رواية
همس الصمت
درية صالح محمود صالح
العنوان: همس الصمت
المؤلف: درية صالح محمود صالح
تصميم الغلاف: منصة ليلى الثقافية
ترقيم الكتاب بالمكتبة: 180011151
صفحة الكتاب بالمنصة: https://laylacp.net/webaccess/book_view.php?id=180011151
جميع الحقوق محفوظة © 2019 منصة ليلى الثقافية
Copyright © 2019 Layla Cultural Platform (LCP)
هذا المُصنَّف مرخص بموجب رخصة المشاع اﻹبداعي نَسب المُصنَّف – غير تجاري – الترخيص بالمثل 4.0 دولي
Attribution-NonCommercial-ShareAlike 4.0 International
اليوم الخميس 31/1/2013. يرتبط هذا التاريخ في ذهني بيوم الخميس 31/1/2008 وهو يومٌ مشهود في حياتنا- أنا وأسرتي - وهو السبب في حكايتي التي سأسرد لكم جُلّها من مذكِّراتي. نسيتُ أن أخبركم أنني كنت أسخر من رباب- أختي التوأم - عندما كانت تكتب مذكراتها. بالمناسبة نحن وُلِدْنا في 31 يناير.
اليوم، أقِفُ حافية على الرمل الممتد مع ساحل البحر الأحمر على مرمى نظرى. تداعب الأمواج ساقَيّ عندما ترتطم بطرف عباءتي السوداء المنسدل داخل الماء لتفرغ فيهما ما تحمله من زَبَدٍ وما علق بالماء من طحالب وأشياء خفيفة. أنْحنِي بين الفينة والأخرى لأزيل بعض الأشياء التي تعْلق بقدميَّ ولا أكترث للبعض الآخر الذي لا يثير اشمئزازي حتى ارتدَتْ قدماي نعْليْن من الطحالب. الشمس المستديرة ككُرَةٍ ضخمة، هناك في الأفق الذي يربط سماء ينبع ببحرها الأخضر، تنزل للأسفل وكأنها تريد أن تغطس في الماء لتغتسل من عناء النهار وقد امتزج لونها الأصفر بالأفق الأحمر من ورائها. سرحتُ معها ومع الحلم الذي ظَلّ يراودني عدة ليالٍ متتالية. كنتُ أرى نفسي في الحلم وأنا أجري في نفقٍ طويلٍ مظلم وأتلفّت وكأني أبحث عن أحد، ثم أقف لألتقط أنفاسي وأنادي بأعلى صوتي: "رباب، رباب." ولكن ليس من مجيب سوى صدى صوتي الذي تُرَدِّده جدران النفق.
سرحتُ في عالمٍ آخر ولم يعيدني إلى حيث أنا إلا قطرات من الماء تتساقط على يدَيَّ وعلى النقاب الذي يُغطِّي وجهي. رفعتُ رأسي إلى السماء فإذا بقطراتٍ أكبر تسقط متسارعة عليَّ حتى ابتلّتْ ملابسي، ورأيت الناس من حولي يلملمون فرشهم وأشياءهم ويهرولون نحو سياراتهم، وأخيراً انتبهتُ لصوت عادل، زوجي، وقد وقف أمام باب السيارة المفتوح وهو يشير بيده ويصيح: "هيا بنا قبل أن يزداد المطر." وطفلاي التوأم أحمد وخالد داخل السيارة يشرئبان بعنقيهما الجميلين ويلوّحان لي: "ماما... ماما." رغم كل هذه الضجة من حولي وجدتُ نفسي أعتدل في وقفتي وأدس مذكرتي التي كانت في يدي بين طيّات عباءتي، وأمد قلم الرصاص الذي كنت أمسكه لتتساقط عليه قطرات المطر، ثم أحنيه على كَفِّي اليسرى وأكتب بالماء المتساقط من سِنَّته كلمات لا ترابط بينها ولا أدري من أين انهمرت عليَّ كالسيل. وفجأة انقطع الحبر، أقصد قطرات الماء، فرفعتُ وجهي إلى السماء فإذا السحابة قد انقشعتْ فجأة كما هطلتْ فجأة، والتفتُّ ورائي فإذا بعادل يمسك الولدين كلاً بيد ويتجهون نحو سيارة الآيسكريم.
لا أدري لماذا بدأتُ الكتابة لكم في هذا اليوم بالذات؟ ربما لأن مَنْ سأروي لكم قصتها كانت تعشق المطر على الرغم من أنها مصابة برُهاب (فوبيا) الماء. صرتُ في الفترة الأخيرة لا أدري كثيراً من الأشياء. ما أعرفه الآن فقط هو أن لي رغبة عارمة في الكتابة لأبوح لكم ببعض ما يؤرِّقني علّني أُخفِّف على نفسي قليلاً.
كيف أبدأ حكايتي؟ لست أدري!!!
هل جرّب أحدُكم أن يحس بسعادةٍ غامرة وكأنه...، وكأنه مَلَك كل الدنيا، وفجأة يحس وكأن كل شيء قد ضاع منه؟ فجأة ودون إنذار تجد أن أعزّ ما لديك قد ضاع منك في طرفة عين؟ هل تعرفون القِباب التي كنا نبْنِيها بالرمال المبتلة بماء المطر أو على ساحل البحر ونحن صغار؟ كنا نُدْخِل أرْجُلَنا في كومة رمال ونبني فوقها القباب ونتفنّن في تصميمها. تخيّلوا،... بعد كل مجهودك وفرحتك بقبّتك الجميلة يجيء أحدهم جارياً ويضربها برجله أو بِكُرة، بقصد أو دون قصد فيحطّمها فتتناثر لتعود رمالاً كما كانت. تكتشف فجأة أنك كنت تنسج بيوتاً من خيوط الوهم. ساعتها لن تصدق أن هناك من هو مُبتلى مثلك أو أسوأ منك، فقط تحس وأن كل مصائب الدنيا قد تركتْ كلَّ خلق الله وجاءت لتتربع على قمة رأسك، كأنها لم تجد أحداً في كل هذه الدنيا إلا أنت.
هل جرَّبْتم أن تلتحفوا سعادةً لا حد لها وتتدَثَّروا بحزنٍ لا نهاية له في آنٍ واحد؟ أنا جَرَّبْتُ هذا وما زلت أعيشه لذا استأذنكم في أن أحكي لكم قصتي وبدون مقدمات لعلي أجد بينكم من يواسيني.
القصة التي سأسردها لكم حَدَثَتْ لي ولم تَحْدُث لي. من حقِّكم أن تتساءلوا كيف؟! القصة حدثت لرباب التي ذكَرْتُها في بداية حديثي، أختي، بل توأمي روحاً وجسداً لذا عشتها وكأنها حدثت لي، بكل تفاصيلها الكبيرة والدقيقة، بكل خيوطها المتشابكة، الطويلة والقصيرة.
إسمي رحاب. أعمل طبيبة منذ عاميْن وبضعة أشهر ولي ولدان تؤام عمرهما ثلاث سنوات وسبعة أشهر إذ تزوجتُ في السنة النهائية لدراستي. التوائم وراثة في عائلة أمي لدرجة ملفتة للانتباه. فأمي نفسها توأم. كانوا ثلاثة توائم: أمي منال، وخالتي منيرة، سَمُّوها على جَدِّتها لأبيها التي توفيت قبل ولادتهم بعدة أيام. وكثيراً ما كان هذا مثار نقاش بين أمي يرحمها الله وخالتي منيرة التي تحتج مازحة على اختيارها هي دون أمي لتسميتها بهذا الاسم القديم كما تقول، وكانت لا تَسْكُت إلا بعد أن تقنعها أمي بأن والدهم يُفَضِّلَها عليهم لأن اسمها كاسم والدته. وتوأمهما خالي كمال الذي مات بشلل الأطفال وهو في الرابعة من عمره. ولهما أخ وأخت غير توأم (عمرو ورجاء). خالتي رجاء وخالي أيضاً لديهما توائم. رباب درستْ ثلاث سنوات وبضعة أشهر من السنة الرابعة في كلية الاقتصاد ولم تكمل لظروف سأذكرها لاحقاً. كانت رغبة أمي عليها رحمة الله أن ندرس الطب فأخذنا بذلك عهداً على أنفسنا أن نحقق أمنيتها وأن نساعد أخانا محمد – الذي يصغرنا بخمس سنوات - ليصبح مهندساً كما كانت تتمنى، هو يدرس الآن تقنية معلومات. أحرزنا بفضل الله درجاتٍ عالية تؤهلنا لدخول كلية الطب. تفوّقتْ رباب علَيَّ بفاصل 3. دخلتُ أنا كلية الطب بينما دخلتْ هي كلية الاقتصاد لأنها كانت تخاف من الدم، أما أنا فقد كان أبي يُطْلِق علَيّ "رحاب قلب الأسد." كانت رباب دائماً تُؤنِّب نفسها على جُبْنها الذي أدخلها كلية الاقتصاد وحال بينها وبين تحقيق رغبة أمي. وكثيراً ما كانت تسألني:"إن كانت أمي عائشة هل كانت ستقتنع بدراستي للاقتصاد؟ ألن تغضب مِنِّي؟" ولعِلْمي بفرط حساسيتها كنت لا أمِلُّ من التأكيد لها بأنها ستَقْبل.
وقبل أن نخوض في التفاصيل سأسرد لكم نبذة عن أسرتي. لا تقلقوا فلن أطيل عليكم.
في وسط الصورة أبي، أحمد - أطال اللهُ عمره - كان وما زال يعمل محاسباً في مؤسسة عقارية في ينبع البحر بالسعودية. أبي سوداني من شمال السودان، ولكننا نملك بيتاً متواضعاً في أم درمان. وهذي التي تجلس جوار أبي هي أمي، مصرية من الإسكندرية لذا كنا نقضي جُلَّ إجازاتنا هناك، ولم نكن نسافر للسودان إلا كل ثلاث أو أربع سنوات وذلك لمرض جدتي لأمي "عايدة"، كما أن راتب أبي (3000 ريال) كان لا يكفي لسد نفقات السفر سنوياً. وُلِدْنا ونشأنا في السعودية، وكان السودان بالنسبة لنا محطة استثنائية يقف عندها قطارُنا كلما أضناه المَسِير في سكك الحياة ليتزود بوقود الجذور.
ماتت أمي ونحن في أول ثانوي، وتزوج أبي بعد سبعة أشهر فبدأتْ غربتُنا في منزلنا، وبعد عامين انتقلنا أنا ورباب للخرطوم لندرس بجامعة الخرطوم لتكتمل غربتنا بالابتعاد عمَّا تبقّى من أسرتنا.
لأُقَرِّب لكم الصورة دعوني أُحَدِّثُكم عن بعض التفاصيل. بما أننا توأمان، فبديهي أن تتوقعوا أن نكون متشابهتين. صحيح. كيف أصف لكم ملامحنا؟ لا أدري. أمي كانت دائماً تقول لنا إننا أجمل زهرات رأتهن. هذا شيء طبيعي (القرد في عيون أمه غزال)، ومعظم من يعرفوننا يضعوننا في قائمة الجَمال معاً، مع أني أجمل من رباب. لا تصدقوا ذلك فأنا أمزح. أُعْذُروني، فأنا معروفة بين أهلي وصديقاتي بأنني كثيرة المزاح، أما رباب فهي جادة قليلاً. بالطبع لم أكن أجمل منها فنحن توأمان متطابقتان تماماً. سبحان الله، كما يقولون (فولة واتقسمت نُصَّين.) كما تعلمون نصفا الفولة متشابهان تماماً، ولو لاحظتم هنالك في الفولة جزءٌ صغير يربط هذين النصفين، يُقال إنه يسبب السرطان والعياذ بالله. هذا الجزء الصغير في الفولة كان من نصيبي، فقد كانت لي شامة تحت حاجبي الأيسر في حجم حبة الفلفل الأسود. لا أعرف، ولكن يبدو أن لونها المائل إلى الرمادي قليلاً كان غريباً نوعاً ما، ولطالما أوقعتني هذه الشامة المُتْعِبة في مواقف طريفة. أذكر مرة ونحن طالبات في الجامعة ذهبنا لحضور زواج إحدى قريباتنا، وكانت رباب تجلس عن يميني بينما تجلس عن يساري إمرأة كبيرة في السن. لم نكن نعرفها، ولكنها كانت طيبة ودخلتْ في الحديث معنا بدون مُقدِّمات، وفجأة رفعتْ طرف ثوبها[1] وبَلَّلتْه بطرف لسانها ثم أمسكت برأسي وبدأت تمسح الشامة وهي تقول:
"أعذريني يا ابنتي، أريد أن أمسح نقطة الكحل هذي من تحت حاجبك."
أمسكتُ بيدها بلطف وقلت لها وأنا أضحك:
"شكراً خالتو، ولكن هذه ليست نقطة كحل، أنا لا أتَكَحَّل. هذه شامة يا خالتو."
إعتذرتْ المرأة وقبّلتْني على رأسي، أما رباب فلم تنطق بكلمة واحدة من شدة الضحك وهي تضرب برجليها على الأرض كعادتها عندما يغلبها الضحك. ولكن ولآخذ ثأري لم يَدُم ضحكها إذ في أثناء ضربها برجليها تزحْزحتْ الطرحة فكشفتْ عن مقدمة شعرها وكانت لديها ومنذ ولادتها غُرّة (شَيْب) في شعرها من جهة رأسها اليسرى. الحمد لله، تركتْني المرأة واتجهت بكرسيّها إلى رباب ولمستْ الغُرَّة بيدها وهي تقول:
"سبحان الله يا بنتي. صدق الشيخ فرح ود تكتوك، آخر الزمان شيب الشِّبان وجفا الحِبَّان".
ذكّرتني عبارتها هذي جدتي لأبي - اسمها عائشة - التي كانت كلما رأتنا تقول نفس المقولة لرباب. كانت تلك الغُرّة تضفي على رباب نوعاً من الجمال، وكانت أمي تضع عليها الحناء ليصير لونُها بُنِّيّاً غامقاً عندما كنا صغاراً وعندما كبرنا ودخلنا المدرسة المتوسطة صارت أمي تحثّها على وضع الحناء بنفسها لتتعلم وتعتمد على نفسها وكانت تقول لنا كُلَّما حثّتنا على عمل شيءٍ ما:
"تعلّما لمستقبلكما."، ثم تضيف ضاحكة: "لا أريد أن يأتي زوج إحداكما في المستقبل ويلقي علي اللوم."
وكانت أحياناً تضيف وفي صوتها نبرة حزن وكأنها كانت تحس بأنها لن تواصل معنا مسيرة حياتنا: "تعلّما إدارة حياتكما، فمن يعلم؟ ربما لا يطول بي العمر حتى أساعدكما في الحياة."
إعتادتْ رباب على وضع الحناء على غُرَّتِها كل نهاية أسبوع وعندما تكسل تصبغها بصبغة الشعر باللون البني الغامق أو الفاتح، وكان منظرها يعجب الطالبات في المدرسة فكن يلتفِفن حولها ويعلِّقْن عليها مما يُسْعدها، وعندما نعود إلى البيت وتتطرق لذلك في المساء كنت أطري عليها كثيراً وكنت صادقة في ذلك، ولكن أحياناً يأبى وجهي الشرير – كما كانت تقول لي - إلا أن يظهر فأمازحها لأغيظها بقولي:
"يعجبك هذا لأنك ما زلتِ صغيرة، ولكن عندما تكبرين سيكون ذلك مصدر بؤسٍ لك إذ لن يُصَدِّق أحد أنها منذ صغرك مهما برَّرْتي، فبعض الناس لا يُصّدِّق إلا ما يريد تصديقه ولولا ذلك لنصحتُك بحمل لافتة وقتها مكتوب عليها "أقسم بالله هذا الشيب منذ ولادتي." واقفة هنا
وكان شيبُها هذا حديث الأهل والأصدقاء في المناسبات سواء وقعتْ أعينهم على رباب أو جاءت سِيرة الشيب في غيابنا. كانت جدتي تردد دائماً وهي تمسح على شَعرها بكفِّها:
"يا بناتي... ماذا أقول؟ شَعْري هذا الذي ترونه اشتعل شيباً لم يغْزُه الشيب إلا بعد أن بلغتُ سن الخامسة والثلاثين. صدق الشيخ فرح في كلامه عندما قال (آخر الزمان شيب الشِّبان وجفا الحِبّان). صدق... جفا الحِبّان، عندك (معاوية ود نفيسة بنت الإمام) منذ أن سافر إلى أمريكا منذ تسع سنوات لم يَعُد ليرى والِدَيْه وأهلَه، حتى عزاء أمهِ لم يحضره والعياذ بالله، وخذي مثالاً آخر من أهلنا، محجوب ابن الفضل ابن عمي، أنا أُعتبر عمته، أليس كذلك؟ لا يزورنا إلا في الأعياد وعلى عجل، وسعدية ..."
وهنا يقاطعها جدي مازحاً، وأظنه يتعمَّد ذلك ليثْنِيها عن الحديث عن الناس إذ كان كثيراً ما يعظها في هذا الشأن وكانت لا تخفي امتعاضها منه. وذات مرَّة قال لها جدي مازحاً:
"البعرفونا ماااا يحضرونا. أنتِ شيبتي بعد الخامسة والثلاثين؟ يا حاجة؟ أنا مما تزوجتك وأنتِ بهذا الشيب، ولولا خشيتي من أن تقولوا أني كاذب لقُلتُ أنه قد كان أكثر مما هو عليه الآن."
فثارت جدتي ورَدَّتْ عليه (هي لا تترك ثأرها أبداً وقد ورّثتنْي هذه الصفة القبيحة كما كانت تقول أمي):
"أنا عندما تزوجتك كنت في السادسة عشر من العمر فكيف يشيب شعري؟"، ثم تضيف وهي تشير إليه مغتاظة: "أحْمِد ربك أنك تزوجت بنت صغيرة، فقد كنتَ تكبرني بعشر سنواتٍ كاااملة. معظم أندادك كانوا قد تزوجوا وأنْجبوا."
وقبل أن يُطْلق جدي قذيفة الرد تَدَخّل عمر يوسف ابن عمتي زكية ليفض النزاع فقال مازحاً:
"أوووبا. الكلام دخل الحوش. أسحبي كلامك يا حبوبة سرييع واعتذري. إنتي قصدْتِيني عدييل بكلامك دا."
فردّت سريعاً وكأنها كانت تبحث عن هذه الفرصة:
"إنتَ ما جَبَدك جِدَّك. عَجّزْتَ وليوم الليلة ما عَرَّسْتَ."
فأجابها قاصداً دفعها للنقاش معه فقد كان يمزح معها كثيراً وسبحان الله كانت تحبه كثيراً:
"لم أتزوج فقط؟ أنا حتى لم أفكر في الزواج. ما زال المشوار طويلاً أمامي. ما زلتُ صغيراً، فأنا تخرّجْتُ من الجامعة قبل عامين فقط وما زالت أمامي دراسة الماجستييير والدكتوراااة، و..."
فقاطعته وهي تنحني من على سريرها الذي تجلس عليه وتُحرِّك يدها على البلاط وكأنها تغْتّرِف التراب:
"هاك التراب دا في خَشْمَك وفييي خَشْم أٌمّك الراجْيَاك."
فانفجر ضاحكاً مما أضحكنا جميعاً وقال:
"أين هو التراب يا جدتي؟ هذا بلاط. ياااا حليل زمن التراب البيكَتِّحُوه."
فردّتْ بحسرة:
"يا حليل كل شيء. الزمن إتْغيّر يا ولدي، لكن دا برضو ما بخليني أغيّر الموضوع. سجم خشمك آآآ السجمان. داير تعرِّس متين؟ لامن تمشّط البيضاء مع السوداء زي الكامل ود دفع الله؟ مالك؟ من قِل البنات؟"، وهنا التفتتْ إلينا وهي تقول: "ما ياهِن ديل بنات خالك، حلاااتِن، زي النَّجَف وأحلى من قمر 14. عَرِّس واحدة منهن، دايرات يقولن لك لا؟"
ودون أن نشعر كسا الحياءُ وجْهَيْنا ونظرتُ أنا إلى الأرض بينما صارت رباب تلعب بأصابع يديها. لا أدري لماذا أصابنا الحياء مع أننا لم نكن نفكر في الزواج اًصلاً ولم نكن نفكر في عمر يوسف بالذات، فنحن نشأنا على أنه أخونا. ما السبب؟ أتلك غريزة في البنات؟ لست أدري، ولكن هذا ما حدث مما جعلني أقول في نفسي:
"أوووبا. هدف أول في مرمانا. لماذا قلتي ذلك يا جدتي؟ الآن ستفتحين علينا نيران لسان عمر يوسف."
وعمر يوسف نفسه كان يعاملنا كأختيه حتى أنه عندما تزوّج بعد ذلك الحوار بقرابة الخمس سنوات تزوّج مها بنت عمتي خالدة.
كما ذكرتُ كسانا الحياء، ولكن عمر يوسف وكعادته تجاوز الأمر ببرود وقال لها ضاحكاً وهو يشير إلينا بسبابته:
"أعرِّس منو؟ ديل؟ ما ناقص وطاويط."
كان يُطْلِق علينا الوطاويط لارتدائنا العباءات السوداء. قالت جَدَّتِي بجدِّية:
"والله تعرِّس واحدة مِنَّهِن أسَجِّل لك قطعة الأرض حقّتي الفي الخرتوم."
فهزّ عمر يوسف ساعده وهو يقول:
"الله أكبر. دا الكلام المفيد."
ولكنه سرعان ما تظاهر بالجِدِّيّة وأردف قائلآً وهو يرفع سبابته:
"خليكم شاهدين. أوووعى بكرة تغيِّري رأيك."
فردّتْ جدتي بتأكيد:
"منو البِتْغَيِّر رأيها؟"، ثم أضافت وهي تضرب صدرها بكفِّها: "أنا بِتَّك يا جعفر بلال. أنا كِلْمَتِي وااااحدة والله واحد. قايِلْني متل عثمان ود ..."
وقبل أن تكمل عباراتها ثبّتها جدي بقوله:
"ماذا قلنا يا حاجة؟ ألم نقل يجب ألا نتحدث عن الناس؟"
ولكنها لم تلتفت لحديثه بل واصلت:
"أنا عند كلمتي ولا أغيّرها أبداً. عهدي عهد رجال لا ..."
وكالعادة كان عمر يوسف لها بالمرصاد فقال لها بنبرة مليئة بالانتصار:
"وشَهِد شاهدٌ من أهْلِها. قلتي عهد رجال مما يعني أنك تُقِرِّين بأن النساء لا عهد لهن. الحمد لله، لم أقل أنا ذلك وإلا لقامت الدنيا ولم تقعد، ولأطالت بنتا ولدك هاتان لسانيهما، ولدَخَلْنا في متاهة التمييز، والجندرة، وال feminism، والـ anti feminism وحقوق المرأة، وحقوق الرجل، وحقوق الإنسان، وحقوق الحيوان، وهلمجرا."
ولكن والحمد لله توقف الحديث قبل أن يخوض عمر يوسف أكثر في هذه النقطة التي يحب النقاش فيها عندما جاء في تلك اللحظة أبي وأمي بعد جولة في الحي لِجَرْد جميع المناسبات المتراكمة (عزاء، زواج، إنجاب، تخرُّج، مرض، إلخ...) خلال الأربع سنوات التي لم نَزُر فيها السودان. حديث جَدَتَّي هذا ذكَّرَني ما حكاه لنا أبي ذات مرة عن زواجه من أمي وكيف أن أمه رفضتْ في باديء الأمر لتَمَسُّكِها بزواج الأقارب، وقال وهو يقلِّدها ضاحكاً:
"هسّع مَرَقْتَها فييي مَصُر عشان تجيب لك مَرَة؟ مِنْ قِلْ الحريم هنا؟ ما ياهِن ديل بنات أهلك يِسِدَّن عِين الشَّمِش. كدي أنَّسْعَلَك؟ إنت وَدُّوك تقرأ وللا وَدُّوك تعاين للبنات؟"، ثم أضاف وهو ما يزال يضحك:
"عشان أغَيِّر الموضوع لحَدِّي ما يجي أبوي اللي كان اتفق معاي أنا أرمي القنبلة وهو يجي يرَمِّم، وعشان أهرب من الزنقة مَسَكْتَ في كلمة (عين الشمش) وعَمَلْتَ فيها دمي خفيف فقلت لها:
"عشان ما تزعلي يا أمي العروس دي زاااتها جِبْنَاها ليك من جامعة عين شمس. فرَدّتْ علي وهي تغادر إلى المطبخ: جَبْتَها لي أنا؟ جِبْتها لروحك دي. قال: (ثم قلّدَتْني) جِبْنَاها ليك من جامعة عين شمس... هنا مافي جامعات؟"
فضحكنا حتى أن أمي صاحت من المطبخ ما الذي أضحكنا لهذه الدرجة. آه يا جدتي. كم أنت طيبة، فقط لو تخففين قليلاً من قبضة سطْوَتك!
شيءٌ آخر مشترك بيني وبين رباب. نحن الاثنان نلبس نظارات طبية. رباب لبستها قبلي بعام. كانت في أول ثانوي، وصرتُ أنا أصر على لبس نظارة شمسية لأكون مثلها إلى أن نِلتُ ذلك الشرف في ثالث ثانوي فلبسْتُها وأنا أطير من الفرح. تخيلوا!!! الآن أنا في أغلب الأحيان أضع عدسات لاصقة بدلاً من النظارة... برستيج يعني.
بالتأكيد كانت تَحْدُث مِنَّا مقالب في بعض الناس خاصة معلماتنا على الرغم من أننا لم ندرس أبداً في فصلٍ واحد لأن أبي كان يرى أن تفريقنا في المدرسة يُنَمِّي شخصياتنا ويوسع دائرة صداقتنا. وجهة نظر. (إبتسمتْ وهي تجتر ذكرياتِها): كُنَّا في المرحلة الابتدائية، في الصف الرابع أو الخامس لا أذكر، وكان لدينا اختبار قرآن، ولكن قبل الاختبار بيوم أصابتْ رباب انفلونزا من جارتها في الفصل سببتْ لها حُمّى فلم تستطع الذهاب للاختبار. ذهبتُ للمدرسة وحدي بعد أن أرهقتُ والِدَيّ بإقناعي بالذهاب، واختبرتُ. كنتُ طوال الوقت مشغولة برباب. بعد أن اختبرتُ خطرتْ لي فكرة أن اختبر بدلاً عنها. بالتأكيد لم أُفكِّر في العواقب، وشجَّعَني حضور معلمة أخرى لاختبارهم لأن معلمتهم كانت في إجازة أمومة قبل نحو ثلاثة أسابيع من الاختبار. كما شجَّعتْني (إبتسمتْ مرةً أخرى، ولكن بأسى) صديقتي نبيلة والتي كانت أول من وشى بي بعد ذلك. وقد حَدَث. إختبرتُ، ووُفِّقْتُ في اختبار رباب أكثر مما وُفِّقْتُ في اختباري. ومَرّ كلُّ شيء بسلام، ولكن فجأة جاءت أمي إلى المدرسة لتعتذر عن غياب رباب. وكُشِف المستور. وتَطَوّعتْ الآنسة نبيلة للإدلاء بشهادتها، و.... وأظنكم فهمتم ما حدث بعد ذلك. لكن صدِّقوني ولا واحداً من هذه المقالب كان مُدَبّراً. أليست صدفة غريبة؟
لم أُحَدِّثُكم عن حُب رباب للشوكولاتة. (ضحِكتْ): أذكر عندما كنا في خامس ابتدائي صحوتُ يوماً من النوم الساعة الثالثة صباحاً على خشخشة ورق. فوجئتُ بها جالسة في منتصف السرير وعلبة الشوكولاتة في حِجْرِها وهي تفتح الحلوى واحدة واحدة وتحشرها كلها في فمها بِنَهْم. مسحتُ عينَيَّ غير مصدقة، ثم انفجرتُ ضاحكة فأسرعتْ نحوي وأدخلتْ قطعة حلوى بوَرَقَتِها في فمي وهي تضع سبابتها على فمها وتقول هامسة: "أسسس، أسكتي، ستوقظين أمي وأبي." أخرجتُ الحلوى من فمي وأزلتُ الورقة وأكلتُها فربَتَتْ على فراشها وأشارت لي أن أجلس بجوارها فقفزتُ بسرعة وبخِفّة قطة جائعة رأت لحماً وجلستُ بجوارها وصرنا نأكل في صمت لا يقطعه سوى صوت مضغنا تتخلّله أحياناً ضحكات تكاد تفلت منا فنضع أيدينا على أفواهنا لنكتمها. ولم نترك العلبة إلا وهي خاوية على عروشها – بالمناسبة وحتى لا يذهب تفكيرُكم بعيداً كانت فقط بقية علبة وليست علبة كاملة، كان بها حوالى 23 قطعة فقط - فرفَعَتْها رباب وهي ما تزال تمضغ حلوتها وناولتني إياها لأرجعها إلى مكانها، فتسللتُ على أطراف أصابعي كما فعلتْ هي عندما أحضرتْها من الثلاجة ووضعتُها على طاولة المطبخ وانسحبتُ في هدوء، وأكملنا باقي ليلتنا نتسامر حتى أذّن فجر الجمعة، وعندما أحسسنا بخطوات أمي تقترب من الغرفة لتوقظنا للصلاة أشّرْتُ لرباب أن تتغطى فسحبتْ غطاءها (وعملنا فيها نائمين) ودخلتْ أمي وأيقظتنا للصلاة ونحن نتثاقل في القيام كما نفعل دائماً حتى لا يُفتضح أمرُنا. ولا تسألوا عن صباحِنا الوَرْدِي وعمّا فعلتْه بنا الشوكولاتة وما فعلتْه بنا أمي عليها الرحمة.
أعلم أني قد أضْجَرتُكم بالحديث عن رباب، ولكن صدِّقوني لو كتبتُ فيها مجلَّدات وملأتُ مواقع الإسفير عنها ما أوفيتُها حقها. رباب هي روحي، وردة في حقل حياتي، لذا لا أستغرب حبها للورد. كنت أُسمِّيها الرومانسية وأحياناً أناديها Ms. Romance. كانت تحب كل ما هو جميل. تحب المطر (تتفرج على هطوله فقط ولا تقف تحته)، والورد، والفَرَاش، والأطفال، والقمر، والخيل. عندما كنا صغاراً كنا نذهب إلى البحر في نهاية الأسبوع فكانت تصر على أن تركب أحد الخيول التي يتجول بها (السُيّاس) في الساحة للإيجار. كان أكثر ما يعجبني فيها وفي ذات الوقت يحيِّرني هو تَناقُضها. أحياناً أحس أن شخصيتها بسيطة وأحياناً توحي لي بالغموض، فهي مثلاً رغم حبها للبحر إلا أنها كانت تخشاه. كانت تحب دائماً أن تجري على رماله حافية القدمين إلا أنها لا تقرب مياهه أبداً، بينما كنتُ أحب السير على ضفته، أغمس قدميَّ في مياهه المعتدلة وأرش الماء على ملابسي. (ضحكتْ وهي تقول): أذكر مرة كنا نجري على ساحل البحر فدفعتُها على حين غرة لتسقط في الماء، ولكنها قبضتْ طرف فستاني وسحبتْني معها فوقَعْنا سوياً داخل الماء فضحكتُ أنا بينما صرختْ هي برعب وصارت تنادي أمي مستنجدة فنهرتْنا أمي وأمرَتْنا بالخروج من الماء، ثم جاءت مسرعة لتساعد رباب، فخرجنا وقد ابتلّتْ ثيابُنا وكان هذا سبب رجوعنا إلى البيت باكراً، وعوقبنا بعدم الذهاب إلى البحر شهراً كاملاً. ومن وقتها أعلنّا التوبة النصوح. كانت رباب حنونة، طيبة، تحب الناس وفي ذات الوقت كانت انطوائية، تحب العزلة والاختلاء بنفسها لذا كانت تصادق الكتب – بعد صداقتي طبعاً- أكثر مما تصادق الناس. نحن الاثنان نحب قراءة القصص والروايات. أنا مدمنة قصص رومانسية وبوليسية (تضحك) الحمد لله أني لم أصبح مجرمة. بينما تُفَضِّل هي روايات الخيال العلمي والرويات السيكولوجية، كما أنها منظَّمة، ليست مثلي تخلط الحابل بالنابل، (إبتسمتْ): "عاقلة" كما كانت تقول أمي. كانت تخصص وقتاً للمذاكرة ووقتاً للقراءة والهوايات. على ذكر الهوايات هذي، أحَبُّ هواية لنفس رباب كانت ولا زالت هي جمع الورود وتجفيفها بأن تضعها في منتصف كتاب أو مجلة وتتركها بضعة أيام لتجف ثم تضعها داخل الإطار الزجاجي الذي تضع فيه مجموعتها. كانت تنظِّمها في أشكأل فنية رائعة وتضع بجوارها فراشات تطبعها من الإنترنت. وكنت أنا وبعضُ صديقاتِها قد اقترحنا عليها أن تلصق فراشاتٍ حقيقية، ولكنها لم تقبل الفكرة وقالت إن الفراشات رقيقة ولا تتحمل إيذاءها. كانت تقطف وردة من أي مكان فيه ورود بعد أن تستأذن أو تقول مبتسمة:
"عذراً، فأنا أيضاً أعرف أن قطف الأزهار أنانية، ولكن أعجبتني هذه الوردود فأردت أن احتفظ بواحدة منها تذكاراً. لو كانت واحدة لما قطفْتُها."، ثم تُرْدِف مبررةً وكأنها تريد أن تُقْنِع نفسها قبل غيرها:
- "على أي حال هي كانت ستذبل وتموت سواءٌ قطفتُها أم تركتهُا، فالورود للأسف عمرها قصير."
ولا أنسى أنها في مرة أضافت في نهاية اعتذارها المعهود وبأسى ودون سبب:
"للأسف عمرها قصير شأن هذه الحياة. فأعمارنا وإن طالت قصيرة ونحن وإن عَمّرْنا سنموت...
"كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ"
ثم رتّلتْ بصوتها العذب وبلسانها الألثغ الذي يجعل الراء ًغيْناً مما كان يُضحكنا، خاصة عندما يسألها أحدُهم عن اسمها فتقول: "غَبَاب". أيكون جَدُّنا فرنسياً؟!!
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون﴾[2]
الحديث عن القراءة ذكّرَني موقفاً طريفاً حدث ونحن في الثانوي، ولكن قبل أن أحكيه لكم دعوني أُحَدِّثكم عن (خالتو فوزية) زوجة أبي التي قلتُ لكم إنه تزوجها بعد سبعة أشهر من وفاة أمي. كانت لنا صولات وجولات مع خالتو فوزية هذي. بعد وفاة أمي اقترح بعضُ أقاربنا على أبي أن يتزوج إحدى خالتَيّ: منيرة وهي أرملة وليس لها ولد، أو خالتي رجاء، أصغرهن والتي كانت في نهاية الثلاثينات ولم تتزوج بعد - لتساعده في تربيتنا. رفضتْ خالتاي لأنهما كما قالتا لن تستطيعا العيش مع ذكرى أختهما. خالتي منيرة لم تتزوج مرةً أخرى أما خالتي رجاء فقد تزوجت بعد زواج أبي بعام وأنجبت والحمد لله ولدين تؤام، ثم بنتاً. لا أخفي عليكم، في البداية غضبنا من رفضهما لأننا كنا نحبهما بالإضافة إلى أننا كنا نخشى أن يتزوج أبي امرأة قد تكون قاسية كما كنا نسمع أو نقرأ أو نشاهد في المسلسلات والأفلام، (وأردفتْ ضاحكة): الفضل يرجع لسندريلّا وسنووايت وأخواتهما من قصص الأطفال، لم يُقَصِّرْن في شحن خيالنا بالخوف من زوجة الأب وكراهيتها حتى قبل أن نعيشها كواقع.
تزوج أبي خالتو فوزية وهي قريبته. صراحة...، خالتو فوزية هي السبب في رفضنا لها في البداية، فقد كانت تُعَاتِبنا على كل صغيرة وكبيرة وتشكونا لأبي حتى صرنا نكرهها ونحس بأنها وحش يجثم على صدورنا. كان أبي أحياناً من كثرة شكواها يثور فينا فننزوي في غرفتنا ونبكي في صمت، ونشكوا لبعضا في همس ونحن نتلفّتْ في خوفٍ وترقُّب بعد أن يُضحَّي أحدُنا ويأخذ زمام المبادرة ويغلق الباب، وفي الغالب تكون رباب لتحمينا كما حدث ذات مرة مع محمد الذي ضبطَتْه خالتو فوزية مُتلبِّساً بقفل الباب فوضعتْ يدها على خاصرتها وهزّتْ رِجْلها اليمنى وحدَّجتْه بنظرةٍ حادة فتجمّد في مكانه ويده على مقبض الباب كتمثال شمع فاستغربتْ رباب وهمستْ له وفي نبرتها حِدّة أن يغلق الباب. وعندما لم يُجِبْها وظلتْ نظراته عالقة بالباب، نهضتْ مستاءة لتغلقه ففوجِئتْ بمشهد خالتو فوزية فصُعِقتْ، ولكنها لم تلبث أن انتبهتْ فأبعدتْ محمد من الباب ودفعتْه لداخل الغرفة بيد وقفلتْ الباب بيدها الأخرى بهدوء وغضبٍ مكتوم لتتقي شر خالتو فوزية. ولكن هيهات، فقد جاءت الأخرى مسرعة وكأنها عقرب ترفع ذيلها لتفرغ سُمَّها الزعاف فينا ودفعتْ الباب برجلها واتجهت نحو محمد وسحبتْه من يده وهي ترعد وتهدد بأنها لن تتركه حتى يمْثُل أمام أبيه ليُعَلِّمه الأدب، فدافعنا عن أخينا بقوة وصار المسكين في المنتصف، كل طرف يشده إليه حتى كاد كتِفا الصبي أن ينخلعا، وعلتْ الأصوات فجاء أبي مسرعاً ليفض النزاع. وعندما سأل عن السبب وبدأتْ زوجتُه تحكي قصة مُلَفَّقَة، لم يتمالك محمد نفسه من الغيظ والخوف فقال دون أن يشعر مدافعاً عن نفسه:
"كذّابة...أنا لم..."
ولم يكمل المسكين، فقد ألْجَمته صفعة أبي القوية فوضع يده على خده وجرى ليندس خلف رباب، وهنا لم يتحمل أبي الموقف فخرج مسرعاً وتَبِعتْه زوجته وخطواتها ترقص فرحاً، وقبل أن تختفي التفتتْ إلينا وابتسامة صفراء تلُوح على شفتيها. وتعانقنا ثلاثتُنا وبكيْنا. ومن وقتها آلت رباب على نفسها أن تحمينا مهما كلّفها ذلك. رجع أبي بعد ساعة ومعه خالتو فوزية لتعتذر لنا وليطلب مِنَّا الاستعداد للخروج لقضاء الليل في الهيئة الملكية والتَّسَوُق.
قد تظنون أني أتحامل على زوجة أبي. كلا، بل هي التي ومِنْ ضربة البداية سدّدَتْ هدفاً قاتلاً في شِباكِ قلوبنا. فبعد شهرين فقط من حضورها أصرّتْ على تغيير كُلّ أثاث بيتنا بحجة أنه قديم ولا يواكب الموضة وكلّفت أبي فوق طاقته. ما ادّخَرَتْه أمي في سنين قضى علاجُها على نصفه في شهور وقضتْ خالتو فوزية على النصف المتبقي في يومين. غيّرتْ كلَّ مافي المنزل ما عدا غرفتنا أنا ورباب وغرفة محمد لأننا رفضنا ذلك بشتى الطرق المقنعة والمُسْتَعْطِفة لأبي من بكاء، وإضراب عن الطعام وعن الحديث معهما، إلخ... وكانت الضربة القاضية حين استجديناه ونحن نبكي واستحلفناه ألا يُبدل أثاث غرفتيْنا لأنه آخر ما بَقِيَ لنا من أُمِّنا.
والآن جاء دورُ الموقف الطّريف الذي وعدتكم بإخباركم به. لو تذكرون أخبرْتُكم أني كنت وما زلتُ (مع بعض التحفظ هنا لتَغَيُّر الظروف وانشغالي) أعشق القراءة مما أوقعني في كثيرٍ من المتاعب خاصة مع أبي ورباب التي كانت تُنصِّب نفسها وصيةً عليّ. أتكتمون السر؟ بيني وبينكم كان ذلك يعجبني. لا أدري لماذا. ربما لإحساسي بأنها تملأ فراغ أمي في نفسي.
سأحكي لكم باختصار الموقف الطريف – من وجهة نظري طبعاً. كنتُ من شدة ولَعِي بالروايات، وفي ذات الوقت لخوفي من توبيخ أبي ورباب لي أدس الكتب وسط كتبي المدرسية. (تضيف ضاحكة وهي ترنو ببصرها بعيداً وكأنها ترى الحدث أمامها): أذكر مرة عندما كنتُ في ثالث ثانوي دسَسْتُ رواية كانت صغيرة الحجم وسط كتاب الرياضيات، وبعد الرصد والمتابعة الدقيقة من رادار رباب التي ارتابت في مذاكرتي حيث لا ورقة ولا قلم، كادت أن تضبطني متلبسة لولا الحظ الذي قرر أن يخدمني في تلك اللحظة، ولكن يبدو أنه قد غَيّر رأيه في آخر دقيقة إذ سقطتْ الرواية على الأرض أمامي، فانحنيتُ بسرعة لألتقطها قبل أن تراها رباب. ولكن ما أن أوشكتْ يدي على التقاطها حتى رأيتها ترتفع لأعلى ببطء، فتابعتُ بنظراتي المتفاجئة القَلِقة اليد المتشبسة بها بنفس سرعتها البطيئة حتى انحنتْ رقبتي للخلف وأصبح وجهي لأعلى لتلتقي عيناي بعيني رباب لتمتزج نظراتُ انتصارها بابتسامتها الساخرة. ربما لن تصدقوني إنْ قلتُ لكم إن رباب لم توبِّخني كما اعتادت وكما توقعتُ، بل وبكل هدوء جلستْ بجواري على طرف السرير ولامَتْنِي، ثم نصَحَتْني بالاهتمام بمذاكرتي من أجل أبي والعهد الذي قطعناه لأمي، وأخذتْ الكتاب وخبّأتْه في الدولاب تحت ملابسها وأنا أتابعها بطَرَف عيني. ومن يومها كثّفتْ عليّ المراقبة. ولكن على مَنْ؟ لم تُفْلح أبداً في ضبطي متلبسة مرةً أخرى من كثرة الحيل التي كنتُ أبتكرها وأتفنن فيها حتى أنّني فكّرتُ مرة في تأليف كتاب عنها واخترتُ له عنوان: (الحِيَل الفنِّيّة في تخْبِئة الكُتب الروائية من الأعين الرادارية). ولِمَعزّتِكم عندي سأكشف لكم بعض هذه الحيل. أحياناً كنتُ أتصنّعُ الذهاب إلى الحمّام وأخبيء الكتاب تحت ملابسي أو وسط المنشفة وأجلس في الحمّام ساعة أو ساعتين أقرأ مستغلةً وجود ثلاثة حمامات في الشقة. وإذا حدث وطرقتْ رباب الباب، أبادرها بسرعة حتى قبل أن أعرف ماذا تريد:
"إذهبي لحمّامٍ آخر. هنالك مليون حمّام في هذا البيت."
في النهاية صِرتُ أستخدم الحمّام الخارجي الذي في غرفة الضيوف حتى لا يزعجني أحد إذ لا يُستخدم إلا نادراً. أحياناً كنت أستغل فرصة تناول الغداء أو العشاء - الذي يجمع كل أفراد الأسرة وتطول الجلسة وتتنوع الأحاديث - فأقرأ وأنا آكل. بالتأكيد لم يعجب هذا التَّصَرُّف ثلاثة من أفراد العائلة أولهم أبي الذي عَلّق عَلَيّ عُدّة مرات تلْميحاً ونبّهني عشرات المرات تصريحاً، ورباب، وأكيد خالتو فوزية. (ضحكتْ، ثم أردفت ضحكتها بـ): "آآآآه، ليت الماضي يعودُ يوماً. ذات مرة كنتُ أقرأ لأجاثا كريستي ونحن نتناول العشاء، ويبدو أن أبي تحدّث إليّ، ولكن لاندماجي مع الرواية لم أسمعه فخطف محمد الكتاب مني وجرى به فصِرتُ أطارده من غرفة إلى غرفة فنهَرَنا أبي بينما أحدثتْ زوجْتُه صوتاً بفمها وهزّتْ رأسها استياءاً، ثم غادرتْ المائدة وهي تقول في غضبٍ ظاهر: "الأدب نِعْمة." ويبدو أن عبارتها هذي لم تعجب أبي إذ نظر إليها بطرف عينه، ثم رجع إلينا ونهرنا مرةً أخرى بحِدّة، وكذلك فعلتْ رباب. ولكننا لم نتوقف، وليتنا فعلنا... فقد أراد محمد وهو يحاول الهروب مني أن يقفز فوق الكنبة التي في الصالة فضرب برِجْلِه الزهرية الزجاجية التي كانت على الطاولة التي بجوار الكنبة فسقطتْ المزهرية المسكينة – التي اشترتها خالتو فوزية من مهرجان الزهور بخمسة وستين (تشدد كلمة ستين) ريالاً كما كانت تقول لنا كلما اقتربنا منها- وتناثرتْ أشلاؤها في المكان. هنا وقف محمد مشدوهاً ينظر إلى أبي بأسفٍ وخوف، بينما صُعِقْتُ أنا، ونهضتْ رباب وهي تشهق وجحظتْ عيناها حتى خِلْتُ أن روحها ستخرج من الرعب، وغطّتْ فمها بيدها وتجمّدت في مكانها كالتمثال. وصاح أبي فينا مُوَبِّخاً:
"أرأيتما ماذا يفعل عدم الاكتراث بكلام الآخرين وعدم سماع نصيحتهم؟"
أما رباب - التي كانت دائماً تُمثِّل دور الأخت الكبرى خاصة بعد وفاة أمي - فقطعاً لم تُفَوِّت فرصة توبيخنا. صراحة؟؟ تُحيِّرني هذه الفتاة عندما تتقمّص هذا الدور - الذي لا أُنْكِر أنها تجيده – وتنسى أنها توأمي وأنها لم تسبقني إلا ببضعِ دقائق، ولكن لا أعتقد أن هذا يمنحها حق الفيتو. لا عليكم. ذهبتْ رباب مستاءةً وأحضرتْ الجاروف والمكنسة وأرادت أن تكنس آثار العدوان الثنائي. طبعاً أحرجني هذا التصرف فذهبتُ إليها وصِرْنا نتجاذب المكنسة حتى حسم أبي النزاع بأمره لرباب:
- "إعْطِها المكنسة. دعيها هي (وصبَّ في الضمير المسكين "هي" جام غضبه وأكمل ذلك بالإشارة إليّ) تلم الشظايا. من يرتكب خطأ يتحمّل عواقبه. أليست هي وذاك الأحمق الصغير السبب في كل هذه الفوضى؟"
ونهض متجهاً إلى المغسلة ليتوضأ لصلاة العصر. أكيد تتساءلون عن موقف فُوز من هذا الأمر.(ثم تُفسِّر ضاحكة): فوز هو اسم الشرف الذي منحناه في ما بعد طائعين مختارين وبكامل قوانا العقلية لخالتو فوزية بعد أن نالت وسام الخدمة الطويلة الممتازة. طبعاً ما أن سمعتْ فوز صوتَ تحطُّم الزجاج حتى جاءت من غُرْفتِها كالتسونامي على الرغم من أنها كانت تشكو منذ الصبح من ألم بركبتها اليسرى. وقفتْ عند مدخل الصالة ووضعتْ يدها على خاصِرتها وزمْجرتْ غاضبة:
"لقد أحس قلبي من البداية أن جَرْيَكم الأهبل هذا ستكون عاقبته كارثة."، ثم أردفت وهي ترجع إلى غُرفتها: "حسْبِي الله ونِعْم الوكيل".
بالطبع لم يَرُد عليها أحد فهي معذورة كما أننا تعَوّدْنا على تصرفاتها هذي. وكانت ردّتْ فِعْلي أن وضعتُ يدي على فمي لأمنع ضحكةً كادت أن تفلتْ مني عندما رأيْتُها بهذا المنظر إذ تذكّرْتُ محمد عندما نشاهد توم آند جيري وتأتي المرأة صاحبة المنزل فيشير إليها ضاحكاً ويُردِّد بنشوة وعفوية:
- "أووأووووو... لقد حضرتْ خالتو فوزية."
أطِلْتُ عليكم الحديث، أليس كذلك؟ (تردف ضاحكة): "لقد حدّثتُكم قبل ذلك عن نفسي وقلت لكم إني أمزح كثيراً، والآن أضيف إلى سيرتي الذاتية وبفخر أني ثرثارة.
قد تستهجنون أو تستغربون كيف يمزح غريقٌ في بحر الحزن حتى أذنيه!!!
نعود لرباب. كانت على النقيض مني تماماً، كانت تتكلم بالقَطَّارَة. كنا متشابهتيْن تماماً في الشكل ومختلفتين كثيراً في الطباع. رباب كانت طباعها تشبه أمي كثيراً، فأمي كانت لا تتحدث كثيراً، وأبي كذلك، ولكنه يُعتبر ثرثاراً إذا قِيس بها، (ثم تضيف بأسى): أمي عليها الرحمة لم تكن ثرثارة ولم تكن تشتكي، حتى عندما أصاب الداء الخبيث ثَدْيَها وتم استئصاله كانت تتألم في صمت. كانت تكتم أنينها حتى لا تُحْزِننا فكان يخرج غصباً عنها. كنا نحس بألمها عندما نرى دموعها التي كانت لا تستطيع حتى أن ترفع يدها التي صارت عظاماً لتمسحها من على خديها اللذين ذهب اكتنازُهما وذبلتْ نضارتُهما. كانت رباب مثل أمي تماماً، عندما تمرض تكتم ألمها، أما أنا... لا داعي أن أحكي.
آآآه. كم أكْرَه صريرَ الأبواب، فهو دائماً يُذَكِّرني أنين أمي ورباب المكتوم. الحمد لله أن عذاب أمي لم يطُل. لم تستمر معاناتُها سوى عام إلا بضعة أيام. سبحان الله. أمي التي كانت تخشى أن تموت أمُها المريضة، ماتت هي وبَقِيَتْ أُمُها. الأَعْمار بيد الله سبحانه.
نسيتُ أن أقول لكم أنه كان لصورة أمي في مُخيِّلتي وهي تتألم دوراً كبيراً في نجاحي في دراسة الطب. ألم يكن السبب في اختراع أديسون للمصباح الكهربائي هو ألَمُ أُمِّه؟
أذكر أنني ذات مرة ذهبتُ لأطمئن عليها. كان باب غرفتها موارباً، رأيتها تقف أمام المرآة وبيدها قلم خطّاط أسْود ترسم به ضفائر على صورة رأسها الأصلع في المرآة. هزّني المشهد. كاد الحزنُ أن يقتلني. إنسحبتُ دون أن تحس بي وانزويتُ في غرفة الضيوف أبكي لوحدي. ومرّتْ الأيام، وذات يوم وجدّتُ في الواتس صورة طفلة ترسم شعراً على رأسها الذي قضى الكيماوي على شَعْره فتذكّرتُ أمي وبكيتُ، وطبعْتُ الصورة وعلّقْتُها قُبالَةَ مدخل الصالة في منزلي. (عضّتْ شفتيها وأغْمَضتْ عينيها علّها تخفف ألآمها. مسَحَتْ بأطراف أصابعها دمعتين حاولتا التسلل إلى خديها وقالتْ): حتى في مرضِها لم يفتر اهتمامُها بنا. كانت تدعونا للجلوس بجوارها بأن تضرب بيدها النحيلة على طرف المرتبة، وعندما خارت قواها لم تستسلم، بل صارت توميء لنا برأسها، ثم صارت تطلب منا ذلك بعينيها حين تنظر إلينا ثم إلى المكان بجوارها. لم نكن نجلس بجوارها إلا بعد أن تطلب منا ذلك. لم تكن تلك قسوة منا، لا. معاذ الله. كنا نخشى أن نهز السرير فنؤلمها. بعد أن نجلس كانت تسألنا بصوتها الواهِن:
"هل أكلتم؟ ماذا أكلتم؟ هل شبعتم؟ أنا آسفة. أعرف أنكم لا تحبون أكل المطاعم. أعذروني."
وتجري دمعتان على خديها الهزيلين، وهذا ما دَفَعَنا أنا ورباب، وحتى أبي، لتعلُّم الطبخ كي نسعدها. صرنا نحاول أن نُسلِّيها بالحديث عن المواقف الطريفة التي تمر بنا عند الطبخ ونحاول أن نضيف بعض البهارات لبعض المواقف لنُضْحِكها، وكانت تجمع قُواها لتبتسم لنا فتخرج ابتسامتها ذابلة رغماً عنها.
أحياناً يلعب الشيطانُ برأسي. في بعض اللحظات يطرق ذهني كلام جَدَّتي "عايدة" عندما رأتْ أمي تلبس السوار ذا العينين المختلفتين. صارحتْها بأنها تشاءمت منه وتحس أنه سيصيبها مكروه بسببه وأصرّتْ عليها أن تبيعه أو تستبدله بآخر. وعَدَتْها أمي بأن تفعل ذلك عندما تحين الفرصة، ولكن شاءت الظروف أن يبقى السوار وتمرض أمي وتفارقنا. أنا لا أتشاءم، ولكن ... أحياناً أسأل نفسي: هل هي فعلاً لعنة السوار؟ ثم أرجع لنفسي وأتعوذ من الشيطان، ثم ... أقصد أنني ... لا أعرف كيف أبرر ذلك. أمي أيضاً كانت لا تتشاءم إلا في حالتين: إذا انكسر شيء مثل كوب، أو طبق أو مزهرية أو إذا عَلَّق أحد على واحدٍ منا. كانت تُحَصِّننا كل صباحٍ ومساء.
أمي ورباب كانتا متشابهتين في كثيرٍ من الأشياء. إشتركتا حتى في كبت الألم من أجلنا. رباب عندما ماتت أمي لم تبكِ رغم حث الجميع وأوّلهم أبي لها بإخراج الحزن من داخلها. إختزنتْ حزنها في داخلها وتظاهرتْ بالقوة من أجلنا. أما أنا فكنتُ أبكي وأُعبِّر عن حزني بأي طريقةٍ دون تفكير.
أتذكرون العهد الذي حدَّثْتُكم عنه والذي عهِدنا روح أمنا عليه؟
إجتمعنا ثلاثتُنا – رباب ومحمد وأنا - في غرفتنا ذات مساء عندما ذهبت خالتو فوزية لتُلبِّي دعوة عشاء عند إحدى صويحباتها السودانيات. أخذها أبي إلى هناك بعد أن عاد من دوامِه الثاني في السادسة مساء وطلبتْ منه أن يعود ليأخذها في الحادية عشرة مساءاً فذكّرها أنه سيذهب لمشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم في بيت عمو نور الدين لأن لديه كرت قناة الجزيرة الرياضية لأن المباريات كانت مشفّرة. وكان محمد قد أصرَّ على أبي أن يأخذه معه ليلعب مع أولاد عمو نور الدين، وبعد لأي استطاع أبي أن يقنعه بحجة أنه يجب عليه أن يبقى معنا ليحرسنا، وقد أثار حماسَه بسؤاله:
"ألستَ الرجل الثاني في البيت؟ ألست خليفتي؟"
فهزَّ الصبي رأسه بفخرٍ واقتنع. أذكر أن محمد كان في اليوم السابق قد طلب من أبي نفس الطلب بالذهاب معه إلى بيت عمو نور الدين ليشاهد المباراة فرفض أبي وقال له:
"أيُعقل يا محمد يا ابني أن آخذك معي كلما كانت هنالك مباراة؟"
فبكى محمد وطلب منه أن يأخذه ليلعب مع الأولاد، فرفض أبي. وعندما ألح وكرر طلبه نهَرَتْه خالتو فوزية التي كانت تتابع المسلسل بضيق وأذنها مع حوارهما وتطلق كل مرة زفرة قوية وبصوتٍ مسموع كناية عن ضجرها، وتتململ في جلستها وتسحب رجليها للأمام تارة وتجُرّهما لتضعهما تحت الكنبة التي تجلس عليها تارةً أخرى بصوتٍ مسموع إعراباً عن تأفُّفِها. وعندما ضاقتْ بالحوار المُمِل في نظرها صاحت في محمد بغضب:
- "إسمع الكلام ولا تكن عنيداً. لقد قال لك أبوك إنه غير مسموح ببقاء الأولاد هناك فكُف عن الإلحاح...، ثم هنا أيضاً يوجد تلفزيون إذا كانت هذي حُجّتُك."
وأشارت إلى الكنبة المقابلة لها وهي تقول بلهجة آمرة:
- "تعال إرْتـَ..." وسرعان ما غيّرت كلمتها مستدركة لأن أبي كان لا يزال واقفاً يلف عمامته على رأسه أمام المرآة التي على حائط الصالة، فقالت وهي تحاول السيطرة على غضبها وترْبت على الكنبة:
- "تعال إجلس هنا وشاهد المسلسل الذي يعجبك."
فرَدّ محمد بعفويته المعتادة: "لا أرغب في مشاهدة أي مسلسل."
فردّتْ عليه بحِدَّة وعينها على التلفزيون: "في سِتِّين. لقد أرحت."
فأجاب محمد بتلقائية: "أنا أريد أن العب، وأنتِ لن تعطينني الريموت ولن تدعيني العب كما تفعلين دائماً."
وقبل أن ترُد عليه تدخّل أبي سائلاً: "محمد... أليس لديك play station؟"
فأجاب محمد بهدوء: "نعم يا بابا." واتجه إلى غرفته في انكسار. فقال أبي وهو يُصْلح وضع عمامته فوق رأسه ودون أن ينظر إلى زوجته: "رِفْقاً بالولد يا فوزية."
فرَدّتْ بعصبية ظاهرة وهي تُغَيِّر القناة في فاصل الإعلانات الذي يتخلل المسلسل:
"لا شيء أفسدهم غير تدليلك لهم."
لم يَرُد عليها بل انحنى وأخذ مفتاح سيارته من فوق التلفزيون وخرج وهو يصفع الباب خلفه، فنهضتْ وخطفتْ ثوبها وأسرعتْ وراءه وهي تصيح:
"إنتظرني. ألم أقل لك إني ذاهبة إلى سامية لكي أودِّعها قبل سفرها لقضاء الإجازة في السودان؟"، ثم أردفتْ وكأنها تُحَدِّثُ نفْسَها:
"محظوظة... كم أحسدها. كل إجازة تسافر إلى السودان ونحن ... إنتظرني ألبس ثوبي. والله أنا مستعدة منذ الساعة الثالثة."
فرَدَّ عليها وهو ينزل السلم ودون أن يلتفت نحوها: "لا وقت لدي الآن. يجب أن أذهب إلى المستشفى قبل انتهاء وقت الزيارة. زميلي الباكستاني، عِرْفان، حدثتك عنه قبل ذلك، أصيب في حادث مرور. سأعود إن شاء الله لآخذك." وأردف بصوتٍ خافت وهو يمر من أمامي: "النَّاس في شنو والحَسَّانِيَّة في شنو!!!"
فرجعتْ أدراجها غاضبة وهي تُقَلِّده بصوتٍ خافت: "لا وقت لدي الآن. يجب أن أذهب إلى المستشفى قبل انتهاء وقت الزيارة. حسناً، قُل لهذه البلهاء التي تنتظرك منذ الثالثة."
ثم دخلتْ المطبخ وخرجتْ تحمل في يدها كوباً فيه شاي أخضر، وجلستْ تتابع مسلسل آخر في قناةٍ أخرى وقد وضعتْ رجلها اليمنى فوق اليسرى والريموت الذي لا يفارقها في يدها اليسرى، وصارت ترتشف الشاي بصوتٍ مسموع وتتناول قليلاً من الفول السوداني قبل كل رشفة.
لكي أكون منصفة، المرأة في رأيي تغيّرتْ كثيراً للأفضل بعد سنة ونصف من قدومها لمنزلنا. ولكن لا يعني ذلك أن الجليد قد ذاب تماماً بيننا في ذلك الوقت. كانت الفجوة بيننا ما تزال موجودة والحرب الباردة مستمرة خاصة وأنها أحياناً كثيرة كانت تتشاجر معنا بسبب أو بدون سبب وتشكونا لأبي. ولا أبالغ إن قلت لكم إننا كنا ندعو الله في كل وقت كي نُقْبل في الجامعة لنتخلص من هذا البيت الذي بِتْنا نحس أحياناً كثيرة بأننا لا ننتمي إليه وأنه آل بوضع اليد إليها.
وقد حَدَث، والتحقنا بجامعة الخرطوم، أنا بكلية الطب ورباب بالاقتصاد. واستأجر أبي لنا شقة عند إحدى قريباتنا. وبحمد الله نجحنا في دراستنا حتى وصلنا السنة الثالثة حيث وقع ما لم يكن بالحسبان. فقد أصابت رباب حُمّى أدخلتها في غيبوبة لعُدّة ساعات، ولكنها استردّتْ عافيتها بفضل الله وواصلنا دراستنا حتى وصلنا السنة الرابعة. كنا نقضي كلَّ الإجازات، إلا إجازة نهاية العام، بين منازل أهل أبي. الكل كان يفرح بقدوم إجازة نهاية العام ويَعُدّ لها الأيام إلا أنا وأختي.
وفجأة وفي نهاية الفصل الدراسي الأول من السنة الرابعة، وكان ذلك عام 2008م، قرر الفرح أن يطرق بابنا. فقد قرّرتْ رباب فجأة وبدون إنذار سابق أن تتزوج. لا، حتى لا أظلمها كان هنالك إنذار، فقد حدّثتني عن أيمن منذ بداية علاقتهما التي تُوِّجت بعد خمسة أشهر فقط بالخطوبة التي أعقبها الزواج بعد ثلاثة أسابيع فقط. كان أيمن قد قَدِم للتو من بريطانيا بعد أن نال الدكتوراه. كان شاباً وسيماً وخلوقاً كما كانت تقول عنه رباب كلما أرادت أن تُذاكر المحاضرات التي كان يُدَرِّسها لهم حتى بِتُّ أشعر وكأني أعرفه شخصياً وصارت لي رغبة قوية في التعرف عليه أو رؤيته، وقد أُتيحتْ لي الفرصة بعد ذلك فوجدتُّه كما وصفَتْه لي. أحسستُ منذ الوهلة الأولى لحديثها عنه أن سهم الحب إخترق قلبها من النظرة الأولى، ولكن حياؤها كان يمنعها من التصريح لي ومن التقرُّب منه، خاصة أنه لم يكن وقتها يُعِرْها اهتماماً زائداً عن بقية طَلَبته.
حتى لا أطيل عليكم أقول لكم إن كل شيء قد حدث بسرعة شديدة وفي وقتٍ قصير، ولم يعترض أحد سوى أن أبي كان يتمنى أن تُكْمِل دراستها أولاً ومع ذلك لم يعترض على الرغم من أنه كان يساند أمي في رأيها أنه لا زواج قبل نيل البكالريوس. وقتها لم نكن ندري لماذا وافق بكل بسهولة. أصرّتْ رباب أن يكون الزواج يوم 31 يناير ليوافق يوم ميلادها مع أنها كانت تعطينا مواعظ عندما نقيم احتفالاً بسيطاً في منزلنا في يوم ميلاد أحدنا. تم الزواج بموافقة الجميع، وكان أجمل زواج شاهدتُه في حياتي، وكان العروسان أجمل عروسين وقعت عيناي عليهما. لا تظنوا أني أقول ذلك لأنها أختي ولأني أحبها. هذه حقيقة شهد بها الجميع. فالكل كان يحكي عن جمال العروسين وعن روعة الزفاف حتى أن "مها" ابنة عمتي سمّتْه زواج ليدي ديانا. الكل التقط معهما الصور، حتى الأطفال كانوا يتنافسون ويبكون من أجل أن يتصوروا معهما. وقد أُحْضر لهما عدد من الهدايا لم أره في حياتي. كانت تسود المكان وقتها روح من السعادة تشعرك بأن كل الناس، بل كل شيء كان ...، لا أدري ماذا أقول، فمهما قلت لن أستطيع نقل الصورة كاملة. فقط ما يمكنني قوله هو أن فرحتي كانت لا توصف. كنت أشعر وكأنه عرسي أنا. لكن لا أخفي عليكم، كان هناك شيءٌ ما في داخلي ينقص عليَّ سعادتي. شيءٌ ما يجعلني أشعر بالاكتئاب فجأة ودون مبرر حتى أن "مها" سألتني عدة مرات: "ما بك؟" وكنتُ أرُد عليها دون اقتناع: "لا شيء." وفي مرة قلت لها لأُسْكِتها: "لا شيء. أنا حزينة فقط لفراق رباب، فأنت تعرفين أنها المرة الأولى التي نفترق فيها، و... و...إلخ." وحاولتْ هي أن تُخفِّف عني. ومما زاد قلقي واكتئابي أنه قفز إلى ذاكرتي فجأة الحلم الذي حكَتْه لي رباب والذي ظل يقلقها لتكراره عدة مرات. كانت ترى نفسها وهي تسير فوق جسر حَجَرِي يربط بين جبلين وفي يدها جوّالها، وفجأة يرن الجوال وبمجرد أن ترفعه لأذنها يطير من يدها ويسقط في قاع الوادي، ولكن ما أن تمد يدها لتمسك بالسياج الحديدي للجسر لتتابع سقوط الجوال حتى تتحول حجارة الجسر إلى لَبِن. أقلقني هذا الحلم لأن تفسيره الذي قرأته كان مزعجاً.
نسّاني تزاحم الأحداث أن أذكر لكم أن مراسيم الزواج قد أُقيمت في منزل جدي لأبي الواقع قُرب النيل في مدينة شندي[3]. وفي الليلة التي سبقت زفاف رباب كنا نجلس (أنا ورباب ومحمد ومها) في الصالة التي تقع أمام الغرفة التي اعتدنا أن ننزل فيها في بيت جدي. جاء أبي ودخل الغرفة وبعد دقائق طلب مِنَّا الدخول. كان يقف أمام دولاب الملابس، وما أن دخلنا حتى أدخل يده تحت ملابسه التي كانت في الرف العلوي وأخرج العلبة التي كانت تضع فيها أمي حُلِيّها، ثم جلس على السرير الخشبي العالي المنسوج بحبال البلاستيك الملونة (العنقريب) وضرب طرف السرير بيمينه قائلاً: "تعالوا... إجلسوا هنا جواري."
وما أن جلسنا حتى أخرج من العلبة سواري أمي المتشابهين، من الذهب عيار 21، في شكل ثعبانين، وكانت عينا أحدهما ياقوتتين حمراوين صغيرتين مستديرتين، وكان الآخر بعينٍ واحدة حمراء والأخرى خضراء إذ كانت الياقوتة الحمراء الثانية قد سقطتْ ولم تدرِ أمي أين سقطت ومتى، ولشدة حبها للسوارين رفضت استبدالهما. وعندما سافرنا في الإجازة إلى مصر، أخذتْهُم لأحد الصياغ، ثم ذهبنا نتسوّق. ولكن عندما رجعنا وجدتْه قد وضع ياقوتة خضراء فأصبحت عينا الثعبان مختلفتين، واحدة حمراء والأخرى خضراء. غضبتْ أمي ورفضتْ أخذه وطالبته بخلعها وإرجاعه كما كان فأقنعها أبي بأخذه ليختصر الأمر وقال وهو يناولها السوار ويضحك من تبرير الصائغ:
"يا سِتِّي أُخُدِيه. الزول قال ليك دي الموضة، كل عين من بلد."
فأخذتْه منه ورَمَتْه في حقيبة يدها وهي تقول: "بلا موضة بلا نِيلة."
وخرجتْ من المحل كالريح وركبتْ السيارة ونحن خلفها نكتم ضحكاتنا، وطلبتْ من أبي أن يعود بنا إلى المنزل لأنها فقدت الرغبة في التسوق، فقال لها مازحاً ليخفف من ثورتها:
"حد يكره يكون عنده سوار مهجّن، عيونه ماخده لون من أمه ولون من أبوه العينو حَمْرَة وشرارة؟" فكان ردُّها أن طلبتْ منه الرجوع إلى محل الذهب لتبيع السوار لأنها كرهته، ولم تتراجع عن رأيها إلا بعد أن وعدها أبي باستبدالهما في المستقبل. المهم، رفع أبي السواريْن وهو يسألنا: "ما هذان؟" فرددنا نحن الثلاثة بصوتٍ واحد وكأننا تلاميذ في الصف الأول ابتدائي: "سوارا أمي عليها رحمة الله."
فهز رأسه مؤكداً، ثم أردف بعد أن ترحّم عليها:
"أتذكرون؟ كانت أمكم كلما أرادتْ أن تلبسهما تنظر إليهما ثم إليكما وتكرر عبارتها المعتادة..."
فأكملت رباب:
"إن شاء الله لما تِتْخرّجوا وتتزوجوا ألَبِّس كل واحدة منكم واحد، ثم تضيف ضاحكة وهي تشير إلينا بسبابتها محذرة: "بَسْ ..."
فقاطعتُها أنا مكملة: "أوعى أسمع واحدة تقول عايزه هدية تاني معاهم."
ثم ترددتْ في الغرفة أصواتُنا: "الله يرحمها."
ناول أبي رباب سواراً وقال وهو يحاول جاهداً التغلب على دموعه ويتكلّف الابتسام: "هأنا ذا أسَلِّمك الأمانة رغم عدم التزامك بشرط التخرُّج الذي كانت أمك..."
وانفجر باكياً فالتففنا حوله وصِرْنا نتنافس في مسح دموعه، ثم استخدمتُ أسلوبي الهزلي لتلطيف الجو فقلت له وأنا أتصنع الغضب:
"”It’s unfair. بعض الناس يشترون لهم ذهباً بآلآف الريالات للزواج وفوق ذلك يعطونهم سواراً هدية، وآخرون لا زواج ولا ذهب ولا حتى سواراً. يا لك من مسكينة يا آنسة رحاب. ألم أقل لكم إن الدنيا حظوظ؟"
فضحكوا رغماً عنهم وناولني أبي السوار الآخر الذي كان يحمله في يده وهو يقول ضاحكاً:
"خذي يا شحّاذة. دائماً تتعجلين الأمور. لو صبرتي لأتاك رزقك في مكانك."
فخطفتُ منه السوار متعمدة ولبسته في معصمي وأنا أقول: "أصبر؟ ولو طار؟ الرزق يحب الخِفِّيّة يا بيه."، ثم ناولتُه السوار قائلة: "خذه. أنا أمزح معك. لا حاجة لي به الآن."
فضربني على كتفي بحنان وهو ينهض، ثم قال:
"خذيه فهو لك."
قلت له مازحة: "مستعجل على إيه؟ خَلِّيه معاك. الله يحيينا لما اتزوج بعد عُمْرٍ طويل."
ولكنه رفض أن يأخذه وأضاف وهو يغادر الغرفة: "خذيه. أريد أن أبريء ذمتي. إحتفظي به حتى تتزوجين."، ثم رفع كفيه داعياً:" يا رب عَجِّل بزواجها."
وقبل أن أكمل والحاضرين كلمة "آميييييين" التي مطّيْناها طويلة حتى أردف هو:
"وأرِحْنِي منها وصَبِّر ابن الناس المسكين الذي ..."
فانفجر الجميع ضاحكين، ثم قلتُ له وأنا أضحك:
"كده برضو يا بابا؟ تشمِّتهم فيّ؟ طيييب. الأيام بيننا".
وقبل أن يخرج أبي طلبتُ منه أن يُلبس رباب السوار فانحنى بسرعة وكأنه كان ينتظر أن يطلب منه أحدٌ ذلك ووضع السوار حول معصمها دون أن ينبس بحرف. لم ينتبه أبي ولا أنا ولا أحد من الحاضرين إلى أنه البسها السوار ذا العينين المختلفتين، وأعطاني الآخر الذي أخذتُه منه بعد أن شكرته وقبّلتُ رأسه، ثم ناولتُه إلى مها دون أن أنظر إليه لتضعه في حقيبة يدها. ولم أنتبه إلى أن أبي قد أعطى رباب السوار الخطأ إلا في طريق عودتنا إلى المنزل بعد سفر العروسين حين ناولتني مها السوار طالبةً مني أن ألبسه.
في صبيحة يوم الزواج أو ما نُسَمِّيه في السودان (الصُّبْحِيَّة) تناول العروسان الفطور باكراً، عند الثامنة تقريباً على غير العادة تحت إصرار الأهل ألا يسافرا دون أن يتناولا شيئاً من لحم الخروف الذي ذُبِح باكراً وبعض أصناف الطعام التي تُعَد في مثل هذه المناسبة. الخلاصة، بعد أن تناول العروسان وجبة سريعة مع أهل أيمن و(تَجَرْتَقا) [4] إرضاءً للكبار الذين أصروا على تطبيق كل العادات والتقاليد، ركبا سيارة عمر يوسف التي كانت في أبهى حُلّة منذ ليلة الزفاف وتبعتْهما سيارة طارق أخ أيمن وفيها أهله في طريقهم إلى مدني، وحافلة تضم موكباً كبيراً (سِيرة) من الأهل والجيران من بينهم أبي، أخي محمد، وبالتأكيد شخصي ملح الطعام، وإثنان من عمّاتي وخالتي منيرة وخالي عمرو - اللذان حضرا من الإسكندرية للزواج - وأعمامي تصحبهم بعضُ بناتهم وأولادهم الشباب ومجموعة - جُلُّها من الشباب والشابات - من أقربائنا الآخرين وأقرباء العريس والجيران. كان الجميع شِيباً وشباباً يغنون ويُطَبِّلون ويزغردون ويبشِّرون.[5] وكلُّ من يقابلنا يُبشِّر.
عَلّقتْ مها على وجود سبعة أو ثمانية من الرجال والنساء فوق سن السبعين ذهبوا معنا إلى محطة البص وهذا شيءٌ غير معهود. فقد أصرّ جدي على الذهاب وقال إن رباب يتيمة ويريدها أن تحس أن كل الناس تشاركها الفرحة، ولم يستطع أحد أن يثنيه عن رأيه، حتى العروسان، ورضخ له الجميع فأصَرّ ثلاثة من أصحابه على مرافقته. وأستفادت من هذه الرخصة الاستثنائية حاجة رُقيَّة جارة جدتي فأسرعت لحجز مكانها في الحافلة، وتبعتها حاجة مريم وهي تجُرُّ رجلها اليسرى، ثم لَحِقَتْ بهما حبوبة فاطمة بعد تردد وهي تتوكأ على عصاها وتتلفتْ وكأنها تخشى أن ينتبه إليها أحد فيطلب منها الرجوع. أذكر أن عمر يوسف كان يمزح مع جدي ونحن في محطة البص فقال له:
"فاجأتنا يا جدي. أول مرَّة في حياتك تذهب لوداع عروسين."، ثم أضاف وهو يضع يده خلف إذنه وينحني أمام جدي ويسأله وهو يخفض صوته متعمِّداً: "سِرّك في بئر يا حاج. قل لي لماذا؟ أجئتَ تبحث عن عروس؟ قل لي، فلن أخبر جدتي."
فضج الحاضرون بالضحك بينما رفع جدي عصاه وكأنه سيضربه فجرى عمر يوسف من أمامه، بعدها بقليل استأذن لكي يذهب إلى السوق لارتباطه بموعد مع صاحب بضاعة. قال ذلك وقد رفع صوته قليلاً ونظر نظرةً خاطفة إلى مها التي رنَتْ إليه باستحياء، ولكني ضبَطْتُّها بعد ذلك متلبسة بمتابعة سيارته ببصرها حتى ابتعدت لدرجة أنها لم تسمعني وأنا أسألها عن البرنامج بعد رجوعنا إلى المنزل.
تذكّرتُ شيئاً. في طريقنا إلى محطة البص صادفنا حادث، سيارتان اصطدمتا ببعضهما والتف الناسُ حولهما. توقّفتْ حافلتنا فنزل الرجال وقفز بعضُ الشباب، وقبل أن ينزل الباقون طلب منهم الحاضرون الاستمرار في سيرهم إذ لم يُصبْ أحد بأذى. سِرْنا، ولكننا كنا نلتفتُ وراءنا لمكان الحادث ونُعلِّق على الدمار الذي لحق بالسيارتين ونحمد الله على نجاة الركاب فمنَعَنا جدي من الالتفات إلى الوراء وقال لنا إن هذا نذير شؤم.
كان العروسان ذاهبين إلى الخرطوم بالبص ومن هناك سيستقلان الطائرة إلى أديس أبابا لقضاء شهر العسل. ذهب أبي وحجز لهما تذكرتين في أحد البصات، ولكن ولسوء الحظ - أو ربما كان سيكون لحسنه لا أدري - لم يكن بالبص وقتها غير ثلاثة أشخاص فقط مما جعلنا ننتظر قرابة الساعتين ولم يكتمل العدد. ولم يكن الوقت في صالح العروسين إذ أن من المفترض أن تُقْلِع الطائرة في الثالثة ظهراً مما اضطر أيمن أن يحلف على كل من حضر معهم أن يرجع ولا ينتظرهما. وعندما أصررتُ وبعضُ قريباتي على البقاء، قالت لنا رباب مازحة:
"هيا يا بنات، إرجعن إلى البيت وعُدْنَ إلى عملكن. أنا أعرف أنكن هاربات من تجهيز فطور العريس." [6]
فضحكنا. وهنا تدخّلتْ عمّتي خالدة أو (جنابو أو جناب المدير) كما يناديها عمر يوسف، وهي بالفعل مديرة مدرسة أساس لذا تجدها دائماً في حالة أمر ونهي، وكما كانت تقول أمي: "يموت الزمّار وصوابعه بتِلْعب". تدخّلتْ عمتي وقالت بنبرة يشوبها النقد: "هذا حالهن، يتهرّبن من العمل، لكن عند الذهاب إلى بيت أهل العريس يسرعن إلى التأنُّق ويسبقننا إلى السيارة."
فَرَدّتْ عليها ابنتها مها ضاحكة:
"أدُّوُنا فُرصة يا عاَلم نشوف نصيبنا. خلُّونا نشم الهواء شوية."
بينما ردّتْ وئام إبنة عمتي زكية وأخت عمر يوسف:
"يا للحسرة، لن يكون هنالك فطور عريس، فهاهم أهل العريس في سيارتهم وسينطلقون في أي لحظة. الحظ النحس."، ثم همست في أذن مها: " لو يقعد طارق."
فقالت لها مها ضاحكة وهي تلتفتْ ناحية طارق:
"يا عبيطة رَبِّطِي معاه. مهندس قدر الدنيا."
فرَدّتْ وئام بحسرة مصطنعة وهي تشير بذقنها إلى أخيها: "بي وين مع الأسد النَّتَر دا؟ لو عرف يقطع رقبتي."، ثم أضافت وهي تنظر إلى مها نظرة ذات مَغْزَى:
"حلال عليهم وحرام على غيرهم."
فابتسمتْ مها بحياء ووجدّتُّها أنا فرصة فضحكتُ حتى سالت دموعي.
انتظرنا قرابة الساعة. ولكي لا نشعر بالملل بدأنا نمزح ونقول نكاتاً معظمها أخذ 360 درجة دوران في الواتس، وفجأة اقترح طارق أن يلتقط لنا صورة جماعية مع العروسين فصفّق البعض وهتف آخرون وتدافع الشباب ليحجزوا أماكنهم في الصف الثالث بعد أن تركوا الصفين الأول والثاني للعروسين والكبار.
عندما طال الانتظار واسْتَنْفَدْنا ما لدينا من حِيَل لقتل الوقت المسكين، طلب والدي من رباب أن تودِّع الحضور وتركب البص، فبدأتْ باحتضان النساء الكبيرات أولاً، ثم اتجهت إلى البنات، وفجأة صاحت: "آآآآخ." وقبضتْ مرفقها، فسألتْها عمتي زكية مشفقة:
"ما بك؟"
فضحكتْ وقالت: "لقد قرصتْنِي وئام في مرفقي."
وقبل أن يُعَلِّق أحد قالت وئام ضاحكة وهي تشير إلى مها: "دي مها. قالت لي أقْرُصيها في كوعها تحصِّلِيها في سبُوعها."
فضحكتْ الحاضرات. الحمد لله أن معشر الرجال كانوا مشغولين بحديثٍ آخر. وهزّت عمتي خالدة رأسها، ومطّتْ شفتيها، وأصدرت صوتاً بفمها ينم عن الاستياء، ثم قالت:
"مها ضُل الدوم البِضُل بعيد. بدل تقول لك أقرصيها ما تقرصها هي عشان تحصلها في سبوعها. وللا هي راهبة؟"
فرَدّتْ مها على أمها وهي تغطي وجهها بطرف طرحتها: "مافي داعي للإحراج يا حاجّه."
فضحك الجميع واتجهتْ رباب إلى البص وهي تضحك. إلتفتتْ عمّتي زكية إلى مها وقالت ضاحكة:
"مالِك ما قرصتيها في رُكْبتها عشان تحصِّلِيها في جُمْعتها؟"
فضحكنا دون تعليق إلا وئام أبت نفْسُها إلا أن تفتح علينا نيران عمّتي خالدة فقالت تمازح أمها:
"يااا سلام. الحاجَّة مواكبة، متابعة المسلسلات تمام، لو كان ..."
وقبل أن تُكْمِل جُمْلتها أرسلت عمتي خالدة صاروخاً أرض – جو أخرصها، إذ نظرتْ إليها وقالت وهي تهز رأسها:
"الحاجَّة؟ لا أمي ولا أبوي ولا خالتي ولا عمي. كُلُّه راح وبقى عندكم خالو وعمو والحاج والحاجّة والعجوز والجلك والجلكين وما بعرف شنو. حتى الكلام دا زاتو غيّرْتُوه بالراندوك حقّكم دا وللا إسمه شنو ما بعرف. الله يهديكم."
فضحكتْ عمتي زكية وهي تسألها: "والراندوك دا شنو كمان؟ وجِبْتِيها من وين؟"
فرَدَّتْ عليها: "تصدقي قالها لي وِلِيد صِغَيّر في سنة أولى!!! قلت لطالب أجري جيب لي نَضّارتي من المكتب، بسرعة ردّ علي واحد: "لا...لا...لا يا أستاذة ما ترَسِّلِي دَقْسة، دا لبُكْرة ما يجيك. رسِّلِي فيسبا. دا مِرَكِّب كرونة كلب. سألته يقصد شنو قال لي يعني زول جرّاي وسريع. هزِّيت رأسي وقلت له: دي لغة جديدة كمان؟ نطّ زميله وقال لي: دي الراندوك يا أستاذة. وطبعاً إتبسطوا آخر انبساط لمّا لِقُوا إيدهم فيني وبدأوا يشرحوا لي في القاموس الراندوكي العجيب."
فضحكنا وقالت عمتي زكية مازحة: "أحسن لك، مستمتعة بالونسة مع العيال والبراءة، مش زيي طول النهار في المكتب وسط الملفات لما نظري ضِعف."
فقالت عمتي خالدة بحسرة ظاهرة: "براءة؟ خلِّيهم يكبروا. تشوفي منهم المِحَن إلا مَنْ رَحِم ربي." أحسستُ بعمتي زكية تحاول تغيير دفة الحديث فواصلتْ: "يا ريت لو سمعت كلامك واشتغلت معلمة."
فانتهزت عمتي خالدة الفرصة كالمعتاد وأعطتها درس في عواقب عدم الاستماع لنصائح الكبار. مسكينة عمتي زكية، حتى وئام ابنتها استغلت الفرصة وذكّرتها بأن نزاهتها - التي في غير محلها كما قالت – هي السبب في عدم امتلاكهم بيتاً وانتقالهم من منزل مستأجَر إلى آخر مع أنها تعمل في مكتب الأراضي من قبل أن تولد هي. فكان رد عمتي زكية هادئاً كطبعها: "الأعمال بخواتيمها. في الآخر وبحمد الله حصلنا على قطعة أرض تطل على شارعين وفي أحسن مكان، وبيتنا أوشك أن يكتمل. الصابرات روابح."، ثم أضافت وهي تنظر إليها بمغزى لم أفهمه: "من مالنا... حلالنا." بدا لي أن وئام سئمت الخوض في هذا الموضوع وحاولت أن تُغَيِّر مجرى الحديث فالتفتتْ إلى خالتها وقالت لها ضاحكة وهي تَعْلَم أن طائرات F16 ستمطرها بوابل من قذائفها: "يا حا... يا خالتي، ما رأيك في السمّاعات اللي في الإضنين 24 ساعة؟" ولمّا لم تَرُد عليها خالتها واصلتْ حديثها: "والغناء الأجنبي ... و... والرقيص... ما رأيك في رقيص العِرْسان؟"
رَمَتْها عمتي بنظرة حارقة سريعة، وحرّكتْ شفتيها، ثم غيّرت رأيها فتدخّلتْ مها لتوقف اندلاع الحرب العالمية الثالثة، فهي تعرف أمها، هذا الهدوء سيأتي بعده إعصار التَّيفون وقالت لوئام وهي ترميها بنظرة تعني كُفِّي عن الحديث:
"الفتّنةُ نائمة. بقيتي فتّانة."
بسرعة ردّت وئام ضاكة: "منكم نستفيد."
فقالت مها ونبْرتها لا تخلو من ضجر:
"بقيتي برّاية يا وئام. ياخ اختصري خلَّينا نتفكفك."
فحَدَّجتها أُمُها بنظرةٍ أفضل منها الصفعة، ثم هزّت رأسها وهي تقول:
"جِيل غريب. الله يحَضِّرْنا زمانكم."
نظرتْ مها إلى وئام بطرف عينها معاتبة فكتمتْ وئام ضحكة كادت أن تفلت من فمها فتقضي علينا جميعاً بقذيفة أخلاق أخرى. وليْتها ضحكتْ وأراحت نفسها فنحن في كل الأحوال لم نسْلَم من رسائل عمتي خالدة التي بدأت ترسل انتقاداتها في كل نواحي حياتنا التي لا تعجبها. لم تترك حتى البيتزا والهوت دوغ ولا الدِّجاج المسكين. وقبل أن تُعرِّج على نقدٍ آخر جاء الفرج. هي في الحقيقة كانت ستكون كارثة لولا أن عمتي خالدة قررتْ في ما يبدو ألا تُعَلِّق على ما حدث حتى لا تُفْقع مرارتُها ويرتفع السكر لديها كما كانت تقول دائماً. فبينما هي تكيل النقد لكل ما لا يعجبها من تصرفات شباب هذه الأيام سمعنا صياح امرأة:
"وائل، تعال، أرجع، يرجع فيك مُدفع. تعال شيل كيس الوسخ دا أرميه في البرميل، يشيلك الله يا عنيد."
التفتْنا، وليس وحدنا كما أظن، فإذا امرأة تقف عند باب منزلها، وتحمل في يدها كيساً أسوداً كبيراً وتغطي رأسها بطرف ثوبها الذي سقط نصفه على الأرض وبدا نصفُ فستانها من تحته، يبدو أنها خرجتْ على عجل لتلحق بوائل الهناء الذي كان قد وصل زاوية الشارع وأوشك أن يدخل في الشارع الثاني، ولكن مايكروفون أمه جعله يرجع على مضض وهو ينفض يديه ويضرب برجليه على الأرض. دوَّت كوابح سيارة بقوة. دوّتْ صرخةُ المرأة:
"وااائل."، ولكنها لم تلبث أن أردفتها بـ: "الحمممد لله."
أخذ وائل الكيس منها، وليته لم يفعل، فمبجرد أن قفلتْ أمُه الباب ودار هو بِلَفَّة الشارع المقابل حتى رمى الكيس في منتصف الشارع وواصل سيره وكأن شيئاً لم يكن. وقبل أن يتمدد الكيس على الأرض جاءت سيارة صغيرة حمراء مسرعة ودهستْ المسكين فبعجتْ بطنَه وتشتت امعاؤه لتملأ الشارع، وجاء الهواءُ جَذِلاً وصار يلعب ببعض مصارِينه الخفيفة الوزن من ورقٍ وأكياس. وقبل أن تُسنح لنا فرصة للتعليق فُتح ذلك الباب مرةً أخرى ومدّتْ أم وائل رأسها لتقول لابنتها ذات السبعة أو الثمانية أعوام التي كانت تكنس الساحة التي أمام الباب وتسحب الأوساخ أمامها على طول المساحة التي تقوم بتنظيفها:
"ولاء... خلاص كفاه الشارع دا. تعالي غسِّلي عِدّة الفطور."
ردّتْ ولاء التي كانت لا تزال منحنية تكنس: "دقيقة يا أمي ألِم الوسخ كوم واحد عشان أشيلو." فانتهرتها أمُّها: "خلِّيهو. من متين بِنْلِم وسخ الشارع؟ خليهو، بيشيلو الهواء."
لم تُعَلِّق ولا واحدة منا. لا أدري لماذا، ربما من هول الموقف، أو ربما كنا ننتظر عمتي خالدة لتقود التعليق كعادتها. لكن لدهشتي لم تنبس عمتي خالدة ببنت شفة، بل تابعتْ الموقف بوجهٍ مُتَحَجِّر، خالٍ من أي تعبير، أو ربما اختلطتْ التعابير فتَولَّدَ عنه هذا التّحَجُّر. فجأة قفز من فمي تعليقٌ جاء متأخراً بضع دقائق. هل المسافة بين أذني ولساني بعيدة لهذه الدرجة؟! وجدتُ نفسي أقول:
"بيشيلو الهواء!!! كيف يعني؟!! الهواء عربية زبالة وللا عُمَّال نضافة؟؟!!!"
وهنا التفتتْ إليَّ عمتي خالدة فجأة وبقوة وكأن أحداً لوى عنقها تجاهي. شعرتُ أنها كانت تريد أن تقول شيئاً، ولكنها غيّرتْ رأيها في آخر ثانية. لماذا؟ لست أدري. ربما ألْجمها الإحباط، ربما شعرتْ أنها تُغرِّد خارج السِّرْب، ربما شعرتْ أنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، ربما...وربما... أحسستُ بها وكأنها تريد أن تقول:
"لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً ولكن لا حياةَ لِمَنْ تنادي
ولو نارٌ نفختَ بها أضاءت ولكن أنت تنفخُ في رمادِ"
لم تنطق بكلمة، بل نظرتْ إليَّ وقد ضاقت عينُها اليسرى وكأنها تفكر بعيداً. إزدردتْ رِيقَها بقوة وكأنها تحاول أن تُنزِل شيئاً عَلِق بحلقها حتى رأيتُ خِمارَها، الذي يُغطِّي نصفَ وجْهِها، يتحرك من فوق رقبتها، ثم ارتفع كتفاها وصدْرُها وأطلقتْ زفرةً خُيِّل إليَ أن حرارتها ستلْسع وجهي، وبحركة لا إرادية رفعتُ يدي أتّقِيها. حقيقةً شعرتُ بمعاناة عمتي فعطفتُ عليها وقررتُ غسل ما حدث من ذهنها بفتح موضوعٍ بعيد عنه، فالتفتُّ إلى مها وقلت لها:
"ما رأيك في الذهاب لمؤانسة رباب قليلاً؟"
ولكن مها لم تَرُد، حتى لا أظلمها هي لم تتعمّد ذلك، بل لم تسمعني أصلاً لأنها كانت تضع سماعات جوالها على أذنيها كعادتها. لكَزْتُها، فنظرتْ إلىَّ ورفعتْ كتفيها بمعنى ماذا هنالك؟ وقبل أن أتفوّه بكلمة صبّت عليها أمُّها كُلَّ كبت الموقف السابق، وقالت:
"مااا بتسـْ .... مَعِك، ما بتسمعك..."، ثم أضافتْ وهي ترفع بيُسْرَاها طرحة مها على رأسها: "مائة مرّة قلت لك لا تدعي الطرحة تنحسر عن رأسك في الشارع. غَطِّي شعرك. طِرَحكُم مثل عدمها، الواحدة رُبع متر وشفّافة وفوق ذلك لا تستقر على رؤوسكن."
بسرعة نزعتْ مها السماعة من أذنيها وأصلحتْ وضع طَرْحَتِها على رأسها، ونزعتُ أنا دبُّوساً من طرحتي وناولتها إياه فثبتتْ به طرحتها. حاولتْ عمتي زكية أن تُلَطِّف الجو فقالت ضاحكة:
"الطرحة دي ما عرفتي إسمها يا بتاعت الراندوك؟ دي بِيسَمُّوها من أجل أبي."
الغريب في الأمر أن عمّتي خالدة لم تشارك في الحديث ولو بإيماءة رغم أن تنَقُّل عينيها اللتين ضاقتا من متحدثة لأخرى يدل على متابعتها الدقيقة. يا تُرى ماذا يعتمل بداخلك أيتها المديرة؟ وددتُ لو أسألها، ولكن قبل أن أقرر قالت عمتي زكية:
"صدقتْ خالدة. أحياناً طِرَحكن مثل قِلَّتها."
فقالت لها مها مداعبة: "ومع ذلك نحن أحسن منكن، على الأقل نحن نربط شَعَرْنا بقطعة، أنتن كنتن تلبسن الثوب من غير أن تربطن شعركن، وكان معظم فساتينكن ..."، ثم التفتت إلى أمها وضحكتْ وهي تقول :"أتذكّري يا أمي صورتكن الجماعية وأنتن في الكُلِّية التي وجدناها عندما كنا نرتِّب المخزن؟"
بسرعة وبثقة كبيرة ردّت عليها أُمُّها: "ما بها صورتنا؟ شعرنا مكشوف أم...؟ الأفضل أن تدعيني صامتة ولا تفتحي هذا الباب."
فتدخّلتْ وئام في محاولة منها لتُطفيء النار التي أشْعلَتْها وقالت وهي تقهقه:
"نحن اليوم سنُشكِّل مجلس تحقيق في ماضي كل الإخوة الصعايدة وسنعقد جلسة استماع مع جدتي وجدِّي ونطلب إنزال كل الملفات القديمة من الرف وفتحها لنرى ماذا كان يفعل أبي وعمي وأمي وخالتي وبقية العقد الفريد. وهل كانت تصرفاتهم كلها تعجب أهلهم أم كانوا كانوا يقولون لهم ..." وهنا قلّدَتْ عمتي خالدة: "جِيل غريب. الله يحضِّرْنا زمانكم... دعونا نعود إلى البيت وساعتها..."
عمتي خالدة طبعاً المرأة الحديدية التي لا تُقهر، بسرعة التقطتْ الكُرة ورمتها في مرمى وئام وقالت لها:
"ولماذا تنتظرين حتى تعودين إلى البيت؟"، ثم أشارت إلى جدي بجوّالها "ربيكا" الذي لا يفارق يدها وهي تقول:
"ذاك جدك. إذهبي واسأليه الآن."
حسماً للنقاش اقترحتُ على مها ووئام أن نذهب لنتسامر مع رباب قليلاً. وذهبنا ونقرْتُ لها زجاج النافذة فالتفتتْ إلينا وعندما رأتنا ابتسمتْ وألصقتْ وجهها بزجاج النافذة وهي تضحك. ومازحناها قليلاً ثم عُدنا إلى عمّاتي. طَرَقْنا أبواب كل مواضيع الدنيا. لم نترك بابَ سلوكٍ ولا تربية ولا أكل ولا شرب ولا مكياج ولا رياضة ولا سياسة إلا طرقناه. ومضى الوقت، ولكن ما زال البص واقفاً في مكانه لم يتحرَّك شبراً وما زالت هنالك بعض المقاعد الشاغرة. وفي النهاية ولإلحاح أيمن وتصميمه ذهب الجميع إلا أنا وأبي ومها. وبقي العروسان في البص قرابة الساعة، ولم يتحرك البص رغم صياح بعض الركاب وإلحاح البعض الآخر وتضرُّعهم إلى السائق بأن يتحرك مُعَدِّدِين أسباب استعجالهم من مستشفى إلى محكمة، إلى دائرة حكومية، إلخ ... ولكن كل تلك الأعذار والمفاوضات لم تُجدِ، فقد أصر السائق على اكتمال العدد. وعندما سئم من جدالهم أوقف الماكينة، وقام من مقعده، مدَّ رأسه من النافذة ورمى سُفَّة السعوط[7] من فمه وحرّك لسانه داخل شفته السفلى ليغسل آثار السعوط وتفل من النافذة، ثم وقف في مقدمة البص وعقد حاجبيه وأرجع طاقيته - التي كانت في أيام شبابها بيضاء – إلى مؤخرة رأسه وزمجر غاضباً:
"من يريد أن يتحرك البص دون أن يكتمل العدد فليدفع لي ثمن تذاكر المقاعد الخمسة المتبقية."
وهنا ساد الصمت لبرهة. كم أنت جبّار أيها السائق!!! سكنتْ الأصواتُ لوهلة لتعلو الهمهمة ويعود الاحتجاج مرةً أخرى. عندما تأزّم الموقف وطال الانتظار اضطر أبي أن يرضخ لرجاء أيمن وعُدْنا إلى البيت وتركناهما. بعد نحو ساعة وربع اتصل أيمن بأبي ليخبره أنهم أرجعوا التذاكر وتركوا البص واستأجروا حافلة صغيرة مع مجموعة من الرجال من بينهم رجل معه زوجته وطفلاه.
ظل أيمن ورباب على اتصال بنا وبأهل أيمن طوال الطريق إلى وادي العروس[8] أي ما يقرب من الساعة. كانا يحكيان لنا كل خطوة في رحلتهم. حكى لنا أيمن وهو يقهقه كيف أصرّتْ المرأة على رباب أن تضع طفْلَيْها بالتناوب على حِجْرها تفاؤلاً علّ الله يرزقها بتوأم فوضعتْ رباب الولد على حِجْرها وقالت لها ضاحكة: "ياااا دي التوأم." وأخبرتها أنها هي نفسها توأم وحكتْ لها عن أمي وإخوتها، ولم تنس أن تخبرها أن جدتي قد قامت بتلك الطقوس ضمن الجرتق. وأرسل لنا أيمن صورة رباب وهي تحمل الطفل. وظلا هكذا طوال الطريق، يضحكان ويمزحان بسعادة لا نهائية.
وفجأة انقطع اتصالهما لأكثر من ساعة. في البداية لم نقلق. ظننا أنهما ناما من الإجهاد والسهر في الحفلات التي أقامها أهلي وأهل أيمن وأصحابه والتي استمرت عدة ليالٍ أو أنهما ملّا كثرة الكلام، أو ... وغيرها من الأسباب. لكن بعد مرور حوالي ساعتين، قلِق أبي فاتصل برباب، ظل هاتفها يرن دون أن تجيب حتى انتهى الاتصال وظهرتْ على شاشة هاتفه رسالة تقول (لا يوجد رد) فاتصل على أيمن فَرَنّ هاتفُه كذلك وأيضاً (لا يوجد رد). كرّر أبي الاتصال بهما عدة مرات وفي كل مرة يأتيه رنين الهاتفين و(لا يوجد رد). لما زاد قلقُه أخذ هاتفه وخرج للشارع وكأن اتساع الشارع سيوسع شبكة الهاتف فيتلقّى رداً. إنتشرتْ عدْوَى القلق سريعاً بيننا. الكُل حمل هاتفه وصار يتصل، لو رأيتنا لظننتَ نفسك في كابينة اتصالات. تداخلتْ الأفكار وتشابكتْ الخطوط: (الهاتف المطلوب لا يمكن الوصول إليه حاليّاً... الهاتف المطلوب خارج نطاق الخدمة...) تيت... تيت ... تخبرك بأن الخط مشغول ... رنينٌ متصل تارةً ومتقطِّع أخرى... مضتْ ساعة وتلتها أخرى وأوشكت الثالثة أن تلحق بهما. قال أبي مرة وهو قادمٌ من الخارج:
"لآآآآ. هؤلاء ليسوا نياماً. لو كان غُولاً نائماً لأيْقظه هذا الرنين المتواصل. هب أنهما نائمان، هل مَنْ معهما بالسيارة نيامٌ أيضاً، حتى السائق؟"
وكلمة من خالتي، وعبارة من عمتي، وتعليق من هذا، ونظرة من ذاك. ولكُم أن تتخيلوا مدى القلق والتَّوتُّر والهلع الذي أصابنا. جالتْ كثيرٌ من الأفكار السوداء برؤوسنا، وتضاربتْ الآمال والمخاوف. قالت مها وهي تحاول أن تُطَمْئن نفسها قبل أن تطمئننا:
"يا جماعة تفاءلوا بالخير تجدوه."
فردّت أمها وقد طفرتْ دمعة من عينيها غصباً عنها: "البيقوله القلب إن شاء الله ما تشوفه العين." زاد من خوفي دخول أبي وخروجه المتكرر وشربه للكثير من الماء رغم أنه ليس مريضاً بالسكر، ورَفَعَ مُعدّل توتري العرق الذي يتصبب من جبينه رغم نسمات الخريف ورائحة المطر (الدُعاش) التي تملأ المكان مما يؤكد أنها تمطر في مكانٍ قريب. خطى أبي نحو عتبة الباب، ولكنه سرعان ما غيّر اتجاهه وعاد إلى الصالة وجلس على الكرسي البلاستيك القريب من الباب وطلب مني كوباً من الماء وحبة بنادول. تناول البنادول وعَبّ نصفَ كوب الماء في جوفه. وهو ممسك بالكوب عاود الاتصال برباب وأيمن، ولكن بدلاً من أن يضع الهاتف على أذنه ظل ممسكاً به في يده وهو يُحدِّق في شاشته وكأنه يخشى انفجار قنبلة (لا يوجد رد) في وجهه. ولم تُخيِّب الرسالة ظنَّه وظهرتْ فزفر زفرةً حَرَّى ومسح شعره من الأمام إلى الخلف بقوة فنامت كلُّ خصلاته الناعمة ولم ترفع رأسها إلا بضع شُعيراتٍ بيضاء هنا وهناك أعلنتْ العصيان. ورفع الكوب إلى فمه وأفرغ كل ما تبقى في جوفه دفعةً واحدة وناولني الكوب للمزيد في صمت وقد أحنى رأسه وحدّق في اللا شيء. مددتُ يدي لآخذ الكوب، وهنا رن هاتفه فنظر إليه في لهفة سريعاً ما انقلبتْ إحباطاً وهمس وهو يُبعِد التليفون عنه قليلاً ويُلَوِّح بالكوب:
"هذا عمر يوسف." ثم وضع التليفون على أذنه وقال بصوتٍ كسِير: "أهلاً عمر. بَشِّر. خير إن شاء الله."
وفجأة سقط الهاتف من يده وتبعه الكوب، ومال برأسه إلى الوراء في الكرسي وهو يردد وقد سبقت دموعُه كلِماتِه: "إنا لله وإنا إليه راجعون. يا ربي سَلِّم... يا ربي سَلِّم." هرع كلُّ من بالمكان إليه. لا أدري أيّنا وصله أولاً أم وصلنا جميعاً معاً. إختلطتْ أسئلتُنا بنحيبِنا ودعواتِنا. وهاج الناس وماجوا حتى وصلت أصواتهُم للجيران فامتلأ البيت بالمواسين والمستفسرين. جاءت حاجة خديجة (أخت حَبُّوبة فاطمة، ولا تسألوني لماذا يقولون لهذه حاجة وللأخرى حبوبة) تتوكأ على عصاها فمسكتْ خالتي يدها لتجلسهاعلى السرير، ولكنها لم تنتظر حتى تجلس بل سألتْ وهي ما تزال منحنية للجلوس:
"خير. ماذا حدث؟ لقد أخبرني عبد الرحمن الذي يستأجر بقالتنا أن هنالك سيلاً اجتاح وادي العروس فجأة قبل قرابة الأربع ساعات تقريباً فجئتُ لأطمئن على..."
فقاطعتْها خالتي وهي تمسح دموعها بكُم عباءتها: "يقولون إن السيل قد جرف في طريقه إلى النيل قرابة الخمس أو ست سيارات صغيرة. إستودعناهم وكل المسافرين الله."
فربتتْ حاجة خديجة على كتفها وقالت تطمئنها: "إن شاء الله سالمين غانمين." وأضافت بأسى ظاهر: "إني لجد نادمة على عدم تمكني من الحضور لوداعهما، فقد إزداد ألم ركبتي ولم أنم طوال ليلة أمس رغم الُمسَكِّنَات."، ثم التفتتْ إلى خالتي بسرعة وكأنها تذكّرتْ شيئاً فجأة: "لقد قلتي إن السيل قد جرف السيارات الصغيرة... نسأل الله السلامة للصغيرة والكبيرة، فلماذا القلق وقد ركب العروسان البص؟"
وهنا ارتفع صوت بكاء الموجودين. الحمد لله أن أبي قد خرج مع خالي وبقية الرجال لا أدري إلى أين، ولكن بلا شك ليتسقطوا الأخبار. قالت حاجة خديجة وهي تغالب دموعها:
"هوِّنوا عليكم. الأمر ليس كما تظنون بإذن الله، فالسيارات الكبيرة غالباً ما ..."
فقاطعتْها عمتي خالدة وهي تنهض لتخرج إلى الشارع: "ليْتهم كانوا في البص. لقد أعادوا التذاكر وركبوا سيارةً صغيرة... ليتهم لم يركبوا تلك السيارة المشئومة. ليتهم لم ..."
فقطاعتْها مها وهي تتظاهر بالثبات رغم دموعها التي تغطي خديها: "إستغفري الله يا أمي. قدّر اللهُ وما شاء فعل، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. دعونا نتفاءل خيراً."
تحدث الجميع إلا أنا. فقد ظللتُ صامتة طوال الوقت، لا رغبةً مني في الصمت، ولكن لضياع الكلمات من ذاكرتي، فقد كانت ذاكرتي كلوحٍ أبيض ليس فيه حرفاً واحداً. إستنْجدتُ بلساني كي يتحرك، ولكنه هو الآخر اعتذر لإصابته بالشلل الكامل. لم يبق فيّ شيءٌ يتحرك سوى عينيّ الّلتين تجولان بين الحاضرين كبَنْدُول ساعةٍ مُنْفَلِت، وقلبي الذي لولا إحكام قبضة أضلُعي عليه لسقط أمامي. الوقت يمضي سريعاً أو ... بطيئاً لا أعرف. كل ما أعرفه أن توازني العقلي والجسدي قد اختل، وشعرتُ بدوار أو ربما قد أُغمي عليّ فعلاً، فقد أسرعتْ نحوي مها ومدّدتْني على السرير وراء حاجة خديجة وذهبتْ وأحضرتْ لي عصير ليمون شربتُ قليلاً منه بعد إلحاح الجميع. لم يرجع أبي أو أي واحد من الرجال ولم يرُدُّوا على مكالماتنا مما زاد من توترنا. وازداد الناس وكثُر الهرج واللقط والتنظير مما جعلني انفجر دون وعي وأصيح فيهم وأنا أنهض باكية لأتوضأ:
"كُفُوا عن الحديث. أدعوا لهم. إسألوا الله لهم النجاة."
فأيّدَتْني مها قائلة وهي تتبعني وتشير إلى أختها وبقية البنات أن يلحقن بنا: "صدقْتِي. الكلام لا يُجدي. هيا يا بنات. تعالوا نتوضأ ونصلي ونقرأ يس والضحى. هيا يا سلمى احضِرِي المصاحف من الديوان ومن غرفة جدي."
وبينما نحن نتلو القرآن بصوتٍ مسموع وقد تجمعت كلُّ النساء الموجودات في حلقة كبيرة حولنا، جاء محمد مسرعاً يسبقه صوتُ بكائه، ولم يَرُد على أسئلة النسوة اللائي نهضن جميعاً لملاقاته، بل تلَفّتَ يمنةً ويسرة يبحث عني، عن أخته الوحيدة، عن سنده، وما أن رآني حتى اتجه نحوي ورمى رأسه على كتفي ودخل في حالة من هستيريا البكاء. طار لُبِّي ولم أستطع حتى أن أسأله عمّا يبكيه. سقطتُ على الفور مغشيّاً عليّ. لم أدرِ كم مضى عليّ وأنا في ذلك الحال، ولكني عندما فتحتُ عينَيّ وجدتُ نفسي مستلقية على سرير يحيط بحافته حاجزٌ قصير وعليه ملاءةٌ خضراء. مسحتُ الغرفة بنظري لتستقر عيناي على سارية من النيكل بجوار السرير عليها مغذي موصول بذراعي. وعندما استقرَّتْ عيناي على عيني أبي الجالس على طرف السرير بجواري ابتسم لي وصاح كلُّ من في الغرفة بفرح، واختلطتْ عبارات التهنئة بالسلامة بالسؤال عن صحتي. جاهدتُ نفسي واقتلعتُ منها ابتسامة فخرجت باهتة حتى كادت أن تفضح عدم رغبتي فيها. يساورني قلقٌ مكبوت وشعور لا أدري كنهه، كأنه اكتئاب ممزوج بحزنٍ عميق يجثم على صدري. ما زالت يدُ أبي الجالس بجواري تمسح على رأسي بعد أن سحب الطرحة التي كانت عليه قليلاً للأمام ليُغطِّي شَعْرِي. إبتسم نصف ابتسامة في صمت. وقف محمد عند رأسي، وتجمّع البقية في دائرة حول السرير. الكل يسألني عن صحتي وما الذي أشعر به وقد كستْ وجوهَهم إبتسامات بأشكالٍ مختلفة، ولكن بدت نكهتها لي واحدة. لا أدري لماذا لم أفرح بصياح فرحتهم عندما استيقظتُ!!! لا أدري لماذا أحسستُ أن ابتساماتهم تلك كانت مزيّفة!!! كدتُ أصيح فيهم:
"إنزعوا هذه الأقنعة عن وجوهكم وأروني الحقيقة التي تُخبّئونها عني."
ولكن خوفي من هذه الحقيقة ألجمني. ظللتُ صامتة رغم محاولاتهم المتكررة لحثي على الكلام. إكتفيتُ بهز رأسي إيجاباً رداً على أي سؤال حتى ولو لم يكن رده إيجاباً. ولكي أهرب من خوفي ومن أسئلتهم شغلتُ نفسي بمسح الغرفة مرةً أخرى. وقع بصري على بقعةٍ في أعلى الستارة التي على النافذة المقابلة لي. سرحتُ مع لَعِبِها بعقلي، فهي تبدو لي تارةً كلبٌ يرفع ذيله، وأخرى قط متكور على نفسه، وثالثة ... ورابعة ... ولم يُخرجني من هذه الدوامة إلا صوت أبي وهو يربت على كفي ويقول:
"لماذا أنت صامتة؟ أهناك ما يؤلمك؟"
وليته لم يسألني. إنهمرتْ دموعي كسيل العوتيب[9] الذي لم أشاهده وهززتُ رأسي إيجاباً. فهبّ واقفاً باندفاع حتى كاد أن يسقط على السرير واتجه نحو الباب وهو يقول في لهفة:
"سأستدعي لك الطبيب حالاً."
واقترب الجميع مني حتى ضاقت الدائرة والتحمتْ بالسرير فناديتُ أبي وأنا أجلس:
"لا يا أبي. ليس بي شيء. أقسم لك."
عاد أبي والهلع في عينيه وانحنى عليّ ووضع يده على جبهتي، وبلا وعي طوّقتُ رقبته بكلتا يدي وصِرتُ أبكي بصوتٍ مرتفع جعل الجميع يبكون فاندفع بعض الزوار والممرضات إلى داخل الغرفة. لم أكترث لأحد. قلت لأبي وأنا أدفن وجهي بين رقبته وكتفه:
"أستحلفك بالله أن تقول لي الحقيقة. أخبرني ماذا حدث لرباب وأيمن؟ هل ..."
وأضفتُ وأنا أُخْرِجُ رأسي من مكمنه وأنظر إليه في عينيه بانكسار وأرفع سبابتي مستجدية:
"أعِدُك. أُقْسِم لك لن أفعل أي شيء لا ترضاه. لن أجزع... لن ... قل لي بربك ماذا... هل هناك أي خبر ...؟"
حاول أبي أن يتماسك وتظاهر بأن الأمور بخير وقال وهو يعتدل في وقفته وينظر بعيداً حتى لا أرى الدموع التي تترقرق في عينيه: "إن شاء الله خيراً... دعونا نتفا..."
قاطعتُه والوجل يمزِّق قلبي: "هل ردّتْ ...؟"
قاطعني قائلاً بصرامة وهو يتجه نحو الباب: "خير. دعونا نذهب إلى المنزل وسأحكي لك كُلَّ شيء." وأشار إلينا أن نتبعه.
تبعناه في صمت وبصورة آلية وكأنه الساحر في قصة الساحر الذي تبعه الأطفال وهو يعزف على قيثارته والتي طالما كنا نطلب من أبي ونحن صغار أن يحكيها لنا. سِرْتُ ورأسي تتقاذفه الأفكار المشؤومة. شكْلُ أبي لا يطمئنني أبداً. أول مرة بعد وفاة أمي أراه بهذا الانكسار وكأن جسده لوح زجاج سيارة ارتطم به ثِقلٌ قوي فتصدع أشتاتاً، ولكنه يبدو للعين متماسكاً بلصقٍ شفّاف. لأول مرة في حياتي أشعر بأن أبي يكذب علي. وصلنا المنزل. لا أدري كيف ومتى. وهناك حكى لي أبي ما حدث. وليْته لم يحك. دارت الدنيا بي. لم أسمع بقية حديثه فقد صُمّتْ أُذُنيّ حقيقةً. عرفتُ منه أن السيارة التي كان فيها أيمن ورباب قد وُجِدتْ داخل النيل على بعد 60 كيلو من مكان الحادث. أبلغنا بذلك عمر يوسف الذي كان قد ركب سيارته وذهب إلى مكان السيل منذ أن أبلغ أبي الخبر. عرِف السيارة من رقمها الذي أخبره به أحد أفراد الشرطة المشاركين في البحث عن المفقودين. أحياناً تحْدُث بعضُ الأشياء بصورةٍ نظنها غريبة، فمثلاً من عادة عمر يوسف أن يقرأ بصوتٍ عالٍ أو يحفظ للحظات أرقام لوحة أي سيارة يقع بصرُه عليها ومن ثَمَّ حفظ أرقام السيارة التي سافر بها العروسان لأنه علّق عليها من ساعتها بأنها تشبه تاريخ ميلاده. ولعلها صدفة غريبة أيضاً أن يعود عمر يوسف للعروسين مرةً أخرى ليكون هو الوحيد الذي رآهما بعد أن استبدلا البص بهذه السيارة. بعد أن سمعنا الخبر من أبي انقلب كيانُنا.
رنَّ هاتف أبي. وبعد أن أنهى المكالمة التي لم نسمع منها شيئاً إلا ردود أبي التي كانت كلها مبهمة: "أوه. طيب. متى؟ دقيقة." وبعدها خرج مسرعاً، ثم عاد مهرولاً ودخل الغرفة ودسَّ بعض النقود في جيبه، ثم اتجه نحو الباب وهو يقول متظاهراً بالجَلَد:
"سألحق بفاروق والبقية الذين ينتظرونني في السوق وسنستأجر سيارة إلى وادي العروس. سأوافيكم بالأخبار من هناك ونسأل الله أن تكون خيراً. واصلوا الصلاة والدعاء."
ما أن سمعنا حديثه أنا ومحمد حتى قفزنا من مكانينا وكأن إعصاراً حملنا ووقفنا أمامه وقلنا بصوتٍ واحد وقد تشبثنا بطرف جلبابه: "سنذهب معك. لن نبْقى وراءك."
حاول أن يقنعنا دون فائدة. إستنجد بالحاضرين فلم يجد نصيراً إذ أصر الجميع على الذهاب معهم. إضطر للرضوخ لأن الموقف لم يكن أصلاً يتحمل الجدال، فجلس وقال وهو يبحث في جيوبه: "أمري لله. سأتصل بفاروق كي يُحضر سيارة كبيرة ويأتي ليأخذنا جميعاً."
وظل يعيد البحث في جيوبه، ثم قال مُتزمِّراً:
"أفففف... يبدو أني قد نسيتُ هاتفي في المستشفى."
فقالت له عمتي زكية بسرعة وهي تشير إلى يده اليسرى:
"قُل بسم الله. تلفونك في يدك اليسرى.ألم تكن تتحدث به قبل قليل؟"
قال بسم الله واتّصل بفاروق، وفي أقل من نصف ساعة كنا في السيارة في طريقنا إلى وادي العروس. هناك تأكدنا من بعض الأوصاف التي أدلى بها بعضُ الناس الذين شهدوا الحادث ومن الأخبار التي تناقلها الناس أن السيل جرف السيارة وكل ركابها بداخلها.
أحياناً ومن شدة الحزن والهم يشرد منك ذهنُك ليتمشّى قليلاً ويرتاح من عناء التفكير. وهذا ما حدث لي، فجأة وجدتُ نفسي أتابع الناس الذين تشتتوا في وادي العروس والأراضي التي حوله وقد فاضت أحزانُهم حتى طفحتْ على وجوههم. منهم من يمشي ناظراً إلى الأرض وكأنه يستجديها أن تُخرج له عزيزه المفقود، ثم تراه ينحني فجأة وقد أشرق وجهُه ليلتقط شيئاً يحسبه له، فإذا صدق توقُّعُه تراه يصيح مبتهجاً، ثم فجأة يعود لواقعه فيضُمّه إليه ويكتئب ويبكي، وإذا لم يصدق توقُّعُه يرمي به بعيداً إلى أقصى مسافة تصل إليها رميته وكأنه يُحَمِّله حزنَه وإحباطه، وقد يتابعه بنظرِه حتى يختفي عنه، ومنهم من يرميه وراء ظهره ولا يلتفت إليه، ومنهم من يتركه يسقط لوحده من يده التي شَلَّها الإحباط. كان بعضُهم يجلس القرفصاء على الأرض المبتلة أو على نعليه المبتلّين مُفكِّراً وهو يَنْكُتُ الأرض المُبْتَلّة بسبابته أو بِعُودٍ أو قطعة زجاج أو حصاة أو عظم أو أي شيء يعثر عليه أمامه. هنالك من يَنْكُتُ في الماء يبحث عن شيء لمح طرفه، أو يجُرُّ بغصن شجرةٍ شيئاً عالقاً في الوحل بدا له وكأنه شنطة أو فردة حذاء. ومنهم من يجلس وقد وضع يده على خدِّه وينظر إلى مَن حوله، تحسبه متابعاً لهم، ولكن هيهات، فلكلٍّ منهم شأنٌ يغنيه. البعضُ كان يمشي حافياً ويحمل نعليه أو فردة حذائه في يده، أو لا يحمل حذاءاً أصلاً، فهو لا يعرف أين تركه ولا يهتم لذلك. أنا كنتُ أنظر إليهم، نعم، وأرى هذه المشاهد تجري أمامي، ولكن عقلي لم يكن يستوعب ما يجري. هل هذه حقيقة!، هل هي مشاهد في فيلم أو مسلسل! هل هي ...؟ هَدّنِي التفكيرُ.
وطال البحث. شعَرْتُ أنه استغرق قروناً. وتوسَّع نطاقُه. صِرْنا نبحث في كل مكان. مكثنا على ضفاف النيل ثلاثة أيامٍ بلياليها نتقصّى الأخبار، لم نتناول سوى ماء النيل والذي لولا شِدَّة الحر ما تذكرناه، وقليلاً من التمر وزّعه علينا رجلٌ كان يركب حماراً أبيضاً عالياً ظهر أمامنا فجأة. إستوقفني الرجل. كان في بداية السِّتِّينات من عمره، يرتدي جلباباً أبيضاً وعِمَامةً بيضاء يتدلّى طرفُها على عنقه مع مسبحته الخضراء. كان مَرْكُوبُه[10] قديماً وكذلك ملابسه، ولكنها كانت ناصعة البياض. كان يجلس على سجادة صلاة خضراء يتدلّى طرفاها على جانبي الحمار. وجهُه الصبوح ما زال مرسوماً في عينيّ. هنالك شيءٌ شدَّني إليه. ظللتُ أتابعه بنظري وهو يوزع التمر على الناس فرداً فردا ويطمئنهم ويدعو. فجأة التفتُّ على صياح نسوة ينزلن من سيارة قادمة للتو. تذكّرتُ الرجل فالتفتُّ بسرعة نحو آخر فوجٍ كان معه، ولكني لم أجده. بحثتْ عنه عيناي في كل مكان، ولكنها لم تره. إختفى فجأة كما ظهر. جاءني في تلك اللحظة هاجس يقول لي:
"إبحثي عنه. ربما يكون هو الخضر الرجل الصالح. إلحقي به واطلبي منه أن يدعو لكم."
سيْطر علي هذا الهاجس حتى أني أوشكت أن أطلب من أبي البحث عنه، لكني غيّرْتُ رأيي في آخر لحظة رغم أن شعوري الداخلي كان يُصِّرُّ على أنه الخضر. لماذا؟ لا أدري. مجرد خاطرة، قد يسخر البعضُ منها رغم أن أبي لم يفعل عندما أخبرته بعد ذلك بعُدّة أسابيع. ربما كان مجرد هاجس أو هَوَس. لا أدري، ولكن هذا ما حدث.
سافر بعضُ الشباب من الأسرة والجيران وحتى بعض الذين لا نعرفهم شمالاً مع تيار النيل علَّهم يجدوا خبراً، وعادوا بدون خُفّيْ حُنين.
في صباح اليومِ الرابع جاءنا خبرُ العثور على جثة يبدو أنها جثة أيمن قريباً من مدينة الدامر فازدادت الدنيا سواداً في أعيننا ودخلتُ في غيبوبة مرةً أخرى، وكاد والدي أن يجن، ولا تسألوا عن حال أخي والبقية. وفي مساء نفس اليوم ذكّر خالي أبي أنه من الواجب أن نذهب لعزاء أهل أيمن، فذهبنا في اليوم التالي ورافقنا جمعٌ غفير من الأقارب والجيران. ذهبنا لنُعزِّيهم ونحن أحوج إلى من يعزِّينا.
أحياناً تحْدث مواقف تحار في تفسيرها ولا تدري كيف تتصرف إزاءها. في بيت العزاء عزّيْتُ كلَّ من قابلني في طريقي دون استثاء، واحتضنتني خالتو آمنة أم أيمن طويلاً وهي تنشج، ورفضتْ أن تتركني حتى خلّصتْني منها إحدى خالاته وطلبتْ مني الجلوس فجلستُ على الفراش المفروش على الأرض بجوار عمّتِه التي التفتتْ إلى امرأة كانت تجلس بجوارها وقالت لها بصوتٍ مسموع:
"نسأل الله أن يرحمه ويعوِّضه الجنة. كلُّ شيء قسمة ونصيب، لكن منذ البداية كَرِه قلبي هذا الزواج ولم أتفاءل به لأنه تم في يوم الأربعاء، ومما زاد الطين بلّة كانت آخر أربعاء في ذلك الشهر[11]." فرَدَّتْ عليها المرأة وهي تنظر إليّ بحسرة:
"إستغفري ربك يا سكينة. هذا قَدَرُه، مكتوب من قبل أن يولد، حتى لو تزوج غيرها كان سيموت." أطلقتْ سكينة زفرة حرّى ولم تُعلِّق. لم أنتبه ساعتها لما قالته المرأة، فقط شعرتُ وكأن أفعى لدغتني في قلبي، وانتابتني رغبةٌ جامحة في الرد عليها، ولكني تعوّذْتُ من الشيطان بصوتٍ مسموع، وكتمتُ حزني وكظمتُ غيظي، وتململتُ قليلاً، ثم سحبتُ نفسي بعيداً قليلاً عنها، ثم جاءت نجدتي بامرأة أحسّتْ بمعاناتي فأشارت لي أن تعالي واجلسي على الكرسي الذي بجواري فنهضتُ وجلستُ بجوارها فربتتْ على يدي بحنان وهي تقول:
"لا عليك يا ابنتي. أُعذريها. حُزْنُها على ابن أخيها هو الذي نطق وليست هي. لقد فطر موتُه قلوبَنا."
هززتُ رأسي إيجاباً دون وعي. لا أدري أهززته موافقةً على كلامها أم دلالة على عدم رغبتي في الخوض في الحديث. ولم أمكث على هذ الحال سوى بضع دقائق، فقد جاء الفرج من أبي حيث جاءت طفلة في حوالي السادسة من عمرها ووقفتْ عند مدخل الغرفة وسألتْ وهي تتلفت: "أين رحاب؟" رفعتُ سبابتي وقلت بصوتٍ ضعيف: "أنا." فقالت لي:
"أبوك ينتظرك عند الباب ويقول لك قولي لِمَنْ معك هيا لنسافر."
وجَرَتْ وهي تحرك رأسها يمنةً ويُسرة لتطير ضفيرتُها الطويلة من جهة لأخرى مع كل حركة. سبقتني الأُخريات، ثم نهضّتُ وودّعتُ من بالغرفة وخرجتُ وإذا بالمرأة التي كنتُ أجلس جوارها تخرج ورائي وهي تقول بصوتٍ أظنها تعمّدتْ أن يكون مسموعاً: "سأذهب لأتوضأ وأُصَلِّي العصر." ولكن ما أن ابتعدنا وأوشكتُ على الخروج من باب الدار حتى شعرتُ بها تشدّني من طرحتي لتوقفني، وعندما توقّفتُ والتفتُّ إليها قالت لي هامسة وهي تتلفتْ حولها:
"أنا ابنة خال آمنة. أعتذر لك عمّا بَدَر من سكينة. أنا أستنكر ما قالته، ولكن كما قلتُ لك الحزن هو الذي دفعها لقول ما قالته بالإضافة إلى أن ابنتها كان مخطوبة لأيمن منذ صغرهما، وكان الجميع يتوقع أن يتزوجها، ولكن ..."
فقاطعْتُها لأهوِّن عليها: "أعذرها، الخطب جلل، وأشكرك على ..." وهنا مَدّ أبي رأسه من وراء الباب وناداني يحثني على الخروج، فاستأذنتها وودّعْتُها وخرجتُ لأبي. وعُدْنا إلى شندي حيث قضينا الأسبوعين المتبقيين من إجازة أبي في الانتظار والبحث في كل المناطق المجاورة للنِيِل تقريباً دون جدوى. ورغم وفاة أيمن عليه رحمة الله وبفضل الله لم نقنط ولم نيأس من العثور على رباب ذات يوم. لكي لا أكذب، أصْدقكم أن الشيطان كان يلعب بعقولنا أحياناً كثيرة، والخوف من الصدمة يسد كلَّ تجاويف حياتنا، ولكن كان الأمل في رحمة الله وفرجه يتسلل في أحرج الأوقات إلى قلوبنا وعقولنا كبصيص ضوءٍ في نفقٍ مظلم.
سافر أبي، ولكن قبل أن يسافر طلبتُ منه أن يذهب معي للجامعة لأُقدِّم طلباً لتأجيل الدراسة ذلك الفصل الدراسي لظروفي النفسية. وقد تم ذلك بحمد الله فلحقتُ به بعد أربعة أيام. سافرنا، ولكن ظلّتْ قلوبُنا معلقة بآمالٍ وفزعٍ تركناهم خلفنا. كنا نتابع الأخبار مع الأهل ثانيةً بثانية. كنا نتصل عليهم ويتصلون علينا كثيراً، ورغم ذلك لم نستطع التعود على رنين هواتفهم كلما اتصلوا علينا. كلما رنّ هاتف في أي ساعةٍ من اليوم هب كلُّ من في البيت يتنازعه الفزع مع بصيص أمل. قضينا على تلك الحال عام وشهرين و3 أيام. كنتُ أعُدُّها على أصابع يدي بالمعنى الحرفي وأنا أمسح دموعي. من رحمة الله بنا أن دموعنا لا تنضب ولو زرفناها كالسيل. لم نترك مكاناً قريباً أو بعيداً لم نطرقه، حتى الصُّحف. نزّلنا عدة إعلانات في عدة صحف، أبي من جهة، وخالي من جهة، وأعمامي وأولادهم من جهةٍ ثالثة. كانت كلُّ الإعلانات نسخة واحدة مكررة تمّت صياغتها بعد تشاورٍ بينهم، وكانت مُرْفقة بأحدث صورة لرباب كانت قد ألتُقطتْ لها للتسجيل في الجامعة وآخِر صورة لها وهي عروس. لا أدري إن كانت الإعلانات قد لفتت انتباه كثيرٍ من الناس، فقد كانت في حيِّزٍ صغيرٍ جداً وفي صفحة داخلية مع أنها كلّفتْ كثيراً. هذا ليس مهماً، ولكن ما أردت قوله هو أننا لم نترك مكاناً إلا وطرقناه ولم تؤتِ جهودُنا أُكُلَها. سامح اللهُ كلَّ من كان سبباً في تأخير العثور على أختي. أعرف أن ذلك حَدَث بطِيب قلب بقصد المساعدة، ولكني ما زلتُ أعزو فشلنا في العثور على خبرٍ لها للتَدَخُّل غير المنطقي لبعض الناس. فالبعض يتطوّع بالإدلاء بشهادته ويقسم أنه رآها أو رأي فتاة بأوصافها - التي في الصحيفة أو في صورتها التي كنا نريهم إياها - في مكان كذا قبل مدة كذا ونذهب ولا نعثر لها على أثر .
من رحمة الله بنا أنَّنا نتعايش مع الحزن وإن لم ولن ننسى. مضتْ ثلاثُ سنوات وحالنا ...!!! كيف أصفه لكم؟ لا أعرف ولا أستطيع، يكفي أن تضعوا أنفسكم مكاننا، فليس من جرّب كمن سمِع.
تحت ضغط أبي وأسرتي وإقناع صديقاتي عُدُّتُ لدراستي التي ضاعفتْ مأساتي. ففي كل مكان كنا فيه سوياً، وكل موقف مرّ بنا، وكل طعام أكلته معها كان يسحبُ أنفاسي حتى يضيق صدري، وكم نُقِلْتُ إلى المستشفى بسبب ذلك وغيره كثير.
أحياناً كنتُ أحس بالذنب لأننا وافقنا على زواجها سريعاً فألجأ إلى الإكثار من الصلاة وقراءة القرآن والاستغفار لأُكَفِّر عن ذنبٍ ربما لم أرتكبه، ثم أعود وأتعوّذ من الشيطان وأتذكّر أنه مكتوب. صِرتُ آكل بِنَهْم وكأني لم أذق الطعام منذ أيام لأذهب بعدها للحَمّام وأتقيّأ ما أكلته لذا أصر أبي على تزويجي عندما تقدّم عادل لخُطوبتي، وعندما رفضّتُ خيّرني بين الزواج أو أن يأخذني إلى طبيب نفسي فوافقتُ بعد أن خاصَمَنِي عُدَّة أيام.
رغم نزيف القلوب لا بُدّ لماء الحياة من الجريان. تزوَّجْتُ، وتخرّجْتُ، وأنجبتُ ولَدَيْن تؤام. كنتُ أتمنى أن يكونا بنتين لأُسَمِّي إحداهما منال والأخرى رباب. كنتُ ساعتها سأتغاضى عن تناغم الأسماء التي اعتاد الناس في الغالب عليه عند تسمية التوائم، وهذا ما حدث في تسمية ولدَيّ أحمد وخالد اللّذيْن سمّيناهماعلى جديهما، أبي ووالد عادل.
الأعمار بيد الله، ولو كان أحدٌ يموت من شدة الحزن لكُنّا أول من مات. كان كل ما حولي يذكِّرني بها. كنتُ كثيراً ما أنسى الأكل والشرب. كنتُ آكل ألماً وأشرب حسرة حتى ازددتُ نحافةً، ومع ذلك كان هنالك هاجسٌ في داخلي يُوحي لي أن أختي ما تزال حية. تسألوني لماذا؟ ربما هو إلهام، أو ربما عدم قبول لفقدها. كنت كثيراً ما أحلم أحلاماً أُفسِّرها على هذا الأساس تفاؤلاً وتجَنُّباً للتفسير السيء لأني أؤمن بأن الحلم يقع كتفسيره، فإنها وإن لم تعُد يكفيني أن تكون حيّة ولو لم أعرف مكانها. تأبى صورتُها أن تفارقني لحظة وكأنها طُبِعتْ على جفوني.
الحمد لله الذي خلق لنا الأمل ليخفف عنا قسوة الظروف. مرّت بنا أحداثٌ كثيرة وامتزجتْ في داخلنا مشاعر شتى في مسيرة بحْثِنا عن رباب وانتظارنا لعودتها.
بعد قرابة الشهرين من غيابها رن هاتف أبي في حوالي الساعة الواحدة فجراً. صحونا كعادتنا جميعاً، ولكن ما أن قرأ أبي الاسم الذي ظهر على الشاشة حتى سقط الهاتف من يده. حاول أن ينحني ويلتقطه، ولكن يده صارت ترتجف. أسرعنا إليه. إنحنيتُ والتقطتُّ الهاتف الذي ما زال يرن في إصرار. نظرتُ إلى الشاشة وقبل أن أتمكن من قراءة الاسم خطف أبي الهاتف من يدي وهو يصيح بهستيريا: "رب... رباب.... رباب." صرخنا جميعنا بصوتٍ واحد. وضع أبي التليفون على أذنه وقال بصوتٍ متهدج والدموع تسيل على خديه: "رباب؟؟"، ثم سقط الهاتف من يده مرةً أخرى فسبقني محمد إلى أخذه وقال: "ألو؟"، ثم مسَحَنا جميعاً بنظرةٍ سريعة وقد انطفأ بريق عينيه وشحب وجهه، ثم مَدّ الهاتف لأبي دون أن ينطق بكلمة. جمع أبي كلَّ قواه وشجاعته ووضع الهاتف على أذنه واستمع في صمت وهو يشير بيده إلى خالتو فوزية أن تسكت وتكف عن الاستفسار. بعد أن انتهت المكالمة جلس على طرف السرير وقال بنبرةٍ حزينة ونظره مثبّت على الهاتف وكأنه يُدْلي بأقواله في استجواب:
"هذا عبد القادر. لا أعرفه. هو قال لي إن اسمه عبد القادر. هو من القليعة بالقُرب من شندي ويسكن الخرطوم. إتصل عليّ من هاتف رباب الذي وجده على شُجيْرة شوكية قريباً من مجرى السيل، على بُعد عدة كيلومترات من وادي العروس حيث تعطّلتْ سيارتُهم هناك وقال إنه اتصل عليّ لأنه وجد مكتوباً بجوار رقمي "بابا حبيبي" فشكرتُه وطلبتُ منه أن يسلِّمه شرطة أم درمان شمال لكي يأتي عمر يوسف لأخذه." وقد فعل الرجلُ مشكوراً وأخذ عمر يوسف الهاتف.
صِرْنا مُدْمِني بحث في وسائل التواصل الاجتماعي. لم نترك فيسبوك ولا واتسآب ولا تويتر ولا انستغرام، إلخ... إلا وسَجَّلْنا فيه عدة حسابات، بأسمائنا الحقيقية والوهمية، حتى أبي الذي كان يكره هذه الأشياء ويتضجر من تضييع وقتنا فيها كما كان يقول صار أكثرنا تصفحاً لصفحته في الواتس وفي الإنترنت عامة.
بعد قرابة العامين من غياب رباب وصلني طلب صداقة في الفيسبوك بإسم (همس الصمت أو (Whispers of Silence كما كان مكتوباً بالعربية والإنجليزية. لا أدري كيف وكم من الناس مرّ عبرهم صاحب أو صاحبة الطلب هذا حتى وصلني إذ اتضح لي بعد أن قبِلتُ الطلب وتواصلتُ مع صاحبته أنني لا أعرفها وهي أيضاً لا تعرفني. قبلتُ صداقتها بسرعة وبدون تفكير مع أني عادةً لا أعير معظم الطلبات التي تصلني التفاتاً فليس لدي وقت. حقيقةً لا أدري ما الذي دفعني للوقوف عند هذا الطلب من البداية ولماذا قبِلْتُه؟ أهي تلك الصورة التي تُزَيِّن البروفايل؟ وردة الجوري الحمراء التي تبللها بعضُ قطرات الندى؟ أم هو الشعور الخفي الذي يجذبني إلى صاحبته؟ أم ماذا؟ باختصار، أدمنتُ مراسلتها وإن كانت رسائلنا دائماً مقتضبة ولم تخرج من نطاق السلام والسؤال عن الأحوال، ولكني رغم ذلك صرتُ لا أرتاح إلا إذا افتتحتُ يومي وختمْتُه بمراسلتها حتى وقع ما سأحكيه لكم. فبعد قرابة الخمسة أشهر من صداقتنا نزّلت (همس الصمت) هذي في صفحتها صورة لطفلٍ في حوالي العام من عمره وهو يضحك، وعرِفْتُ منها بعد ذلك أنه وحيدها. الأمر الذي حيّرني هو أنني عندما نظرتُ إليه أحسست بشيءٍ ما يشدني إليه، بشعورٍ غريب ينتابني تجاهه... حب؟ أمومة؟ إرتياح؟ لست أدري. وجدتُ نفسي متعلقة به وكأنه ينتمي إليّ. حمّلتُ الصورة – بعد الاستئذان من أمه طبعاً– على سطح مكتب اللابتوب وكبّرْتُها، ووجدتُ نفسي كلما سنحت لي فرصة أنظر إلى الصبي بحب. أنا متأكدة أن هناك شيءٌ ما جعلني أتعلق بهذه البراءة الجميلة. متأكدة أن ابتسامته تشبه إلى حدٍ كبير ابتسامة أبي، بل أكاد أجزم أنها هي، نفس الابتسامة العريضة، الصافية التي تنبع من القلب. نفس الخطان العموديان اللّذان يظهران على أطراف شفتيه عندما يبتسم، نفس... كلُّ شيء في وجهه، كلُّ شيء، حتى عينيه الواسعتين. تخيّلوا!!! عدّلتُ الصورة بالفوتوشوب، جعلتُ الوجه لرجلٍ في الخمسين، له شاربٌ وشعر يُظِّللَهما البياض فصار أبي!!!! تخيّلوا!!! هل هذه حقيقة؟ صراحة؟... لست أدري. صار كل شيءٍ مشوَّشاً لديّ. ربما كنتُ أتخيل ذلك لحاجةٍ في نفسي. ربما... كنتُ أريد أن أُرِيها لبقيّة أفراد أسرتي. تراجعت. خفتُ من ردود فعلهم، خفتُ على أبي، خفت من تعليق زوجي ... خفتُ على نفسي ومنها فحذفتُ الصورة. كتمتُ الأمر وتناسيته. بعد ثلاثة أو أربعة أيام لا أذكر نزّلت "همس الصمت" (لم أعرف أن اسمها الحقيقي منال إلا في اليوم الذي أنزلتْ فيه هذه الصور) عدة صور (فوتوشوب) لطفلها الرضيع في مراحل مختلفة من عمره، صورة يبدو فيها في حوالي السادسة أو السابعة وهو يقرأ كتاباً، وصورة وهو في حوالي الثامنة عشر يلعب كرة القدم، وفي صورة أخرى يرتدي روب التخريج ويحمل شهادة في يده ومكتوب تحت الصورة: "متين يا عَلِي تكبر تشيل حِمْلِي؟" هزّتني الصور حتى اغرورقتْ عيناي بالدموع التي لم أبالِ بها بل ضغطتُ "Like" وكتبتُ لها:
"ربنا يحفظه "عَلِي" ويجعله قرةَ عينٍ لك."
رَدّتْ سريعاً: "آمين ويحفظك. إسمه أحمد. ’متين يا عَلِي تكبر تشيل حِمْلي؟’ هذا مقطع من الأغنية التراثية التي يغنيها عبد الكريم الكابلي والتي تقول: متين يا عَلِي تكبر تشيل حِمْلي؟ إيّاك عَلِي الخلّاك أبوي دُخْرِي، للجار والعشير الكان أبوك بِدِّي، للغني والفقير الكان أبوك حامي، إلخ... تعجبني هذه الأغنية."
كتبْتُ لها: "أبي أيضاً يعشق هذه الأغنية وكان كثيراً ما يقول هذا المقطع لأخي محمد كلما حس بضيق أو واجهته مشكلة. أختي كذلك كانت تحب هذه الأغنية. سبحان الله. أنتِ تذكرينني بها... إسمك يشبه اسم أمي عليها الرحمة، وبعضُ ما عرفته عنك يذكِّرني بأختي رباب... لقد كانت... ماذا أقول؟ كانت تحب الورود وأظن أنك تحبينها كذلك لأنك تضعين وردة جوري جميلة في بروفايلك." ردّت عليّ: "صدَقْتِي. أنا أعشق الورد والفراش والطبيعة وكل ما هو جميل. ولكن ...أعتذر إن تدخّلتُ في شؤونك الخاصة، ولكني أحسست بوخزة ألم بين سطور رسالتك. ما بها أختك؟ هل...؟ أعتذر. لا عليك، إنسي سؤالي."
لم أجد رَدَّاً، وبعد أكثر من عشر دقائق من الصمت والتفكير أعتذرتُ لها عن الخوض في هذه الحكاية الطويلة حالِيّاً ووعدْتُّها أن أحكي لها القصة فيما بعد. لم تزد في ردها عن كلمة“OK.” . وختَمْنا تواصلَنا بأُوكي.
في اليوم التالي نزّلتْ هي صورة ابنها الحقيقية، ولكن ما أدهشني هو أن خلفية الصورة كانت صورتي، ولكنني أبدو فيها نحيفة قليلاً والشامة التي تحت حاجبي الأيسر صارت فوقه وتبدو أكبر قليلاً وكأنها مرسومة، وعلى رأسي طرحةً زرقاء وهذا أيضاً غريب، فأنا أحب الأحمر.
دعوني أُعرِّج هنا على معلومةٍ صغيرة عن علاقة أسرتي الكبيرة بالألوان. كان اللونان الأحمر والأزرق يثيران بيننا جدلاً كثيراً خاصة بعد نهاية كل مباراة يكون طرفاها المريخ والهلال. كان أبي وما زال يشجِّع الهلال السوداني والسعودي والأهلي المصري وكذلك كانت رباب قبل أن تعتزل التشجيع نهائياً كم يبدو، أما أنا ومحمد فنُشَجِّع المريخ والزمالك المصري والأهلي السعودي. أما أمي عليها الرحمة فقد كانت تُشجِّع الهلال والمريخ والأهلي والزمالك. وكنا عندما نتعجّب من ذلك تقول ببساطة: "ماليش في التور ولا في الطحين. أنا بشَجِّع اللعبة الحلوة." لا أدري كيف استطاعت أن تجمع بين الأضداد!! ربما هي غريزة الأمومة التي تدفعها لإرضاء كل الأطراف، وربما سبب آخر احتفظتْ به لنفسها.
في مرة كنا نتناقش كالمعتاد بعد مباراة حاسمة بين الهلال والمريخ. كالعادة انحرف الجدال ناحية دلالة الألوان، وكان من ضمن ما قلتُ لهم إن اللون الأحمر له دلالة أعمق في علم النفس، ثم التفتُّ إلى رباب وقلت لها لأغيظها: "ولكن ما أدراك أنتِ بعلم النفس أيّتُها الاقتصادية؟"
ولكنها لم ترُد على كلامي بل واصلتْ دفاعها عن اللون الأزرق الذي يرمز إلى الهدوء والثقة، والحكمة، ويساعد على التأمل والاستقرار، إلخ... من الأوصاف التي لم تدخل رأسي، فرددتُ عليها أن اللون الأحمر هو لون الفئة الراقية. هو اللون الدبلوماسىي كما يقولون، ثم سألْتُها متعمِّدةً إغاظتها: "ما لون السجادة التي تُفْرَش للدبلوماسيين عندما يزورون بلداً ما؟" ولم أعطها فرصة لتُجيب بل قلتُ بسرعة وبحماس وأنا أُصَفِّق: "أحْـ... مَررر... أحمر يا حبيبتي. هل حدث أن رأيتهم يفرشون سجادةً زرقاء؟"
الذي حيّرني هو كيف حصلتْ على صورتي؟ أنا لم أُنزل صورة لي على الفيس أو غيره إلا مرةً واحدة وأنا في المستوى الثاني بالجامعة وحينها زجرني أبي وحذّرني ومن وقتها أعلنتُ التوبة النصوحة. إستدركتُ ورددتُ على نفسي بأنها قد تكون حصلتْ عليها من صفحة إحدى صديقاتي بطريقة أو بأخرى كطلبت صداقتي. علّقتُ لها على الصورة بصورة قلبٍ أحمر كبير وكتبتُ بجواره:
"شكراً، وكأنك شعرتي أني أحب أحمد. لكن لي ملاحظة صغيرة، الأزرق ليس لوني المفضّل. ههههه، ولكنك لم تذهبي بعيداً، فأُخْتي كانت تحب اللون الأزرق. ولكن هل لي أن أسألك؟ من أين لك هذه الصورة؟"
فردّتْ عليّ بأن كتبت "ههههه." وبعْدها أرسلتْ لي وجهاً ضاحكاً، ولم ترُد على سؤالي. وانقطعتْ عني رسائلها لمدة يومين كاملين، ثم فوجئتُ في اليوم الثالث بحذفي من قائمة أصدقائها. لا أدري هل انسحبتْ لأنها تضايقتْ من سؤالي أو أنسحبتْ لسببٍ آخر، أم حدث خطأ ما أدّى لحذفي بالصدفة؟ لست أدري. كل ما أعرفه هو أن حبل الأمل المنسوج من خيط العنكبوت والذي أمسكتُ طرفه بيدي المرتعشة قد انقطع فسقطتُ في هاوية اليأس. قرَّرْتُ حذف الصورة وضغطتُ زر الماوس الأيمن، ولكني فجأة غيّرتُ رأيي وقررتُ الاحتفاظ بها في ملف ال Dداخل الكمبيوتر وكأني أخبئها من عيني أو من أي مكروه.
العام الماضي هبّت علينا نسمة أمل جعلتنا نتفاءل بأن الحظ قد قرر أخيراً أن يبتسم لنا، فقد ورَدَتْ لأبي على الواتس رسالة من أحد أقربائنا في بورتسودان فيها صورة لفتاة مأخوذة من الجانب ومن مكانٍ بعيدٍ قليلاً ولعل السبب في ذلك ازدحام الناس الذين تجمّعوا حول الفتاة والمرأتين اللتين تواجهانها. الفتاة وكما قال مُرْسِلُ الصورة تشبه إلى حدٍّ ما رباب بَيْدَ أن وزنها أقل. وكالغريق الذي يتمسّك بقشة ركَضْنا وراء الصورة بشتّى الطرق، ولكن للأسف لم نسْتفِد شيئاً فانصرفنا عن الجري وراءها إذ اتضح فيما بعد أن لها قصةٌ طويلة لا داعي لذكرها كما أن من أسباب انصرافنا عنها هو أن أحدهم كتب أن البنت التي في الصورة من الصُّم وتكالبتْ عليها المرأتان لاستغلالها في التسول فاستبْعدْنا أن تكون رباب، بالإضافة إلى كثْرة التعليقات واختلافها، فكُلٌّ يكتب على هواه مما طمس معالم الحقيقة.
ما أردتُ قوله هو أننا عانينا كثيراً، وحاول الكثيرون مساعدتنا، ولكن للأسف انعكس بعضُ هذه المحاولات سلباً علينا، خاصة على أبي الذي كانت معظم الأخبار تَرِد إليه هو فيكون أول من يتلقَّى الفرحة وأول من تقع عليه الصدمة. لست أدري لماذا؟ لعلّ في بلائه خيراً، عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم.
عِشْنا تجربةً قاسية. كانت تتنازعنا المشاعر والأفكار. هل ماتت رباب وجرفها السيل إلى النيل أو إلى مكانٍ مجهول؟ هل هي حيّة ولكنها جريحة أو مريضة؟ هل...؟ وهل...؟ ورغم ذلك كان هناك إحساس دفين في دواخِلِنا يقول لنا إنها لا تزال حيّة. كُنَّا كالغريق الذي يتعلَّق بقَشَّة، نتعلق بأي شيء - حتى الأحلام - لنُبقِي الأمل حيّاً في نفوسنا. كانت تراودني الأحلام كل ليلة تقريباً بل أحياناً بالنهار وخاصة أحلام اليقظة، ولكن كان هناك حلمٌ ظَلَّ يراودني ويتكرر عدة ليالٍ حتى لو نِمْتُ نهاراً. كنت أرى نفسي وكأني أقف ليلاً في ساحة مطارٍ ما وأنا أنادي على رباب التي تخرج فجأة من وراء شجرة في ساحة المطار وتجري تجاهي فأمد لها يدي، ولكن قبل أن تصلني تظهر طائرة وتختفي رباب. كان الحلم ينقطع في كل مرة في نفس المكان إذ كنتُ استيقظ فجأة وكأن أحداً يوقظني فلا أصل لنهايته حتى صرتُ قبل أن أنام أتعمّد أن أكرر لنفسي وبصوتٍ عالٍ: "أنا سأواصل الحلم وسأعرف نهايته." لأُقْنِع عقلي الباطن بإعادة الحلم، ولكن دون جدوى.
وصل بي الحال أني كنت أخاطب القمر أحياناً وأسأله إن كان يراها وأُعاتِبهُ لِمَ لا يخبرني عن مكانها؟ هل نسِيتَ سمرنا معاً ونحن نتغالط على الصورة التي تبدو لنا عليك: "هي خريطة العالم. لا هي امرأة تحمل جَرَّة، لا هي كذا... ".
ذات مرة جلست في مكتبتي، هي ليست مكتبة بالمعنى المفهوم. هي كانت بلكونة، ولكن لأننا لا نستخدمها علّقْتُ عليها الستائر القديمة التي كانت في الصالة ووضعتُ فيها كرسي وطاولة صغيرة عليها اللابتوب وسجادة ليجلس عليها طفلاي عندما يخرج أبوهما- وأظنه يُكثر من ذلك هروباً من إزعاجهما فأضطر إلى ترك بحثي الذي أعدّه للماجستير وأنشغل معهما جُلّ الوقت. جلستُ ذات يوم على السجادة لأتناول الشاي الذي أحضره لي عادل. وعندما رفعتْ الكوبَ إلى فمي، التفتُّ صُدفةً فرأيت ظلي معكوس على الحائط وفجأة راودني الحنين إلى رباب وتذكّرتُ شُرْبنا للشاي والنسكافيه سويِّاً والقصص التي كنا نحكيها أثناء ذلك. ووجدتُ نفسي أمد كوب الشاي إلى الظِّل الذي تخيّلتُه رباب وأطلب منها بصوتٍ مسموع أن تتذوقه فهو لذيذ، ولم أكن أدري أن عادل يقف وراء الباب. وفجأة وضعتُ الكوب وذهبتُ لأحضر كتاباً فتسلَّل عادل وشرِب الشاي وعندما عُدّتُ وجدتُ الكوبَ فارغاً، وكدتُ أجن لولا أني رأيت نظارته التي نسِيَها على الطاولة.
ذات مرة قلت لنفسي بصوتٍ مسموع: "ياليت الخيوط كانت بيدي لأجذب خيط رباب وأحضرها من حيث ما تكون."
فنظر إليّ عادل متسائلاً، ولكنه لم ينطق حرفاً فقلت له وأنا أُحدِّق بعيداً:
"زمان، عندما كنتُ في السابعة أو الثامنة من عمري كنت عندما أغضب أو أشعر بالملل أذهب إلى سطح العمارة التي كنا نسكن فيها، وأنظر إلى الأسفل، إلى الشارع والمحلات المقابلة للعمارة. أنظر إلى بحر الأجساد المتلاطمة والتي تتحرك في كل اتجاه فأتخيّلهم دُمي في مسرح عرائس خيوطها بيدي، فتنتابني رغبةٌ ملحة في أن أسيطر عليهم وأحرِّكهم كيف أشاء، وبحركة لا إرادية أحرِّك يدي وكأنني فعلاً أتحكم فيهم. كنتُ أصعد إلى هناك وفي فمي حلوى (مصّاصة) وأنظر إلى الناس من تحتي واختار من سأسحبه أو أغَيِّر حركته كيف أشاء. ذات مرة كان النادِل في المقهى المقابل يحمل صينية الشاي ويتجه مسرعاً نحو طاولة يجلس حولها أربعة رجال فوق الخمسين يتسامرون. تركْتُه حتى وقف ليضع أكواب الشاي على الطاولة، ثم سحبتُ الخيط فطار الصبي وانكفأت الصينية بما فيها على الأرض ورَشّ الشاي أكثر الرجال أناقةً فرفع طرفَ ثوْبِه الأبيض الذي تلوّن بالأحمر ونظر إلى الصبي بعينين يتطاير منهما الشرر، ولكن قبل أن يفتح فمه بكلمة سحبتُ خيطه وأخرجتُه خارج المقهى وجعلتُ البقيِّة يقهقهون ويصَفِّقُون." ضحكتُ ضحكةً باهتة وقلتُ وأنا أُطلق آهة قوية: "هيييه. بعضُ الخيالِ يُسَرِّي أحياناً... وبعضُ الذِّكريات."
وكأن الكلمة الأخيرة حرّكت شيئاً في نفسي فأضفتُ وأنا أسرح ببصري في اللا شيء:
"لو كانت ذاكرتي بيدي أتحكم فيها كيف أشاء لأمسح كل ما أُريد نسيانه."
قبل تسعة أشهر وخمسة أيام بالضبط، في التاسع من رمضان وأذكر أنه كان يوم الثلاثاء، وكانت الساعة قد تجاوزت الرابعة مساءاً بقليل – كنتُ قد قفَوْتُ قليلاً بعد أن صلّيْتُ الظهر وضبطَّتُ المُنَبِّه على الثالثة والنصف لأُصَلِّي العصر وأقرأ قليلاً من القرآن، ثم أبدأ مسلسل تجهيز الإفطار والعشاء والسحور (ثلاثة في واحد) لأن دوامي كان ليلاً. باختصار. إتَّصل عليّ أبي وصوته يرتعش، نبرتُه مضطربة حتى أنه كرر اسمي أكثر من خمس مرات متتالية دون توقف... دون وعي صرختُ: "أبي؟؟!! ماذا حدث؟"
ولم أسمع ردَّه إذ سقط الجوال من يدي وسقطتُ أنا على الكنبة التي كنتُ أقف بجوارها. جاء عادل مسرعاً وهو يسأل وقد جحظتْ عيناه وهو ينظر إليّ هلعاً:
"ماذا حدث؟ ماذا به أبوك؟"
ولم ينتظر ردي إذ وقعتْ عيناه على الجوال الملقى على السجاد فانحنى والتقطه وهو يقول: "ألو."، ثم واصل حديثه مع أبي مطَمْئناً له أنني بخير وأنا أتابعه بعينين جاحظتين هلِعَتيْن وقلبٍ تتسارع دقاتُه كأنه يوشك أن يفر من بين ضلوعي حتى سمعته يقول وقد علا صوتُه وبدت نبرته متحمسة وهو يشير إليّ أن انهضي:
"لا أُصَدِّق... متى اتصلوا عليك؟ قبل أن تتصل على رحاب مباشرةً؟ ستنتظرنا أم نلحق..."
وقبل أن يكمل جملته وجدتُ نفسي على قدمَيّ وأنا أخطف الجوّال من يده وأسأل أبي عن الأمر فعلمتُ أن شرطة جوازات مطار الملك عبد العزيز بمدينة جدة اتصلوا عليه في رقم تليفونه القديم وطلبوا منه الحضور فوراً لأنهم قد أوقفوا فتاة تدعى منال محمد عبد الله في الخامسة والعشرين من عمرها وبرفقتها زوجها وطفلهما الرضيع. تمّ توْقِيفها وزوجها بتهمة التزوير في جواز سفر لأن بصْمتها تطابق بصمة واحدة تدعى رباب أحمد محمد أحمد الباقر، والصورة التي لديهم في الكمبيوتر تكاد تكون هي لولا أن منال أكبر سناً وأنحف قليلاً وكان هذا سبباً رئيسياً في المشكلة، ثم صار فيما بعد بحمد الله سبباً رئيسياً في حلِّها. وقد دعم ذلك أن أبي كان قد بلّغ بعد الحادث مباشرةً الجوازات السعودية بتفاصيل غياب رباب، وأثْبتَ ذلك بالمستندات الرسمية كالبلاغ الذي قدّمه لشرطة شندي وصورة من عقد الزواج، حتى أنه طلب مني أن أريهم صور الزواج وصور السيل التي احتفظ بها في جَوّالي.
نعود لبداية القصة، على الفور استأجر أبي سيارة – بعد أن أقنعناه بألا يقود السيارة بنفسه حفاظاً على سلامة الجميع. سافرنا- أبي وأنا ومحمد وفوزية - إلى جدة. تضاربت مشاعرُنا بين الأمل والخوف من الإحباط. جرّبْنا كل وسائل التفكير والتواصل، الفلسفة، التحليل، الاستنتاج، التفكير الجماعي، التفكير الفردي بنوعيه الصامت والمسموع، ولسوء الحظ كان إبليس في كثيرٍ من الأحيان سيِّد الموقف. الحمد لله أننا كنا في رمضان لأننا أصلاً لم نتذكر الطعام أو الشراب.
بعد وصولنا جدة ذهبنا مباشرةً لمقابلة المسؤولين. لا أريد أن أزحم رؤوسكم بتفاصيل ما حدث خلال التسعة أيام التي قضيناها هناك مع رباب بين التَّحَرِّي والفحص الطبي. أجْرَتْ بحمد الله ْ فُحوص لم تُجْرِها طوال حياتها. مرّتْ على أطباء من شتى التخصصات، مخ وأعصاب، علم نفس، وغيرهم. قدّمنا كلَّ ما نملك وما لا نملك من مستندات أُرسلت من السودان بالفاكس والإيميل وعن طريق أشخاص قادمين لأداء العمرة حتى أن أبي قد سافر مرتين إلى المدينة لإحضار بعض الأوراق المُرْسَلة مع بعضهم. الكل أدلى بدلوه بما يستطيع، أهلُنا، أصدقاؤنا وأصدقاؤها، ولعبتْ الدور الأكبر رشيدة التي تُكَنَّى بشوق أو كما قالت لي ضاحكة: "محسوبتك رشيدة، ولكن اسم الدَّلع شوق." أضْحَكتْني رغم حزني مما أعطاني انطباع بأنها شخصية مرحة وطيبة. سأخبركم عنها بالتفصيل فيما بعد. مَدّتْنا شوق هذي بأهم المستندات وهي التقارير الطبية التي تُثْبت أن رباب كانت بالمستشفى بعد الحادث وأنها كانت فاقدة الذاكرة. وبحمد الله الذي سخّر لنا عباده كُلِّلتْ هذه الجهود مشفوعةً بإشهاد شرعي من المحكمة وشهود وقَسَم، إلخ... بالنجاح، وعاد كلُّ شيء إلى مساره الصحيح وعُدْنا برباب وأسرتها الصغيرة إلى ينبع فرحين ُمسْتَبْشِرين.
قبل أن أطوي صفحة جَدَّة رأيت أنه لا بد لي أن أطلعكم على مشهد رؤيتنا لرباب بعد هذه السنين الحزينة لأنكم بالتأكيد تتساءلون عنه. أعتذر عن عجزي عن نقل الصورة الحقيقية للَحْظة دخولِنا إلى المبنى الذي فيه المكتب الذي تجلس داخله رباب وأسرتها الصغيرة لأن المشهد كان أبلغ من أي لغة تعبير، ولأني لن أستطيع مهما حاولت أن أنقل لكم الرهبة والرغبة، اللهفة والجزع. القلوب إزداد خفقانُها حتى صِرتُ أتطلّع في الوجوه التي حولي لأرى إن كانت ضرباتُها تزعجهم، ضغطتُ قلبي بكفي كي لا يقفز من مكانه. كانت أرجُلُنا تهرول وكأن آلةً ما تسحبَها، ولكن عندما وصلنا إلى باب المكتب توقف محرِّك الآلة فجأة، تسمّرنا جميعُنا في آنٍ واحد ولم نتحرك إلا بعد أن تحرك أبي بعد أن طلب الشرطي منا عدة مرات الدخول. أنا شخصيّاً لم أسمع ولا كلمة مما قاله. كنتُ أرى يده تتحرك حركة نصف دائرية وتشير إلى الباب، ولكني لم أفقه شيئاً حتى سحبتْني فوزية من يدي فوجدتُ نفسي داخل المكتب.... وجهاً لوجه مع رباب. لحظتها اصْطَفّيْنا في خطٍ مستقيم دون حراك كأننا تماثيلُ جنودٍ قُدّتْ من صخر. لا أدري كم لبثنا على تلك الحال. كل ما أذكره أن أسعد زوجها (أليست صدفة غريبة أن يبدأ إسما زوجيها بالهمزة وأن يحملا معنى التفاؤل؟) هو من كسر حاجز الجمود، فبعد أن جال ببصره سريعاً بيننا وفضحتْ دموعُه مكنون نفسه هجم على أبي واعتصره احتضاناً، ثم أعقبه بمحمد ثم فوزية، ولكنه عندما حان دوري تسمّر أمامي، أظن حتى عينه لم تطرف. "لماذا لم تُسلِّم علي يا أسعد؟ لن أسامحك على ذلك أبداً." هذا ما كنت أمازحه به بعد ذلك كلما رأيته واجماً لأخرجه من صمته، فهو بطبعه لا يتكلم كثيراً. كان يرد علي بابتسامته الهادئة وعبارته التي حفظتُها وصرتُ أقولها قبل أن يعيدها هو ورائي:
"أنا مَن لن يسامحك لأنك كنتِ ستسببين لي الذهول وقتها لولا أن أنقذني بكاء حمّوُدي." صَدَق، فقد كان أحمد يبكي وكأنه خائف حتى كاد أن يسقط من يد أمه التي لم تحرك ساكناً وكأنها تمثال وقد اتسعتْ عيناها وفغرت فمها حتى أنها لم تشعر بتلك الذبابة التي دخلتْ فيه وخرجتْ، فأسرع أسعد بحمله منها حتى لا يسقط.
هذا حال دخولنا المبنى وحال وقوع أبصارنا على رباب، فكيف بلقائنا؟ لا أستطيع وصفه، فالمشهد كبير، والإحساس يُعاش ولا يُوصَف، فأرجو المعذرة.
موقف آخر صغير هزّني. هناك، وسط معمعة تسارع الأحداث وخِضَم تضارب المشاعر بين الفرح والخوف، والشوق والقلق، والتحفز والترقُّب أذّن آذان المغرب، ولم ينتبه أحدٌ منا إلى أننا كنا صائمين إلا بعد أن أحضر لنا أحد العامِلِين بضعة قوارير ماء صغيرة، وقارورة عصير برتقال كبيرة ومعها بضعة كؤوس بلاستيكية، وعلبة تمر، وبضعة سندوتشات – لا أدري ما بداخلها لأننا لم نتناولها بل اكتفينا بقليلٍ من التمر والماء. الموقف الذي هزّني هو أن أخي محمد وهو يقف ملتصقاً بيسار رباب، رفعتْ هي يدها لتُصْلح طرْحتها فانكشف معصمُها فلمح محمد السوار في يدها فصرخ وهو يهجم عليه: "السوار... سوار أمي بعينيه الملوَّنتين." فاتسعتْ عينا رباب من الهلع الممزوج بالدهشة وبحركة لا إرادية سحبتْ منه يدها وطوت يديهْا في بعضهما وضمَّتْهما إلى صدرها ودسّتْهُما تحت طَرْحتها.
رجعنا إلى ينبع، ولكم أن تتخيلوا مدى سعادتنا بانضمام ثلاث أعزاء للأسرة. في اليوم التالي أقنع أبي أسعد بالذهاب لاستلام عمله، وذهب معه، واستلم العمل، ولكنه فاجأنا بعد أسبوعين بأنه قد استأجر بيتاً وسيأخذ زوجته وابنه ليقيموا فيه. إعترض الجميع لحاجَة رباب وابنها لأُسرتها ولوجود من يرعاهما ويؤانسهما عندما يذهب هو للعمل، فاقتنع وبقوا في البيت لأنه كان يعلم أن رباب تمُر بفترةٍ جد حرجة. فقد اعتزلتْ الناس إلا نادراً ولا تجلس معنا إلا غصباً عنها، وباءت كلُّ محاولاتنا لجعلها تندمج وتأكل وتتحدث بصورة طبيعية بالفشل.
رباب في أغلب الأوقات تنزوي في غرفتها ولا تخرج لتتسامر معنا، حتى عندما تتناول معنا وجبة الغداء - التي يعتبرها أبي منذ صغرنا ضرورية وإلزامِيّة لِلَمّ شمل العائلة- كانت بمجرد أن تنتهي من أكلها تسرع إلى غرفتها، حتى يدها تغسلها في الحوض الملحق بحمّامِها. ولولا أن أكلها بطيء لما ظلت معنا قرابة نصف الساعة التي كانت تقضيها بيننا. نسيتُ أن أقول لكم أنني وأُسرتي الصغيرة انتقلنا للسكن مع أهلي ثلاثة أشهرٍ كاملة لنعمل معاً على إخراج رباب من حالتها النفسية السيئة التي لازمتْها منذ اللحظة الأولى التي قابلتْنا فيها ولنساعدها على استعادة ذاكرتها التي قطعاً أنكم فهمتم من الأحداث أنها فقدْتها، وهذا ما عكّر فرحتنا بعودتها. كان الحزن يعصرنا في كل ثانية تمر وهي بيننا وليست معنا، واحدة منا، لحمنا ودمنا ولا شعور لها بالانتماء تجاهنا، بل الأمَرّ من ذلك أنها تهابنا كأننا غرباء، كلما نقترب منها تزداد بُعداً. ورغم ذلك لم نترك لليأس منفذ إلى نفوسنا، ولم يتسلل الإحباط إلى صدورنا. صِرْنا كُلُّنا باحثين من منازلهم عبر الإنترنت عن مرض فقدان الذاكرة وكيفية علاجه حتى تمنَّيْتُ من كثرة ما قرأتُ عنه لو أنني تخصصتُ في علم النفس، حتى محمد الذي كان مُدْمِناً لمواقع التواصل الاجتماعي صار ضليعاً في البحث عن هذا المرض وحتى وسائل التواصل استفاد منها في جمع معلومات عنه.
أخذها أبي إلى طبيب نفسي في الرياض، طبعاً بعد موافقتها وموافقة زوجها. عزى الطبيب إصابتها بتلك الحالة إلى شْدَّة الصدمة والخوف والفزع ساعة الحادث غير المتوقع بالإضافة إلى ضربة قوية تعرّضَتْ لها في الحادث. وكلامه صحيح إذ ما تزال الندبة التي على جبهتها تشهد بذلك، يُضاف إلى ذلك ما جاء في تقرير المستشفى الذي نُقلت إليه بعد الحادث، بالإضافة إلى أنها لو تذكرون كانت مصابة برهاب الماء، فكيف بها في ذلك السيل؟ أهَم ما في الأمر أن الطبيب طمأننا بأنها ستتعافى بإذن الله وعلينا بالصبر، وأرشَدَنا إلى كيفية مساعدتها للتعجيل بشفائها. طبّقْنا كلَّ ما أوصانا به حَرْفِيَّاً، أضفنا إليه كل ما ألتقطْناه من الإنترنت أو ممن حولنا من الناس. أحد أصدقاء أبي أقنعنا بوضع صور رباب والأسرة في كل ركن من أركان البيت. نفّذْنا اقتراحه. أينما تلْتفتْ تجد صور رباب، حتى صار البيت معرضاً للصور حتى أن محمد علّق عند المدخل ورقة كتب عليها Gallery، ولكنه أزالها بعد أن أمره أبي بذلك. فعلاً صار البيت معرضاً، ويؤكد لك هذا الإحساس وقوف رباب أمام الصور الواحدة تلو الأخرى وتأملها في صمت. الصور في كل مكان حتى أبواب الحمّامات، وأحواض غسيل الأيدي والمرايا التي عند مدخلها. صورُها فردية، وثنائية معي، وجماعية معنا جميعاً أو مع بنات الأهل وصديقاتها وزميلاتها في المدارس في المراحل الدراسية المختلفة وفي كلية الاقتصاد. صورها في كل مراحل حياتها منذ طفولتها حتى عودتها وأسرتها الصغيرة. جَسّدْنا لها كلَّ مراحل حياتها ما عدا زواجها الأول، رغم أننا حكيْنا لأسعد عنه ورأى صور الزواج فلم يزده ذلك إلا حباً واحتراماً لنا وتمسُّكَاً برباب. كم أنت كبير يا أسعد. لم يتجرأ أحدٌ منا أن يريها صورةً من زواجها الأول، وأظن أن عقلها الباطن كان يرفض الاعتراف بذلك رفضاً قاطعاً، وأيضاً سأترك الحديث عن هذا إلى حينه. وضعتُ لها البوماً كاملاً به عشرات الصور تحت وسادتها، وكلما دخل عليها أحد منا تعمّد أخذه وتصفّحه معها والتعليق على الصور، خاصة صورها هي، ومن ضمنها صورة لثلاثتنا مع أمي وهي تحيطنا بيديها وفي معصمها اليسار السوار "الموضة" كما أطلقنا عليه بعد حادثة الصائغ.
نسيتُ أن أخبركم أن الطبيب بعد أن انتهت المقابلة الأولى وهمَمْنا بالخروج طلب مِنَّا أنا وأبي البقاء معه قليلاً، وبعد خروج رباب وزوجها سألَنا إن كانت رباب تتذكر الماضي أحياناً أو تعود لشخصيتها الطبيعية أحياناً ولو لفترة قصيرة فأخبره أبي أن ذلك لم يحدث منذ أن عادت إلينا، ولكن أسعد أخبرنا بأن ذاكرتها رجعتْ لها بضع مرات، ولكن لفترة قصيرة لم تتعد تسع أو عشر دقائق وحكى لنا بعض تلك المواقف. وكنتُ أنا أجلس بجوار أبي وأهز رأسي مؤيدة بين الفينة والأخرى. فأخبَرَنا الطبيبُ أنه من الطبيعي أن تتذكّر بل من المفترض ألا تستمر معها الحالة كل هذه المدة، ثم نادى أسعد وطلب منه أن يحكي له تلك المواقف بالتفصيل فحكى له قرابة الساعة والنصف، هذا طبعاً بعد أن حكى له عن محاولاته في جمع معلومات عنها قدر المستطاع حتى يتمكن من الوصول إلى أهلها وكيف باءت بالفشل لعدم توفر معلومة كافية، وأضاف أنه حتى الإعلان الذي نشره في إحدى الصحف لم يأتِ بفائدة رغم أنه وعد فيه من يساعده بجائزة قيِّمة. وأول ما بدأ به يوم ولادتها لأحمد، فبعد ولادته لم تره إلا بعد أربع ساعات تقريباً لأن الطبيب كان يرى أن ننتظر حتى تتعافى قليلاً ثم نبلِّغها أن عين ابنها اليُسْرى لا ترى. كان موقفاً صعباً، فقد كانت تلح على رؤيته، وكانت كلما سألتْ عنه تطوع أحد بالرد عليها سريعاً بأن ابنها بخير، ولكن الطبيب رأى ضرورة وضعه في الحضانة لبضع ساعات. بعد مضي الوقت المحدد استأذنني الطبيب أن يخبرها هو بنفسه بعد أن رأى جَزعي وألَمِي. هززتُ رأسي موافقاً فذهبنا إلى العنبر، وتطوعتْ بعضُ الممرضات بمرافقتنا. سحب الطبيب كرسيّاً وجلس أمام رباب، وبعد أن سألها عن صحتها وبما تشعر وبعد أن اطمأن عليها صار يتحدث لها عن الرضاء بقضاء الله ويستشهد ببعض الآيات القرآنية وهي ساكنة، وكان رد الفعل الوحيد لحديثه دموعها التي كانت تجري على خدَّيْها مما دفع إحدى الممرضات إلى الجلوس بجوارها واحتضانها ومسْح دموعِها بطرف طرحتها. وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة فزادت في البكاء بصوتٍ مسموع وأسْندتْ رأسها على كتف الممرضة. وفجأة رفعتْ رأسها والتفتتْ إلى الطبيب وسألته بنبرة يختلط فيها التوسل بالأمل بالخوف: "مات إبني؟"
فرَدَّ الطبيب بسرعة وهو يهز رأسه بقوة يمنةً ويسرة: "لا. لا. أقسم بالله ابنك بخير."
فاعتدلتْ في جلستها ومسحتْ دموعها بطرحة الممرضة وسألتْه وهي تنظر إليّ عاتبة ومستنجدة: "إذاً ماذا به؟"، ثم صاحت وهذه أول مرة أراها فيها تصيح:
"حرام عليكم. لِمَ تعذبونني. إرحموني... إن كان ابني قد مات فأنا ..."، ثم وجّهَتْ حديثها إليّ وهي تشير إليّ بسبابتها وقد عادت للبكاء مرةً أخرى:
"حتى أنت؟ قل لي... إن كان ابني قد مات فكتمانكم لن يعيده لي، أخبروني وإلا والله ..."
جلستُ بجوارها وربتُّ على كتفها، وقبل أن أنطق رمى الطبيب القنبلة وأخبرها. جَزعتْ في أول الأمر وبكت، وهنا دخلتْ ممرضةٌ تحمل الولد، أخذتْه منها بلهفة وعصرتْه احتضاناً، شَمَّتْه، رفعته أمام عينيها وصارت تنظر إليه ودموعها تُبلِّله، ثم استغفرت الله وقالت:
"رضيتُ بحُكْمِك يا رب وفوّضّتُ أمري إليك فساعدني وساعده." ثم قبّلتْه في جبهته ونظرت في عينيه - الكاحلتين، الواسعتين، اللتين إن نظرتَ إليهما لا ينتابك شك أبداً في أن إحداهما لا ترى – وقالت له وكأنها تعاهده وتطمْئنه:
"لا تخف أبداً ولا تخش شيئاً. أمُّك ستظل إن شاء الله بجوارك. سأكون عينك التي تبصر بها وسأكون..."
ولم تستطع أن تكمل فضمّتْه إليها وصارت تنتحب بصوتٍ عالٍ أبْكَى كلَّ من كان بالغرفة وأوَّلهم أنا فاندفعتُ خارجاً وقد أعْمَتْ الدموعُ عينيّ فاصطدمتُ بإحدى الممرضات وكانت تحمل بعض الحُقَن ومُغذِّيَاً فسقطتْ الأشياء من يدها فانتبهتُ واعتذرـتُ لها فهمهمتْ بكلماتٍ من تحت أنفها وكأنها لم تقبل اعتذاري. لم أكترث للأمر وانحنيتُ لألتقط الأشياء التي سقطتْ منها،... وفجأة انطلقتْ صرخةٌ من داخل العنبر، وقبل أن أتبين أنه صوت رباب، جاءت ممرضة تجري، وما أن رأتْنِي حتى ارْتدّتْ راجعة صوب العنبر وهي تشير لي بيدها أن أتبعها وتُرَدِّد بفزع: "تعال... تعال... لا أدري ماذا حدث..." لم أسمع بقيَّة جملتها لأني كنتُ وقتها داخل العنبر. كانت رباب في حالة.... لا أدري كيف أصفها.... أأقول محزنة أم أقول مخيفة؟ كانت تحاول الفكاك من أيدي الممرضات الثلاث اللائي يحاولن تثبيتها حتى لا تغادر السرير. لا أدري من أين جاءتها القوة لتتغلب عليهن لعدة ثواني قبل أن يُحْكِمن قبضَتَهُنَّ عليها. كانت ثائرة وقد نزعتْ الطرحة من رأسها ونَكَشَتْ شعْرَها وهي تصيح:
"ما الذي جاء بي إلى هنا؟ ومن هذا الطفل الذي يرقد عند رِجْلَيّ؟ قلت لكم أتركوني أذهب لأهلي. لماذا خطفتوني؟ ماذا تريدون مني؟ أين أختي؟ أين...؟"
إستمر هذا المشهد حوالي ست أو سبع دقائق. أكْذِب عليك إن قُلتُ لك إنني في تلك اللحظة ورغم الموقف المحزن لم أفرح قليلاً، فقد كنتُ أأمل وأدعو لها أن تعود لها ذاكرتُها سريعاً. كنتُ خلال تلك الدقائق رابط الجأش قليلاً لأن هذه هي المرة الثانية منذ زواجنا التي تومض فيها ذاكرتُها فجأة. كلُّ ما فعلْتُه هو أني جاريْتُها بعد أن غمَزْتُ بعينِي لإحدى الممرضات أن دعُوُنا نسايرها. لا أدري هل وصلتهن رسالتي كما أعْنِي أم أنهن فهمن شيئاً آخر. المهم أنهن تعاطفن معها وصرن يلاطفنها. وحاولتُ أنا تهديئتها وقلت لها إنها أُصيبت هي وأسرتها في حادث، ولكنهم بخير وهي الوحيدة التي جُرحتْ وأنهم مع الطبيب ليتأكد من سلامتهم وسيأتون إليها في أقل من ربع ساعة. قلتُ ذلك وأنا بين نارين. هل أدعو ربي لتعود لحالتها في هذه الفترة، أم أدعوه ليشفيها؟ مع أني أحلف صادقاً ما شككتُ يوماً في أنها قد تكون لا قدَّر الله مريضة نفسياً، لكن الإنسان أحياناً تنتابه لحظة ضعف.
ونحن في تلك الحال وأنا أُجرِّب كلَّ الطرق لإقناعها نظرتْ إليَّ فجأة كأنها تراني لأول مرة وسألتْني: "هل أنت طبيب؟"
قبل أن أفيق من هول السؤال هزّتْ الممرضة التي كانت تقف خلفها رأسَها إيجاباً وهي تنظر إليَ فالتقطّتُ بسرعة طوق النجاة هذا وأجِبْتُها بتردد وأنا أدعم قولي بتحريك رأسي من أعلى إلى أسفل:
" نـ... نعم." ولم تَزِدْ كلمة بعد ذلك. فقد تحوّلتْ فجأة إلى إنسانٍ هاديء والتفتتْ يميناً ثم يساراً تنظر إلى الممرضتين اللتين ما زلتا تمسكانها من ساعِدَيْها وقالت مازحة:
"خير؟؟؟ ماذا بكما؟ لماذا تُمْسِكا بي هكذا؟ هل تظنّان أني سأهرب وأترك إبني؟ حسناً، بعد إذنكما أريد أن أحمله لأرضعه."
فنظرن إليّ جميعهن في وقتٍ واحد فهززتُ رأسي موافقاً فخلَّيْن سبيلها فاتجهتْ بهدوء إلى ابنها واستلْقَتْ بجواره، وفي أقل من دقيقة كانت تغط في نومٍ عميق وهي تحتضن ابنها وابتسامة واسعة تملأ شفتيها. بعد ذلك لم تمر بهذه المواقف والحمد لله إلا مرتين فقط. كان أكثر ما يؤلمني حينها هو عدم معرفتها لابنها، كما آلمني قبل ذلك فقدُنا لطفلنا الأول والذي أجهضتْه بعد أن جاءتها نفس النوبة واستنكرتْ حملها، وكادت تجن، وصارت تضرب بطنها بقبضتيها حتى أغمي عليها فحملناها إلى المستشفى، ولا تسأل عمّا حدث لها عندما أفاقت وعرفتْ أنها فقدت الجنين رغم أننا كتَمْنا عنها ما فعلتْه.
بعد عَوْدَتنا من الطبيب بحوالي شهرين أو أكثر قليلاً حدث ما سألَنَا منه الطبيبُ، وبدأت رباب تتذكر أحياناً ولكن لدقائق معدودة، ويبدو أنها أُصِيبتْ باكتئاب أو يأس من حالتِها فقررت الهروب منها. ولكن قبل أن أحكي لكم ما حدث هنالك أمرٌ ظلّ يشغلني ولا أعرف كيف أُفَسِّرُه أو أُبَرِّرُه. فبعد عودتنا من الرياض بنحو شهر لاحظنا تغييراً جَذْرِيّاً في سلوك أسعد. في باديء الأمر كتمْتُه في نفسي لعُدَّة اعتبارات أولها مراعاة مشاعر رباب، خاصة أنها لم تتطرق للموضوع أبداً، ومنها اعتقادي بأنه شيء طبيعي وعابر للظروف التي مرّ بها ولم تكن في حسبانه. ولكن لمَّا طال الأمر عُدّة أسابيع تحدّثْتُ مع أبي عنه وفوجئتُ به يُعَبِّر لي عن قلقه وأنه ناقشه مع خالتو فوزية. الأمر كان واضحاً. فقد بات أسعد يتجنَّب الجلوس معنا أو حتى لقاءنا. صار يتهرّب من تناول الأكل في المنزل ويأتي كل يوم بحجة جديدة، فيومٌ دعاه صاحبه للغداء في مطعم، ومرة دعاه زميله، وأخرى شَبْعَان لأنه أفطر متأخراً أو صائم الخميس والاثنين، حتى التلفزيون كَفّ عن مشاهدته معنا أو حتى مع رباب في غرفتهما رغم حبه لأفلام الحركة والإثارة (الآكشن) ومباريات كرة القدم، ثم كفى نفسه كل ذلك وصار لا يأتي إلى المنزل إلا عِشاءاً. كما صار لا يتحدَّث معنا إلا نادراً. هو بطبعه قليل الكلام، ولكن حتى هذا النذر صار شبه معدوم. رباب نفسها عانتْ منه نفس الأمر، فقد كان كلما عاد من الخارج يُلْقِي عليها السلام ويُبدِّل ملابسه ويُصَلِّى العِشاء إن لم يُصَلِّه في المسجد المجاور، ثم يتجه نحو الحائط وينام. ومما زاد قلقنا أنه أصبح سريع الغضب، ليس معنا، فهو لا يحتك بنا ولا يجلس معنا أصلاً بل مع المسكينة رباب. كنا كثيراً ما نسمع صوته وهو ثائر رغم أننا لم نألف منه ذلك إطلاقاً. وكنا نسمع صراخ الطفل المسكين فتنفطر قُلُوبُنا، ولكننا لا نملك إلا البكاء. فقد منَعَنا أبي من التّدَخُّل مراعاةً لنفسية رباب، حتى عندما انْفَلتَ محمد من بيننا وأقْسَم ليضْرِبَنّه أمسك به أبي ومنعه. ومما زاد الأمر سوءاً أنه أصبح يُدَخِّن السجائر التي ما كان يعرف طريقها ويستهجنها. وأظن أن كل هذا - بالإضافة إلى غُرْبتِها النفسية - كان أحد العوامل التي دفعتْها للهرب رغم أنها لم تُصَرِّح بذلك.
بعد أكثر من شهر رجع لطبيعته وكأن شيئاً لم يكن دون أن ندري السبب، ولم نسأله، كما أنه لم يُكَلِّف نفسه الاعتذار أو شرح الأسباب. ولكن رباب أخبرتْنِي بكُلِّ هذه التفاصيل فيما بعد. كما أخبرتْني بأنها لم تكن المرّة الأولى. فبعد إصابتها بالنوبة الأولى- أي عندما استعادت ذاكِرِتَها أول مرة - ومع أنَّه كان يعرف قِصّتها لأنها كانت قد أصرّتْ على شوق أن تخبره بها لأنها لا تملك الجرأة على ذلك، وحتى عندما حاولتْ شوق إقناعها بأن تدع ذلك للأيام أصرّتْ هي على عدم الموافقة على الزواج إن لم تخبره أو ستخبره هي إن إضْطُّرتْ لذلك، فرضخت لها وأخبرته وتقبّل ذلك. بالتأكيد ليس بسهولة إذ أنها كانت قد لاحظتْ صمْتَه وتَغَيُّر وجهه قليلاً رغم أنه حاول أن يُخفي ذلك ويجعل الأمر عادِيّاً. وعاد بعد عُدّة أيام وطلب يدها من خالتي طيبة، وبعد أقل من شهرين عجّل بالزواج منها. قالت بحسرة:
"لا أدْرِي لِمَ َتغير؟ ولكنه عاد لطبيعته فجأة دون أن يخبرني السبب، ولم أسألُه لأني خفتُ من إجابته وقلتُ في نفسي: "لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ..."
قُلْتُ لكم إن رباب قررتْ الهروب. ففي يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر فبراير، وأذكر ذلك جيداً لأنه كان يوم ميلاد أحمد الصغير أو "حَمُّوُدِي" كما يناديه ولداي أحمد وخالد. حضرتُ من بيتي (عُدنا لبيتنا بعد عودتنا من الطبيب بحوالي أربعين يوماً) صباحاً كما كنتُ أفعل عندما يكون دوامي مساءاً لأقضي بعض الوقت مع رباب. سلَّمْتُ على خالتو فوزية التي كانت كالمعتاد تتابع أحد المسلسلات التركية وكانت لوحدها في المنزل إذ كان أبي وأسعد في العمل، ومحمد في الخارج مع أصحابه إذ كان قد جاء من السودان في إجازة نهاية العام الجامعي. بعد أن سلَّمْتُ عليها ناولْتُها الأشياء التي اتفقْتُ معها الليلة الماضية على الهاتف أن أحضرها (وهي صندوق فيه سيارة تُدار بالريموت كنترول وتورْتة) على أن تُجَهِّز هي الشاي وتشتري (لبْسَة) لحمُّودي، وتكَفّل أبي بشراء عربة أطفال له. ناولتُ فوزية الأغراض وذهبتُ بسرعة وفي لهفة إلى غرفة رباب (غرفتنا السابقة) ولم أنتظر حتى ولَدَيّ اللّذيْن كانا يقفان مع فوزية التي كانت تمازحهما. طرقتُ الباب بنغمة أغنية الزفاف المصرية المعروفة التي اعتدّتُ أن أنقر بها أبواب المقربين إليّ، ولما لم يُفتح الباب عاودتُ الطرْق بصورةٍ أقوى، ولما لم أتلق رداً قبضتُ المقبض وأدِرْتُ المِزْلاج برفق وأنا أَعُضُّ لساني بأطراف ثَنِيَّتَيْ، وفجأة وجدتُ أحمد وخالد بجواري فوضعتُ سبابتي على فمي وأنا أهمس: "إششش." ودخلنا الغرفة بهدوء وقلتُ بلحن وأنا أبتسم:
"صباح الخيير يا أحلى أخت. لقد حضرنااااا."
ولكن كانت الغرفة خالية. لم يخالجني أي شعور بالخوف أو القلق، فقد كنتُ أظن أن رباب في الحمّام إذ وأنا في طريقي إلى الغرفة سمعتُ صوت الماء في الحمّام. جرى الولدان إلى حمودي وجلس أحمد عن يمينه وخالد عن يساره يداعبانه بينما وقفتُ أراقبهما وأنا أنتظر رباب. فجأة قال لي خالد وقد أمسك حمودي بسبابته: "ماما، أنظري إليه، لقد أمسك اصبعي. إنه يلعب معنا ويضحك. إنه ينظر إلينا. لماذا قلتي إنه لا يرى؟" شعرتُ بإحراجٍ شديد. كيف إذا كانت أمه موجودة؟ ماذا لو سمعتهم وهي قادمة؟ طرق تعليقهما أُذُنَيّ مرةً أخرى: "ماما، ماما، إنه يرى. يريد أن يأخذ البالونة مِنّا." رغم فرحتهما تطوعتْ دمعتان بالرد عليهما وتركْتَهُما تسيلان حتى استقرتْ إحداهماعلى صدري والأخرى على إبهام قدمِي اليمنى. كلمات لم يستطع فهمها الصغيران. وظللتُ واقفة في مكاني أنتظر أختي وأنظر إلى ثلاثتهم في صمت وقلبي بعيداً عنهم. عندما انتبهتُ طرقتْ أُذنيّ أغنية لمُغَنٍّ أجنبي وكأنها آتية من الحمّام، أنْصَتُّ. نعم، ولكن مستحيل أن تكون رباب. إنه محمد. ولكن أين رباب؟ عندما طال انتظاري لأكثر من نصف ساعة جلستُ بجوار حمودي وصرتُ أداعبه. وفجأة بكى وصار يضرب برجليه وكأنه يحتج على شيءٍ ما لم يعجبه فهدْهدْتُه لتهدئته بعد أن أمرتُ ولديَّ بالابتعاد عنه حتى لا يضايقانه، ثم رفعتُه لأحمله بين يدي، وهنا رأيت ورقةً مفتوحة وعليها كتابة بالقلم الأحمر الجاف وبحروفٍ كبيرة. وضعتُ الصغير على حِجْري ببطء وصِرْتُ أهَدْهِدُه آلياً وأنا أنظر إلى الورقة بطرف عيني، ثم مددتُ يدي وأخذتُها، ولكن ما أن قرأتُها حتى كاد أن يغمى علي فوضعتُ الولد على الفراش بسرعة وهرولتُ إلى فوزية لأخبرها أن رباب قد غادرت المنزل ولن تعود، وقد تركتْ ورقة توصينا فيها كلّنا وبالإسم أن نعْتَنِي بإبنها الذي تركتْه أمانة في أعناقنا.
لكُم أن تتخيلوا موقفنا ومدى الهلع والارتباك الذي حدث لنا حتى أنني عندما فكّرتُ في الاتصال بأبي وأسعد وعادل لم أعرف أين وضعتُ جوّالي ولم يخطر ببالي أن أبحث عنه في غرفة رباب حيث تركتُه فناولتني فوزية جوالها بيدٍ مرتعشة وهي واجمة وبدون أي تعليق على غير عادتها.
جاء ثلاثتُهم مسرعين واقترح أسعد أن نخبر الشرطة فطلب أبي منه الانتظار حتى نبحث عنها فربما وجدناها في مكانٍ قريب. فوافقنا على رأيه وركبنا كُلُّنا سيارة عادل وِصرْنا ندور في الشوارع إلى أن اقترح أبي في آخر محاولة قبل تبليغ الشرطة أن نذهب إلى البحر حيث تعَوَّدْنا أن نجلس. لم يُبْدِ أيُّ واحدٍ منا موافقةً أو اعتراضاً، بل سار عادل بالسيارة وفي صمت إلى البحر. وقبل أن نصل إلى مكانِنا المعهود، رأينا امرأة تجلس على النَّجيل وظهرها إلى الطريق ووجهها إلى البحر فصِحْنا أنا وفوزية معاً ونحن نشير بسبابتينا إليها: "إنها هناك." فقبض عادل الفرامل فجأة وبقوة مما لَفَتَ انتباه أسرة كانت تجلس غير بعيدٍ منا. لم نلتفت إليهم، ولم نعتذر لهم كما كنا نفعل في مثل هذه المواقف. تركْنا الإتيكيت في البيت !!! نزلتُ وصفعْتُ الباب خلفي - على غير عادتي أيضاً – ناسيةً فوزية التي كانت تهم بالنزول خلفي فارْتَدَّ البابُ على رجلها اليمنى فصرختْ، ولكنني للأسف لم أسمع صرختها، ولم أعرف ما جرى إلا بعد أن لامَتْنِي بعد عودتنا إلى المنزل. لحظتها لم أنتبه لأي شيء حولي. كان كلُّ تفكيري يتركّز في صاحبة العباية السوداء الجالسة على مسافةٍ مني. خطوتُ بضع خطواتٍ في اتجاهها. وفجأة ومن حيث لا أدري ظهر صبي في حوالي الخامسة من عمره، إنبثق أمامي فجأة وكأنه خرج من باطن الأرض. كان الصبي يهرول وبين يديه كرة بلاستيكية مُلوَّنة تشبه كرة خالد التي تعلّق بها عندما كنا نتسوق قبل عدة أسابيع في هايبر بنده وأصَرَّ على أخذها وهو يبكي فاضطررنا إلى شراء اثنتين طبعاً تحت بند "نثريات طارئة". كان الصبي يهرول في اتجاه المرأة التي أقصدها وهو ينادي: "أمي... أمي." بالتأكيد لم انتبه لما قال بعد ذلك، بل لم أسمعه أصلاً. تسمّرتُ في مكاني، وعندما أفقتُ على صوت عادل وهو يطلب منا العودة إلى السيارة، كان أبي لا يزال متجمّداً في مكانه إلى أن رَبَتَ أسعد على كتفه وقادَه من يمناه إلى السيارة التي ما أن سارت بنا بضعة أمتار حتى رأيْنا امرأةً أخرى، في نفس جلسة الأولى، وجهها إلى البحر وظهرها إلى الطريق بيد أنها كانت تجلس على ساحل البحر قُرب المكان الذي كنا نجلس فيه معاً على السجادة التي اشتراها أبي لنا خصيصاً للبحر. كانت تجلس على حَجَرٍ على حافة الماء. كان أسعد قد جلب لنا ذاك الحجر من جوار الطريق عندما سمِعَنا نتمَنّى لو أن هنالك شيء نجلس عليه وندلدل أرجلنا في الماء. كانت جالسة على طرف الحجر وتُحرِّك رجليها داخل الماء وهي تسرح بعيداً. أوقف عادل السيارة على الطريق وطلب مِنّا الانتظار فيها على أن يذهب هو لوحده ليتأكد من أنها هي. لا أستطيع أن أصِف لكم شعورنا عندما لوّح لنا أن تعالوا والابتسامة تملأ وجهه. نعم إنها هي، إنها رباب، توأم روحي، بضعةٌ مني. هل تُصدِّقوا أنها ذهبت إلى هناك بِرِجْلَيْها؟ نعم نسكن غير بعيد من البحر، ولكن ليس أقل من ربع ساعة بالسيارة، ولم نُجَرِّب ولا مرةً واحدة الذهاب إليه سيْراً على الأقدام. طلب أبي منا الوقوف بعيداً حتى لا نفزعها، ثم بهدوء أخذ الرضّاعة من فم ابنها وأشار إليها وهو يهمس له في أذنه: "ماما." فبدأ الصبي في البكاء وهو يحرك يديه ورجليه بقوة محاولاً التخلُّص من يدي أبيه والنزول إلى الأرض. صرنا نقترب منها رويداً رويدا وابنها يزداد بكاءاً. وفجأة، وكأنها عادت فجأة من وادٍ سحيق، التفتتْ إلى مصدر الصوت، وما أن رأت ابنها حتى هبّت فزعة، ورَمَتْ المفكرة والقلم من يدها، وجرَتْ نحوه وأخذَتْه من أبيه واحتضنتْه وهي تُقَبِّل كلَّ شبرٍ في جسده. بدتْ لي كأنها لم تحس بوجودنا. وبدون أن يتفوَّه أيٌّ منا بكلمة استدرنا وهي معنا راجعين إلى السيارة وكأننا جنود أو كأننا مُنوَّمين مغنطيسياً، وفتح أبي الأبواب الأربعة الواحد تلو الآخر بحركة آلية ونحن وقوف، ثم ركِبْنا في صمت، ودخلنا البيت في صمت، وانزوى كلُّ واحدٍ في غرفته في صمت، ولم نفطر من الصيام عن الكلام إلا مساءاً عندما جهّزت فوزية شاي المغرب مع اللقيمات (التي تعمّدت أن تصنعها في ذلك اليوم) ونادتنا فالتففْنا حول المائدة المستطيلة وبدأنا نشرب الشاي في صمت. وصار محمد يلعب بأصابع أحمد الصغير في صمت، ثم أخرج جواله وصار يلعب Bubbles أو Candy Crush أو ماذا لا أدري، فجوَّالُه مليء بالألعاب الإلكترونية وأنا مُتخلِّفة في هذا المجال. كان يلعب دون أن يضع الصوت في الصامت كعادته. فهو عندما يلعب أو يشاهد التلفزيون ينسى من حوله ويرفع الصوت لأعلى درجة ويعيش حياته. بالتأكيد جذب الصوت والموسيقى التي تصاحبه حمودي فمدَّ يده وحاول أن يأخذ الجوال ولما أبعده محمد عنه – طبعاً دون أن يوقف اللعب أو حتى أن يرفع رأسه نحوه- بدأ الصغير في الصياح وهو يشير إلى الجوال فأخذ أسعد جواله من الطاولة وناوله له، وفي نفس اللحظة قالت رباب لمحمد وهي تمسك كفَّي صغيرها بين كفَّيْها: "إجلس على يساره."، ثم أضافت بنبرة يملؤها الأسى: "حتى لا يراك."
وهنا تدخّلتُ أنا وأبي وفوزية وزجرْنا محمد وخيّرْناه بين أن يعطيه الجوال أو أن ينهض من جواره فأذاب الحوار الجليد وقضينا ليلتنا بين السمر ومشاهدة التلفزيون.
أذكر أنه من ضمن الأشياء التي تَحدَّثْنا فيها ليلتها أنني قلت لرباب:
"يا ليت ابنك كان توأماً لأثبت لك أنك ابنة هذه العائلة..."، ثم أردفتُ ضاحكة: "التوأمِيّة."
فابتسمتْ ابتسامة باهتة، سكتتْ برهة ونظرتْ إلى أسعد، ثم قالت: "هو تؤام. مات توأمه بعد أن استنشق هواء الدنيا أربع ساعات."
صارت فوزية في الفترة الأخيرة تُصِّرُ كثيراً على أبي أن يأخذ رباب إلى السودان وتحاول أن تقنعه أن يذهب بها إلى شيخ ليعالجها أويضعها في مصحة نفسية لتتعالج، وكان هو يرفض ويصر على بقائها معنا وكان يردد دائماً:
"المصحة النفسية ستُوأزِّم موقفها وتزيد حالتها سوءاً، ثم ثانياً، هل تعرفين ماذا سيحدث إن أخذتُها إلى شيخ ليعالجها؟ هذا أسوأ، حتى لو كانت في بيت جدها ستكون طَبَقَاً شَهِيَّاً يتناوله الناس على موائدهم في كل الوجبات، بل حتى في أحلامهم، هذا إن رحموها ولم يأتوا لرؤيتها صباح مساء، وكما تقول أمي: "سلام بلا غرض وطيبين بلا مرض"، حتى إن كانت نواياهم سليمة وجاءوا للاطمئنان عليها فإن سهام نظرة الشفقة التي تخرج من عيونهم ستصيبها في مقتل. رباب لا تحتاج للشفقة، رباب تحتاج لرعاية أُسَرِيَّة وعطف لكي..."
وقبل أن يكمل قاطعته فوزية بلهجة صارمة: "رباب تحتاج لصدمة نفسية كي ترجع لها ذاكرتها.."، ثم همهمتْ: "هذا إنْ رجعتْ."
طعنتْنِي عبارتُها في مقتل، ولكني لم أرُد عليها بل قذفْتٌها بنظرةٍ نارية جعلتْها تطأطيء رأسها. لم أرُد عليها خوفاً على أبي وعليها منه إذا عرف ما قالته. ورغم أنه لم يسمعها ثار وقال مؤكداً في إصرار: " رباب ستبقى (وأشار بسبابته إلى الأرض بقوة) هنا، في بيت أبيها، وستواصل علاجها مع الطبيب النفسي الذي بدأ معها العلاج هنا، وإن اقتضى الحال بعد ذلك علاجها في السودان أو أي مكان على وجه الأرض سنذهب جميعنا. لن أرمي بنتي في مصحة عقلية مع المجانين."
فرَدّتْ فوزية باستياء: "من قال لك أرمها مع المجانين؟ أنت إنسانٌ متعلم وتعرف أن ..."
قاطعها وهو يشير بيده متسائلاً بغيظ: "وما علاقة التعليم بذلك؟ ثم أنا أمي وجاهل في كُلِّ ما يمس أولادي."
ردّتْ بهدوء وهي تضم أصابع يدها اليمنى سوياً كأنها تريد أن تقول له اصبر: "بالله عليك حاول أن تفهمني ولا تسيء الظن بي. أنا أقصد أن علاجها سيكون أسرع وأجْدَى إن أخذتها إلى...."
قاطعها بحِدّة وهو يضرب الطاولة بكفه (هذه أول مرة في حياتي أرى أبي يثور بهذه الطريقة):
"وما دورنا نحن؟ لماذا جعلنا اللهُ تعالى عائلة؟ نحن نحاصرها في كل حين وكل مكان بصُوَرِها في كل مراحل عمرها مع كل أفراد أسرتها، لماذا؟ لتحس بالانتماء والمساندة. لتحس بالحب والأمن. ستتحسن رباب، بل ستُشفى تماماً وسريعاً بإذن الله وسترين ذلك."
ثم لانت نبرتُه وهو يضيف: "نحن هنا نحتضنها، نوفر لها الحنان والرعاية، نزيل مخاوفها، نشد أزرها. لا المصحة ولا أي مكان أو شيء أو أي شخصٍ آخر يمكنه أن يجعلها تحس بالأمان، نحن فقط، أهلها، من يستطيع أن يفعل ذلك."
من وقتها تجنبتْ فوزية الحديث في هذا الأمر. وعلى الرغم من أنني كنتُ أحس بأنها صادقة في تعاطفها مع رباب إلا أنني لم أتفق معها في رأيها هذا.
ومَضَتْ الأيام بحُزْنِها وفرحِها إلى أن وقع حادث هروب رباب. وهنا حدث تغيير جذري في موقف أبي. لا ألومه، فالواقعة رغم بساطتها إلا أنها هزّتنا جميعاً وجعلتنا نعيد حساباتنا. يبدو أن هذا الحدث الصغير قد أحدث شرخاً كبيراً في نفس أبي فقرر ودون أن يشاورنا أن يسافر برباب إلى السودان ويعرضها على بعض الأطباء هناك أيضاً. وسافرنا مع رباب وابنها إلى السودان، أبي وأنا بعد أن أخذنا إجازتنا السنوية مقدَّماً بعد عدة محاولات.
الحمد لله. أعْتَبِرُ رحلتنا للسودان كانت مُوَفَّقَة. عرَضْنا رباب على طبيبيْن ورفعا معنوياتنا- حتى رباب - بثقتهما في شفائها وقريباً بإذن الله، فانعكستْ الفرحة على وجهها وفي تصرفاتها. صارت أكثر اختلاطاً بالناس وعادت إلى قراءة الروايات بلهفة كما كانت تفعل، بل كانت أحياناً تعلِّق لي على بعضها. بعد الأسابيع الثلاثة الأولى التي قضيناها بين الخرطوم وشندي أصرّتْ رباب على السفر إلى القضارف[12] لتُعرِّفنا على رشيدة أو شوق التي آوتها ففعلنا بعد أن عرّجنا على أهل زوجها للسلام عليهم. كنتُ متحمسة لمقابلة رشيدة لعلنا نجد عندها حلاً للغز فترة غياب رباب عنا، ولم أُفاجأ عندما أخبرتُ أبي بذلك ووجدتُ عنده نفس الدافع.
وقد كان، إذ لم تُخيِّب رشيدة أملنا، وملأت كثيراً من فراغات الكلمات المتقاطعة التي تكوّنت في رؤوسنا من كثرة الأسئلة التي نحاول إيجاد إجاباتٍ لها. بدأتْ بالحديث عن كيف التقتا. قالت:
"كنتُ أتناول الفطور في كافتيريا مستشفى الأمل بكريمة مع بعض زميلاتي الممرضات..."، ثم ضحكتْ وهي تقول: "إعْتدْنا أن نفطر سوياً كنوعٍ من التوفير."، ثم واصلتْ: "الكافتيريا تقع في الجهة المقابلة للبوابة مما يتيح للجالسين فيها رؤية كل من يدخل المستشفى لذا كان من السهل علينا أن نرى منال وهي تدخل من البوّابة. لم يستوقفها الحارس لأنه بالتاكيد ظن أنها مريضة. ولكنها لفتتْ انتباهنا بمشيتها البطيئة وبرِجْليها المعفّرتين مما يوحي بأنها مشت مسافةً طويلة عليهما، ومما يؤكد ذلك جفاف شفتيها ووجهها الكالح. لاحظنا كذلك أن بلوزتها السوداء قد تمزق كُمُّها الأيمن حتى كاد أن ينفصل عن بقية البلوزة لولا ذلك الشريط الأزرق الذي يربطه بها. وكانت تنظر بعينين زائغتين تدوران في المكان كمن يبحث عن شيء لا يعرفه. أثارتْ فضولَنا فتابعناها بأعيننا..."، ثم واصلتْ بعد أن ضحكتْ ضحكة قصيرة: "من ذلك الموقع الاستراتيجي - في تجوالها في كل الأماكن التي تقع في مرمى نظرنا. كنا ننقسم إلى فئتين..،"، ثم ضحكتْ مرةً أخرى وهي تقول: "فئة لا ترفع عينيها من طبق الطعام حتى يصبح فارغاً، والفئة الأخرى، والتي أنتمي إليها بكل فخر، كنا نأكل ورادارات عيونِنا تطوف المكان حولنا ونُعلِّق على كل شاردة وواردة، حتى النملة تدب بين أرجلنا وهي تحاول أن تَجُر فتات الخبز الذي يسقط من أيدينا سهواً. لم يسْلَم من تعليقنا حتى المارّة الذين يقصدون السوق مروراً بجوار حائط المستشفى الذي قصّرتْ قامتَه جيوشُ الرمال التي طوّقت المستشفى من كل جانب. كنتُ أنا أول من رأى منال وعلّق عليها ولفت إليها انتباه البقية. أذكر أنني قلتُ وأنا أشير إليها بقطعة الخبز التي قطعتُها لأغمسها في طبق الفول المترع بزيت السمسم والذي يرقد تحته بعضُ فتات الجبنة المبشورة: "أرايتن تلك الفتاة؟ ذات البلوزة السوداء، هناك بجوار البوابة، لا، بجوار عنبر العظام، لا، تحركت، هي الآن بجوار عنبر الأطفال. يا إلهي لقد (زغللتْ) عيوني، لماذا لا تبقى في مكانٍ واحد؟ ما بها تتحرك من مكانٍ لآخر ولا يمكن الإمساك بها كالزئبق؟" ردّتْ عليّ إحدى زميلاتي اسمها نادية وكأنها تحاول أن تخفف عليّ التوتر الذي أصابني بلا مبرر: "هوِّني عليك فنحن نراها. إنها إنسان ... (وأشارت بيدها) طوييل وعريض وليست جِنِّيّة أو بكتيريا لا تُرى بالعين المجردة." فضحكنا كلنا بصوتٍ عالٍ حتى أن عم هاشم الخفير (المُلقّب سراً بفُضُولي) التفتَ إلينا واللقمة متجمدة في يده وفمُه مفتوحاً في انتظارها، وبعد ثوانٍ من الانتظار غير المُجْدِي سألنا عمّا يضحكنا ولمّا لم نُجِبْه لاستغراقنا في الضحك لم يستطع مقاومة فضوله فوضع اللقمة على طرف الطاولة وجاء إلينا ووقف بجواري وارتكز بيديه على الطاولة وسألني عن السبب الذي يُضحكنا فحكيتُ له ببراءة وصِدْق السبب فهزَّ رأسَه غير مقتنع وعاد إلى مكانه يجرجر رجليه خيبةً وهو يتمتم مغتاظاً: "بنات فارغات. الضحك بلا عَجَب قِلَّة أدب."
وقد أثار تصرُّفُه ذاك بعض التعليقات من حوله من بين مؤيدٍ ومعارض بينما انشغلنا نحن بمتابعة منال التي كانت قد اقتربت من الكافتيريا وهي تجرجر رجْليها وتتلفتْ كمن يترقب شيئاً يخشاه وقد عصبتْ جبهتها بطرف طرحتها ذات اللون الأزرق الفاتح،" قاطعْتُها مؤكدة: "نعم، كانت تحب اللون الأزرق، وكانت لديها بلوزة سوداء واشترت طرحة زرقاء خصيصاً لتلبسها معها." هزّت شوق رأسها، ثم واصلتْ سرد قصتها وهي تمد يديها لرباب لتأخذ منها حمودي الذي كان يرفع يديه لها لتحمله: "وبدتْ بقع دم تحت الطرحة. وعندما لاقت نظراتُها نظراتي أشّرْتُ إليها أن تقترب فتسمّرتْ في مكانها. وعندما رأت عُدَّة أيادي تشير إليها وتحثها على الاقتراب ظنّت أن الكلام موجّه لأحدٍ خلفها فالتفتتْ وراءها ولمّا لم تجد أحداً عاودت النظر إلينا وقد ارتسمتْ على عينيها علامة استفهام مشوبة بخوفٍ ظاهر فأشرنا لها مؤكدات أن "أنتِ...أنتِ." فاقتربتْ في حذر. ولما رأيتُ ترددها ابتسمتُ اطمئنها وأشّرتْ لها أن تعالي كُلِي معنا، وهنا وقفتْ مكانها وهزّتْ رأسها نافية فانحنيتُ وهمستُ في أذن نادية التي كانت تجلس بجواري وهمستْ هي في أذن جارتها، وهكذا، ثم أنحنينا جميعاً على الطاولة وتداخلت رؤوسُنا وتناجينا دون أن ننظر إليها حتى لا نزيد جزعها. وعندما انفض الاجتماع الهامس نهضّتُ وأنا أسحب الكرسي إلى الوراء فاحتكت رِجْلُه الحديدية ببلاط الكافتيريا الذي مدّ الحصى رأسَه من بين طيّاته القديمة فأحدث هذا الاحتكاك صوتاً عالياً جعل كثيراً من الجالسين ينظرون إليّ وفي رؤوسهم ونظراتهم آراءٌ شتّى. إتجهتُ في تأنِّي إلى منال أقصد رباب." صمتتْ قليلاً، ثم واصلت:ْ "بالمناسبة، انتبهنا من اللحظة الأولى أنها ترددتْ قبل أن تخبرنا بإسمها ، لكن بصراحة، لم يخامرني الشك لحظة في أنه قد لا يكون اسمها الحقيقي، بل ظننتُ أنها تخاف منا أو لا تريد إخبارنا باسْمِها لأي سبب آخر."، ثم ابتسمتْ وقالت وكأنها تحاول أن تُلَطِّف الجو قليلاً: "أمرٌ عادي." وأضافت وهي تشير إلى نفسها: "أنا مثلاً إسمي رشيدة، ولكن الجميع يناديني شوق، وأكاد أجزم أن معظم الناس لا يعرفون أنه لَقَب وليس اسمي الحقيقي."، ثم أكملتْ حديثها الذي كنا نصغي إليه وكأننا تلاميذ مجتهدون يستمعون لمعلمهم أو أطفال ينصتون بشوق إلى إحد