثم واصلت قائلاً ".. هل تصدق يا عثمان أن الإسلام الذي أقمنا له الجامعات، والدراسات فوق الجامعية, وقسمناه إلى مذاهب, وقدمنا الجوائز والأموال لشيوخه، يقوم على ثلاثة عقائد بسيطة ومفهومة لكل من ألقى السمع وهو شهيد (أي حاضر بعقله وقلبه) وهي:
1/ عقيدة توحيد تربط حركاتك وسكناتك بالله سبحانه وتعالى، وذلك عبر: إذا دعوت فأدعو الله، وإذا استعنت فاستعن بالله.
2/ عقيدة تقوى ليقوم الناس بالقسط، وجعلها الله سبحانه وتعالى سبباً لقبول العمل قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)} سورة المائدة
3/ عقيدة (خلافة للرسول) تم تفويضها للشعب المسلم - في كل زمان بعد النبوة – لتوحد معطيات الدين, والقرار السياسي في الأمة, وذلك عبر شورى لا عزل فيها لأحد، وانتخاب ولاية أمر شرعية تحت شروطنا (دستورنا) في ديمقراطية بالباب.
وعلى هذا الأساس على المسلمين اليوم – حتى ولو على مستوى قطري - أن يعملوا على قيام ولاية شرعية منتخبة كما أمر الله سبحانه وتعالى، وذلك لكي تنقي الدين من تلك التعقيدات التي تسببت فيها المؤسسة الفقهية, وحفلت بها كتب العقيدة والفقه والتفسير، والتي جعلت الدين عصياً من غير شيوخ وشروح, فضلاً عن التضارب الذي تسببت فيه الفتاوى الباطلة، والرأي الفاسد، والحديث الموضوع، والتي يذخر بها موروث المؤسسة الفقهية؛ أخخخخخخخخخخ لكشرتك.
لم يستسلم عثمان لكلامي، وبادرني قائلاً: "ولكننا رغم ما قلت نعلم الكثير عن التوحيد ونعمل به , وكذلك نعلم فرائض وسنن العبادة ونعمل بها , أما الإمارة فهي تكمن في (تطبيق الشريعة) وهناك من يهتم بأمرها.
وهنا جابهته - دون مقدمات - حتى أشفقت عليه قائلاً: " القول بتطبيق الشريعة في الإمارة الإسلامية يا عثمان هو كذبة إفتراها الشيطان، وكفر صريح وخروج من الإسلام بالكلية, لأنها تفتح الباب أمام الطغاة الفاسدين لوطء أعناق المسلمين بحجة تطبيق الشرع.
علماً بأن الله سبحانه وتعالى لم يفرض علينا تطبيق شريعة في الإمارة الإسلامية, وإنما فرض علينا, شورى نطيع فيها بعضنا بعضاً, قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ}، وتعني إمارة المسلمين شورى بينهم في ديمقراطية بالباب، وبلا قيد أو شرط أو ثوابت من تطبيق شريعة أو سياسة شرعية أو غيرها في الآية, الشيء الذي وفر للمسلمين منهج حوار وعصف ذهني يساعدهم على حل مشاكلهم.
ثم بعد ذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى بطاعة أولي الأمر المنتخبين بهذه الشورى, وليس طاعة كل من هب ودب وحمل سيفاً مدعياً تطبيق شريعة لم يأمر بها الإسلام، ولا برهان له عليها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلأَمْرِ مِنْكُمْ}، لاحظ فرض الطاعة (لأولي الأمر) والأمر قد فوض لشورى المسلمين, ومنكم وليس من السابقين.
ومن هنا فالقول بتطبيق الشريعة هو دين معاوية ابن أبي سفيان، الذي نتج عن اغتصابه للخلافة الإسلامية، وبموجب قاعدة (الموقف المخالف يخلق نظرية مخالفة) حيث تم أختلاق فتاوى وآراء فقهية باطلة، ومخالفة لما أنزل الله من الشورى في الحكومة الإسلامية, وخدع بها فقهاء السلطان من صدقهم من المسلمين.
وجم عثمان برهة ثم قال: كلامك موضوعي ومنطقي ولم أعلم قبل هذا بأن {أمرهم شورى بينهم} تعني إمارتهم شورى بينهم. فأجبته بأن سبب نزول الآية هو الذي يحدد هذا المعنى للآية، فقد عرض الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه على بني عامر بن صعصعة فقال له رجل منهم: "على أن يكون لنا الأمر من بعدك", فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ((الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء)) وهنا أجابه الرجل: "أتهدف نحورنا للعرب ويكون الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك".
ونزلت آية الشورى فحسمت مسألة خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم، بأن فوضتها للأمة الإسلامية (الشعب المسلم), ودون عزل لمسلم مكلف إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض وما عليها. ثم تلت آية الشورى، آية الطاعة لتأسيس المنظومة المنفذة لسلطة الإمارة، وهي (ولاية الأمر).
الوقوف الثاني جمع بين صلاتي الظهر والعصر بينهما وجبة الغداء، وكان في أجمة من أشجار السنط , واجتمعنا للصلاة في وسط القافلة , ثم تفرقت كل مجموعة بالقرب من سيارتها للإشراف على تموينها بالوقود , وأخذ قسط من الراحة.
وغرق عثمان في غفوة عميقة, الشيء الذي جعلني أنا أيضاً أغفو وأنا جالس إلى جزع شجرة، لأصحو على صوت ملاكي ينادي: "عم عثمان الغدا, عم عثمان الغدا"، تبسمت مفكراً "عم عثمان الجنة بحالها تناديك وأنت نائم، ياخي نص عمرك ضائع".
صحا عثمان وحياها بألفة: "أهلاً سارة".
وذهب عثمان ليصب بعض الماء على وجهه وكذلك أنا, وبقيت سارة لترتب المكان, وعندما عدنا وجدناها تجلس لتناول غداءها معنا فقد كانت سيارتنا هي الأخيرة في جغرافيا الموكب – بسبب أن عثمان كان قائد ثاني الكنفوي ومسئول عن مؤخرة الركب, فآثرت جيزيل أن تبقى معنا لتناول طعامها بعد أن أنهت مهمتها في توزيع الطعام.
إذاً هي الضربة الثانية, وأتت هذه المرة في الرأس مباشرة, فإذا كانت لمحة خاطفة قد أتت بخبري, فما بالكم بجلسة قريبة!. استعنت بالله وجلست متحاشياً النظر إلى ملاكي الصغير, ولكن لا مفر من شمس تخترق الحجب، فقد أفلتت مني نظرة غير مقصودة - كفلاش في يد مرتجفة - فانصهرت دواخلي وجداً, إلى مدى اضطرني إلى انسحاب روحي تكتيكي إلى جذور شجيرة قريبة, ومن ثم تفرعت - من جذورها - إلى أغصانها وأوراقها, أرقب الموقف من بعيد. أنا الآن في أمان, ولليوغا - حتى ولو كانت بدائية – فوائدها.
أثناء الغداء طرحت جزيل فكرة أن تقرأ الجامعة في الخرطوم, فوعدتها – بما تبقى منى – إن هي وفقت للنجاح، مع توصية من المدير الإقليمي لنقل والدتها إلى الخرطوم، أن أوفر لهم سكن في القطاع الأسري من سكن الشركة، لأن من ضمن مسئولياتي تحسين حالة العاملين وسكناهم في المركز الرئيسي.
أجابني عثمان, بأن المدير الإقليمي يعتبرها أبنته, وهو – عثمان - بحسب متابعته ومسئوليته عن مسارها الأكاديمي, يتوقع أن يذاع اسمها ضمن المتفوقين في الولاية, فأجبته بثقة: إذاً لن تكون هناك مشكلة, في النقل أو في السكن, وسيكونون تحت رعايتي الشخصية حتى تعيينها في الشركة إن رغبت في ذلك بعد أن تكمل دراستها.
قابلت وعدي بامتنان قائلة: شكراً ربنا يخليك, مع إسبالة عينين يعجز حتى المتنبي عن وصفها, والحمد لله كنت بعيداً أراقب الوضع من الشجرة التي لجأت إليها, وإلا لكنت ارتحلت بلا عودة، فللعشق ضحاياه, وشكراً لليوغا البدائية, مرة ثانية.
انتهينا من الغداء، والذي لا أدري مم تكون، وهل أكلت منه أم لا, وقامت بجمع الأواني وغادرتنا كغزال ينحاز إلى قطيعه, وأنا منقسم بين روح محتلة لشجرة, وجسد حاضر غائب.
عثمان وجد الفرصة لينتقم من لكشرتي المتتابعة له, فقال لي في تورية واضحة: "البت خاته عينه عليك, أقرأ سورة يوسف"، جاريته في توريته، مغطياً على الموقف بضحكة، مع وعد مني بلكشرة ثالثة, وبرية سيحين وقتها قريباً.
الإندفاعة الثالثة تم تغيير توقيت تحركها من بعد صلاة العصر, إلى ما بعد صلاة العشاء على أن تكون بلا توقف حتى المعسكر الرئيسي للمشروع, وكان سبب التغيير هو السماح لطوف أمني بأن يتقدمنا حتى يؤمن الطريق، وعلى هذا أمر عثمان الجميع بالخلود إلى الراحة والنوم, استعداداً لسفرية ليلية متواصلة.
لم يكن أحداً ينتظر التعليمات ليخلد إلى النوم فقد كانوا نصف نائمين - بعد اثنتي عشر ساعة من التحرك فجراً – وخلد الجميع إلى النوم فيما عداي، فقد ظللت مستيقظاً أرى طيف جيزيل في كل غصن وورقة, أتى وقت المغرب فصليت وحيداً، فقد خشيت إن أيقظت أحداً أن لا يستطيع العودة إلى النوم مرة أخرى.
بعد الصلاة لاحظت أن أم جزيل استيقظت هي ومساعدها, وأوقدا نار ضخمة في وسط المعسكر, ثم وضعا عليها إناءً ضخماً, تمخضت عنه بعد فترة رائحة بليلة عدس, كم هي مثقفة تلك المرأة, فالعشاء سيكون سريعاً وقد يضطر البعض إلى أخذه معه, الشيء الذي يجعل من البليلة والبلح أنسب مكون.
عند التاسعة تماماً صحا عثمان وأخذ يطرق على العربات حتى يستيقظ من فيها، ثم جمعهم لصلاة المغرب والعشاء كجمع تأخير، وأمرهم بالإسراع في تناول وجبة العشاء، حيث تغيرت الخدمة الخمسة نجوم, وأحضرت كل مجموعة إنائها كما المساجين.
عند العاشرة تماماً أقتحم موكبنا ظلام الغابة الرهيب, كاشفاً عن جحافل من الحشرات تتطاير أمام فوانيس السيارات، واختفى صرير الجنادب وسط صهيل المحركات، وكانت مسيرة لا مجال فيها إلى التوقف, فالطوف الأمني قد تحرك ويجب عدم التأخر عنه.
وبدافع فطري لتحمل المسئولية - حيث كنا نسميه القبطان – ركب عثمان بجوار السائق, وانفردت أنا بمقعد النص, الشيء الذي مكنني من النوم رغم الحركة العنيفة للسيارة لوعورة الطريق, المهم عند الثانية تماماً صحوت على صوت تنبيه الطوارئ ينطلق من سيارات المقدمة، بسبب سماعهم لصوت طلق ناري من البعيد, الشيء الذي أوقف الطوف ونزلنا أنا وعثمان - بعد أن أخذ سلاحه الشخصي - لنستطلع الخبر.
عند وصولنا لعربات المقدمة كانت كشافات العربة شبه العسكرية تمسح, ما يمكن رؤيته من الغابة المحيطة, ولم يكن هناك شيء يذكر, خاصة وأن صوت الطلق الناري أتى من بعيد, فقد يكون نتيجة لخطأ من الطوف الأمني الذي أمامنا.
عثمان وبطبع القبطان الغالب عليه، عاد إلى سيارتنا، وأمر السائق - الذي كان عسكرياً سابقاً - بإعطائي مفاتيح السيارة، وقال لي بحزم: أنا اعلم بأنك خبير في القيادة (أوف رود) ستكون معك سارة وأمها, بالإضافة لخزينة النقود، إذا سمعت أي ضرب نار عد أدراجك، أكرر وأعيد عد أدراجك, قلت له حاضر مرتين حتى أقتنع، ثم أخذ السائق معه إلى عربة المقدمة ليكونوا قوة دفاع صغيرة عن الكنفوي.
لم تأخذ ترتيبات عثمان أكثر من عشر دقائق، أصبحت بعدها من مستغرق في النوم بلا مسئولية, إلى المسئول الأول عن حياة أغلى وأعز إنسان في حياتي، ثلاث ضربات في الرأس توجع، يا رب أنا أرجو عونك.
تحرك الطوف هذه المرة بروح جديدة، والعيون مفنجلة خوف المجهول, إلا إنني لاحظت عدم الخوف على أم جيزيل, سألتها: أراك مطمئنة, فقالت لي عندما يكون عثمان في المقدمة لا خوف علينا، وصدق من قال محرفاً: وفي الليلة الظلماء يظهر البدر، عثمان الذي أشيل وألكشر فيه يصبح أسد ثقافة الوقت والموقف.
جزيل كانت خائفة في بداية الأمر, ولكن مع مرور الوقت وعدم حدوث شيء, بدأت تطمئن وتهتم بعتلات تروس القوة في السيارة وسألتني عنها, ولكن أمها نهتها عن التساؤل، وطلبت منها تركي أهتم بالقيادة.
مرت ساعة لا يشوبها غير المنحنيات, وبعض الأراضي المرنة في الطريق المتعرجة، ثم قابلتنا منطقة مجاري متعبة للسيارات الصغيرة، وصرت مثل الجراح, ففي مسافة عشرين متراً علي أن انزل من الغيار الرابع إلى الأول ثم أستخدم الترس الخفيف عند الدخول للمجرى, والثقيل عند الخروج منه، ثم ابدأ عملية عكسية, فأحرر تروس القوة, ثم اندفع مسارعاً حتى ألحق بالسيارة التي أمامي.
جيزيل كانت منبهرة بتشغيل الدفع الرباعي، وتناغم صوت المحرك مع حركة تروس القوة, حتى إنها ألصقت رأسها بالمقعد الذي بجانبي لتراقب حركتي بدقة أكبر, وقد انتهزت فرصة نوم والدتها, وعادت تسألني عن تروس القوة وكيفية استخدامها، وبدأت أشرح لها العملية بالتفصيل، حتى تمييز نوعية الأرض من صوت السيارة التي تسير أمامنا, ثم سألتني إن كان يمكن لها أن تتعلم القيادة حين حضورها للخرطوم, فأخبرتها بأن هناك مدارس لتعليم القيادة، وهي تعتني بك إلى استخراج الرخصة, حديث جيزل وأسئلتها البريئة المتواصلة, جعلا الوقت ينقضي بسرعة، حيث لم أشعر إلا وأنا في أرض فضاء هي بداية المشاريع.
عند وصولنا للمعسكر كان الفجر قد أسفر عن لوحة تشكيلية لحي حوى كل أنواع البناء العشوائي, صفيح، كرتون، قش، زنك، خيام، فكل ما يخطر على بال الإنسان من مواد التغطية والتغليف تمت الاستعانة به لقيام الحي العجيب.
بعد الصلاة رحب بنا مدير المعسكر، وأمر بنصب الخيام التي أحضرناها معنا في منطقة شجيرات زاهية قرب المعسكر، ثم أخذنا مع سارة وأمها إلى خيام الإدارة لأخذ قسط من الراحة، وأمر عماله باستضافة العمال والسائقين.
خيام الإدارة كانت الوجه الآخر للقمر، بالنسبة للحي العشوائي, فقد كانت منتظمة ونظيفة بصورة ملحوظة. ولم اصدق وصولي إلى سطح غير مهتز, فنمت كالقتيل, صحوت بعدها على صوت جيزيل تقول: عم عثمان الفطور، عم عثمان الفطور، ابتسمت وكررت، عثمان الجنة تنادي وأنت تصر على النوم.
بعد الفطور ذهبنا إلى المعسكر الذي خصص لنا – بعد أن نصبت خيامه - حتى نرتب أمورنا, ونبدأ في ترتيب حصص التقاوي والمؤن, وعمل خطة لتوزيعها على المشاريع، وفي هذا الأثناء كان مدير المعسكر قد عين عربة لأخذ أم جزيل إلى قرية أقرباءها.
حضرت جزيل لوداعنا وكانت آخر كلماتها مصحوبة بتلك الإسبالة المؤثرة: "شكراً كتير ربنا يحفظك"، دعوت لها بالتوفيق, وتراجعت مبتعدة بروحي ووجداني, وتركتني أردد مع الرائعة نهلة.
خطاويك
تقالد سكتي وترتاح
وأتوسد مداك حنين
نغني نغني لي بكرة
تضيع الآهة والحسرة
وداعاً روضتي الغنا:
غادرت جزيل وتركتني لذكريات, أحلاها يصهر القلب وجداً، ولكن ضغط العمل خفف عني، حيث كنا نبدأ عند أول ضوء وننتهي بعد وادع الشمس لمغربها، وكانت تتخلل اليوم لحظات - وكأن الزمان لم يقطع الركب عرضه - فيرن صوتها: (عم عثمان الغدا, عم عثمان الغدا), وألتفت في فرحة لأجد اللاشيء يعم المكان.
أما ليلي فأقضيه وحيداً على بعد كبير من المعسكرات, وبارك الله في عم عبد الرحمن وسريره العجيب, فهو يبقيك بعيداً عن الآخرين متى أردت، فكنت أغادر المعسكر بعد العشاء, وأعود فجراً, وبين الوقتين كنت كما تقول شاعرتنا الرائعة دوماً نهلة محكر:
لا زولاً يقول كيفك
ولا طيفاً يسامرك ليل
حزين مكسور جناح خاطرك
لا طرفاً يحن يغشاك
لا روحاً تقاسمك ويل
بعيد تايهات شراعاتك
لا قمراً يضويلك
لا نجمات سماك دليل
مضت الأيام كالحة يومي كأمس, وأمسي لا يحمل غير ذكرى تهيج آلامي، وفي خواتيم العمل حضر عثمان مخبراً بطلبي على وجه السرعة في رئاسة الشركة بخصوص قضية كنت مشرفاً عليها، وأنهم قد حجزوا لي على القطار المغادر من عاصمة الإقليم صباحاً, وعلى هذا ستندفع بي سيارة حتى ألحق به.
إذاً فقد دار الزمن, وها أنا أعود خاوياً, فقد ذهبت جزيل بفؤادي، وكل سعدي والخاطر, وأعود وليتني ما عدت عمري, وهل يشفي ما بالقلوب ليت.
دلفت إلى السيارة التي تحررت من رفقة الكنفوي, فانطلقت تسابق الزمن لألحق بالقطار.
وصلت إلى الخرطوم لا أدري كيف كانت تفاصيل الرحلة, فكل تفكيري كان منصباً على فيض سعادة يتباعد، فغبت وما اختفيت.
انـــــــــــتهت.. أم درمان 24-6-2012م