Layla Cultural Platform

Home Login News Blogs LCP Contest 2017

دولة محمد

د. محمد عصام

Goto Chapter:
In this Chapter:
Increase Font Size
Decrease Font Size
Align Left
Align Right
First    
Last

التاريخ الإنساني..
ما هو إلا سلسلة من الأحداث المتتالية إذا نظرت إليه نظرة عابرة..
ولكن المتمعن في هذا التاريخ من بدء الخليقة وحتى اليوم، يجد حقيقة بسيطة، وإن كانت مستترة..
إن التاريخ ما هو إلا سلسلة من الأحداث المترابطة التي يتحتم حدوث أولها حتى يحدث ثانيها، ولا بد من حدوث ثانيها حتى يحدث ثالثها، وهكذا..
فأنت تقرأ هذا الكتاب مطبوعاً على ورق.. تخيل لو لم يتم اختراع آلات الطباعة الحديثة التي تطبع آلاف النسخ في الدقيقة ليصلك هذا المطبوع..
وتخيل كيف كان الإنسان سيفكر في اختراع هذه الآلات نفسها لو لم يتم اختراع فكرة الطباعة قبلها بمئات السنين..
وحتى هذه الفكرة كيف كانت ستولد لو لم يتم اختراع الورق قبلها بمئات السنين أيضاً..
فلو رسمنا خطاً زمنياً ووضعنا نقطة مكان كل حدث مهم أو محوري في التاريخ، لوجدنا أن كل الأحداث مترابطة كحلقات السلسلة يشد بعضها بعضاً، ويتحتم حدوث أولها ليحدث ثانيها..
وفي خضم هذا البحر من الأحداث، توجد فترة زمنية معينة شكلت في نظري الفترة الفاصلة في التاريخ الإنساني ككل..
فترة الخلافة الإسلامية الأولى..
وهذا القول ليس ناتجاً عن عاطفة لكوني مسلماً فحسب، ولكن القارئ لهذه الفترة تحديداً سيجد أن الحضارة الإسلامية كانت مركز الحضارة في الكرة الأرضية في ذلك الوقت خاصة بعد انهيار المملكتين الرومية والفارسية.. بل إن الأحداث المتتالية التي حدثت منذ وفاة الرسول (ص) وحتى انهيار هذه الحضارة كانت هي السبب الأساسي والممهد لميلاد الحضارة الغربية الحديثة..
وهذا القول يشمل جميع النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفلسفية وحتى الأدبية..
فكر في ابن سينا والإدريسي وابن الهيثم وابن فرناس وغيرهم الكثير، ممن يعترف لهم العلم الحديث بدورهم في إرساء قواعده ووضع أبجدياته..
فكر في هذا وأنت تخبر جهاز حاسوبك أو هاتفك الذكي ليغير نظام الأرقام من الهندية (التي نسميها نحن العربية!) إلى العربية (التي نسميها نحن الإنجليزية!) إلى اللاتينية (حيث لا وجود لأرقام انجليزية!)..
وحيث إن هذه الفترة مليئة بالأحداث العظام والفتن الكبيرة، حاولت أن أناقش الأحداث بطريقة مباشرة وبسيطة بحيث يبدو ترابط الأحداث واضحاً للقارئ، وكيف أن كل حدث كان مهماً جداً للحدث الذي يليه..
فلولا ما كان من تمهيد للرسول (ص) وبيان فضل أبي بكر الصديق في توليته أمر الصلاة وغيره مما لا يختلف عليه اثنان، لما كان سهلاً أن يفوز بالخلافة، خاصة واﻷعناق مشرئبة واﻷصوات مختلفة حول من يكون الخليفة، والناس ﻻ عهد ﻻ بخليفة موحد بل عهدها برئاسة قبلية مستندة على الحسب والجاه والمال..
ولو فاز غيره بالخلافة فأغلب الظن أن حروب الردة ما كانت لتقوم – حيث أن كبار الصحابة (ومنهم عمر) كانوا يرون أنه لا قتال لمن شهد ألا إله إلا الله.. وعندها لربما تغيرت خارطة الجزيرة العربية تغيراً جذرياً عما كان..
ولولا سيطرته على المرتدين وإعادته الجزيرة العربية لصف الإسلام، وتوحيده للصف الداخلي، لما كان سهلاً على الفاروق أن يوجه أنظاره تلقاء فارس والروم، ويزيد من رقعة الدولة الإسلامية بالفتوحات والغزوات، ولكان انشغل بالحروب الداخلية التي كفاه الصديق شرها..
ولولا تمهيد الفاروق هذا لما تمكن ذو النورين أن يواصل الفتوحات ويزيد من رقعة الدولة أكثر وأكثر..
وهنا أقف وقفة مطولة في هذه النقطة.. فقد كثر اللغط حول سبب الفتنة التي أحاطت بعثمان واﻷسباب التي أدت إليها.. وقد أكثر المؤرخون والمفسرون – القدامى والحديثون على سواء – من القول في هذه الفترة التي أسموها فترة الفتنة الكبرى.. ولكني والحق يقال ما وجدت في هذه التفاسير جميعاً ما يشفي ظمأ القارئ وما يجيب على الأسئلة التي يسألها الشخص العادي حينما يقرأ التاريخ..

لماذا حدثت الفتنة في عهد عثمان؟ وهل كان عثمان ضعيف الشخصية مما أغرى به الجموع ليخلعوه عن كرسي الخلافة كما تجد في بعض الكتب كإسلاميات طه حسين؟ وهل كانت شدة عمر التي سبقت لين عثمان هي السبب ليستضعفه الناس؟ أي لو كان الخليفة شخصاً آخر غير عثمان فهل كانت الفتنة ستقوم أيضاً؟ ولماذا لم يتنازل عثمان عن الخلافة حينما طلب إليه ذلك حقناً لدمه ولدماء المسلمين؟ وأين كان بقية الصحابة في كل هذه المعمعة والمعارضون يصولون ويجولون في المدينة – عاصمة الدولة؟.. وغير هذا كثير..

وقد حاولت أن أشرح بصورة بسيطة - ما أمكن - الأسباب التي أدت لهذه الفتنة وحتمية حدوثها، بل ودورها الأساسي في ما حدث بعدها من أحداث..
حتى خلافة علي بن أبي طالب ما كانت لتكون ما كانت عليه لولا ما سبق من خلافة عثمان..
وفتنة معاوية بن أبي سفيان ومن معه، وأسبابها وحتميتها، ودور كبار الصحابة كالزبير وطلحة وأم المؤمنين عائشة وابن عباس وعمرو بن العاص وعمار بن ياسر، وما ترتب عليها من أحداث غيرت مجرى التاريخ..

كل هذا محاولة لتبسيط هذه الفترة المعقدة - المتشابكة الأحداث - للقارئ، حاولت بها أن أجيب على التساؤلات التي جالت في خاطري أولاً، ولتوضيح بعض جوانب الفتن التي حدثت وحتمية حدوثها لترسم مجرى الأحداث التي تليها، ولتكون هذه الفترة هي الفترة الذهبية في التاريخ – ليس الإسلامي فحسب – بل الإنساني ككل.. وما نقصده بالفترة الذهبية ليس ما أضافته للتاريخ – فالفترات اﻷموية والعباسية ازدهرت فيها الحضارة اﻹسلامية في جميع نواحيها كما هو معلوم – ولكن القصد هو ما زخرت به الفترة من اﻷحداث المهمة التي كانت محورية وممهدة لما بعدها..
وقد اعتمدنا في كتابة هذا الكتاب على هذه الكتب التي تعتبر من أمهات الكتب في مجال التاريخ اﻹسلامي، وكل المراجع المذكورة في نص الكتاب تعود ﻹحدى هذه المراجع:
* كتاب الطبقات الكبير، محمد بن سعد بن منيع الزهري، الطبعة اﻷولى، 2001م، الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة، رقم إيداع 18318/2000، الترقيم الدولي: ISBN-977-5046-87-4
* البداية والنهاية، الحافظ عماد الدين أبو الفداء اسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية واﻹسلامية بدار هجر، طباعة ونشر دار هجر
* تاريخ اﻷمم والملوك (تاريخ الطبري)، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، مراجعة وتنقيح أبو صهيب الكرمي، طبعة بيت اﻷفكار الدولية، الناشر: المؤتمن للتوزيع

وقد حاولت في متن الكتاب أن أسرد الوقائع التاريخية سرداً مبسطاً يسهل على القارئ فهمه، وقد تجاوزت - عن قصد - الكثير من اﻷحداث التي حدثت في فترة الخلافة اﻷولى مما ليس له علاقة بالصورة الشاملة، فلو أردنا إيراد كل حادث حدث خلال هذه الفترة ﻻحتجنا لمجلدات كاملة لسرد القصة، وبدلاً عن ذلك وضعنا اﻷجزاء التي يحتاج القارئ لمعرفتها لكي يفهم كيف حدث ما حدث وكيف مهّد الحادث المعين لما بعده..

ومن النقاط المهمة جداً التي يجب أن ينتبه لها القارئ قبل الشروع في قراءة هذا الكتاب هو أننا نتحدث بحيادية مطلقة عن اﻷشخاص الذين شاركوا في هذه اﻷحداث.. أي أننا حينما نذكر أحد الصحابة رضوان الله عليهم فإننا ﻻ نتحدث عن الصحابة باعتبارهم حملة الدين الذين حاربوا جوار الرسول (ص) ونصروه وقاتلوا وقتلوا معه، وﻻ نتحدث عن الصحابة حفظة القرآن ورواة الحديث الذين لولاهم لما عرفنا ما عرفناه عن اﻹسلام..
إننا ببساطة نتحدث عن الصحابة الرجال غير المعصومين من الخطأ، الصحابة الرجال الذين أنشأوا الدولة المدنية اﻷولى في العهد اﻹسلامي اﻷول، الرجال الذين اختلفوا في أمور الدولة والسياسة وربما تحاربوا وتقاتلوا – ﻻ عن خلاف ديني – بل عن أمور سياسة وحكم، فلم يكفّر بعضهم بعضاً وﻻ ذمّ بعضهم بضعاً بل كانوا يتقاتلون أول النهار ويتسامرون ليلاً، ويترحمون على من مات منهم خلال هذه الخلافات ويصلون عليه..

وهذا السرد مهم لئلا يفهم أحد أننا نقدح في أحد الصحابة أو ننتقص من قدره، فهؤﻻء الرجال لهم مكانتهم السامية في التاريخ اﻹسلامي بما قدموه، فسطروا ﻷنفسهم حروفاً من نور في هذه الفترة المهمة من التاريخ اﻹنساني..

والله الموفق
المؤلف

First    
Last