Nonsensical pieces of writings on Layla Cultural Platform

اليقين

On 26/07/2019 by Mr.Abbas


..

في صباح يوم أحد، كان ثيودور إسحق غير معروف الجنسية على وشك أن يضع كوب القهوة على الطاولة بعد أخر رشفة ارتشفها حين راودته إحدى أفكاره التي تأتيه باستمرار، كان هذا بعد ثلاثة أسابيع من إتمام عامه الثالث و الثمانين، و مع ذلك لم يكن ثيودور يرى بأنه قد كبر في السن بل لا يزال في زهرة شبابه، فبالرغم من أن الرجل يتوكأ على عصاةٍ و يعاني دائماً من حموضة المعدة و ينام في أي مكان فجأةً، إلا أنه لا يسمح لأحد بالحديث معه في موضوع سنه و مآلاته الصحية، و يكره حتى الدخول في نقاشاتٍ عامة مع أي كان في أي موضوع، و لا يكاد يُعرف شخصٌ استطاع الجلوس مع ثيودور في طاولةٍ واحدة و الحديث معه غير الطبيب الشرعي يوهان يانكيز، الذي يتناول دائماً إفطار السبت مع ثيودور و يتحدثان. خلا هذه اللحظات، فلم يكن ثيودور يُرى و هو فاغر فاه ليتحدث، و إن فتحه فإنه يكون يكيل سيلاً من الشتائم لأي شيء، قطة، حجر، بيت و حتى الجو، و هو ما جعل أن يتبادر في ذهن معظم من يصادفه بأن ثيودور ما هو إلا عجوزٌ ناكرٌ لسنه ذو أخلاقٍ ضيقة، و لكن الحقيقة عكس ذلك، فثيودور الذي ولد في أسرةٍ لم يُعرف لها أبٌ واحد وسط إثني عشر أخاً و أخت واحدة كان دائماً سعيداً. فقد كان ذلك الصبي الذي له شفاهٌ كبيرة و مبتسم دائماً مضرب المثل في بياضِ الأسنان، يُمثّل نسمةَ منزله. 

منذ سن الحادية عشر ،و في صيف ربيعه ذاك، بدأ ثيودور يرى العالم بطريقته، ففي يوم أحدٍ و أثناء قداس القس كولينز، لاحظ ثيودور بأن اثنين فقط من الحضور ينتبهان مع القس، و البقية منهمكين بفعل أشياء أخرى ليس لها علاقة بالقداس. فذاك جيمس روبرتس ينظر لأنجلينا لويس و يتواعدان سراً بلغة الأعين، و ريبيكا رايت تتفحص جسد السيد لوكا الذي يجلس أمامها بطريقةٍ لم يفهمها إلا بعد عدة سنوات حينما غمرته فينوس حبه الوحيد طوال حياته بتلك النظرات، و صبية آل ريتشارد يجلسون و يتحدثون و يضحكون بطريقة توضح أنهم في جلسة نميمة. عدا أمه روبي و الجدة سيدونا لم يكن أحد ينتبه لما يقوله القس، و لا يجتمع الجمع على شيءٍ إلا حينما يقول القس كولينز: (فليغطنا أبانا الذي في السموات و ليجعل روحه القدس ترفرف حولنا أثناء كل أعمالنا في هذا الأسبوع ) فيقول الجمع متفقين: ( آمين). في عشية ذلك اليوم جلس ثيودور يفكر في إذا ما كان الرّب موجود، و إذا ما كان موجوداً فإنه لا يحتاج لمجيئنا كل أحد لنقابله، و أنه إذا كان موجوداً فلن يسمح بتلك التصرفات داخل الكنيسة، و عن حقيقة أن الرّب موجودٌ في كل مكان ، و حتى إن وجد فهل العالم كله يؤمن بوجود هذا الرّب أم أن أمه و جدته و القس هم فقط من يؤمنون به، و كانت تلك اللحظة في عشية ذلك الأحد ابتداء لحبل أفكار لم ينقطع إلا مرة واحدة في أحد آخر بعد اثنان و سبعون عاماً من ذلك اليوم، مكث ثيودور يفكر لوهلة ثم ما لبث أن خرج من حبل الأفكار هذا بتوصله لقناعته التي تبناها حتى قبل ساعاتٍ من وفاته و صدح بصوتٍ عالٍ في طاولة العشاء :( لن أذهب إلى قداس القس كولينز بعد اليوم ). 

في الأسابيع اللاحقة، كان يرتدي بذلة القداس كل أحد و يذهب لجوار معمل الخشب و يجلس هنالك يستمع لأحاديث العمال، و بدأ يُعجب بحكاوي اليوناني قسطندي الذي كان يتحدث دائماً عن أسفاره و عما قابله في حياته. و بعد سنتين من أخر حكاية لليوناني قسطندي الذي وجد ميتاً بعدها في بيته نتيجةَ إفراطه في شرب الكحول، قرر ثيودور و في سن السادسة عشر عشر أن يترك بلدته لاستكشاف العالم و يعيش قصص قسطندي بنفسه. ما بين مباركة جدته و اعتراضات أمه خرج ثيودور يحمل حقيبةً بها بذلة القداس و بيجامةَ نومٍ و ثلاث ربطات عنق و لم يعد منذها لبلدته. 

بعد عدة سنوات، و في سن الثامنة و العشرين تكونت لدى ثيودور خبرة كافية للتعرف على شخصيات الناس، فبعد عمله في ميناء بالبوا كحمالٍ لمدة ثلاث سنوات علم بأن أصحاب المال سيفعلون أي شيء ليتحايلوا على القانون، و بعد سبع سنوات في خمارةٍ في البيرو- حين عرف حبيبته فينوس - كان قد شاهد كل أشكال سيئي الأخلاق و أصبح يميزهم من على بعد ميل. و بعد سنتين في معظم بحار العالم على متن سفينة المد العظيم التابعة للحكومة المجرية تعلّم أن تكون وحيداً يعني أن تتعامل مع كل أحداثك بنفسك، و الآن في عمله الحالي كخباز في مخبز تركي في اسطنبول علم بأن الرب واحد و لكن كل يعبده على هواه. في ذلك الزمان كان ثيودور قد ربّى مفاهيم كثيرة و لربما أهمها لديه كان أن الرّب جيد و لكن الناس هم السيئون و لا يوجد إنسان صالح، فقط يوجد إنسان به عيوب و تتفاوت درجة العيوب هذه من شخص لأخر، بيد أنه لم يخرج من هذا التصنيف سوى ثلاثة أشخاص الجدة سيدونا و حبيبته فينوس و الطبيب الشرعي يوهان يانكيز، حتى أمه روبي لم تكن صالحة في نظره فاعتقاده بأن لديها أبناءاً من تسعة أشخاص مختلفين كان كافياً له ليخرجها من هذا التصنيف. 

في مساء يوم ثلاثاء، و بعد استقراره في قرية صغيرة تقع على ساحل المحيط الأطلسي، كان ثيودور ،الذي احتفل لوحده بعيد ميلاده الثالث و الأربعين قبل خمسة أيام، يستعد لوضع الفاصوليا التي طبخها في طبقٍ ليتناول عشاءه حين سمع نقراً خفيفاً في الباب. حين فتحه للباب وجد ثيودور أمامه رجل يكاد يماثله في السن يرتدي بذلةً مخملية ذات لون رمادي و صديري له نفس اللون، و ساعةً ذهبية مربوطة بسلسل يمتد من طرف البذلة و حتى جيب الصديري في الداخل يرتدي قبعة لها نفس اللون و يضع شمعاً لتلميع و تثبيت شاربه معقود الطرفين، و تفوح منه رائحة عطرِ الخزامى و التي ستعلق في ذهن ثيودور حتى وفاته. بشعره البني الغزير و لكنته الواضحة لم يكن ذلك الشخص إلا الطبيب الشرعي يوهان يانكيز الذي ألقى التحية بلطفٍ على ثيودور بعد فتحه الباب و سأله إن كان يستطيع أن يأتي معه لمساعدته في تحريك العمة إيما جارة ثيودور، بعد سقوطها على الأرض حيث كانت مريضةً في بيتها، و لولا أن الطبيب يانكيز كان ماراً بالصدفة و سمع صوتها تئن لم يكن أحد ليعلم ما حل بها، حتى ثيودور الذي كان جارها لم يكن ليعرف، فالرجل الأربعيني كان يخرج في الصباح الباكر ليصطاد سمكاً و يبيعه في صمتٍ في سوق القرية، و بنفس هذا الصمت كان يشتري بما تحصل عليه من نقود احتياجاته الخاصة و مستلزمات بيته فقط بالإشارة إليها دون أن ينطق بحرف واحد. وافق ثيودور من غير أن يعلم لماذا، و لزمن طويل راح يتساءل عما إذا كانت هي بذلة الطبيب يانكيز المخملية و الساعة الذهبية على صدره أم هو شاربه الذي يبذل الطبيب جهده لوضع الشمع عليه أم صوت الطبيب هو ما دعاه للموافقة؟ ما يعلمه فقط أن هذه اللحظة هي التي بدأت فيها علاقته بالطبيب يانكيز .بعد أن ساعد ثيودور في تحريك العمة إيما، أعطاه الطبيب ورقة بها مجموعة من المواد ليحضرها من العطار لم يعرف ثيودور منها غير  مسحوق نبات الخشخاش و قشرِ البرتقال المر حيث كانت تستخدمهما الجدة سيدونا لتخفيض الحمى.

 بنفس صمته المعهود، أحضر ثيودور كل الاحتياجات و سلمها للطبيب يانكيز الذي أخبر ثيودور فيما بعد بأن العمة إيما قد شُلّت و أنها تحتاج لرعاية كاملة، و سأل ثيودور عما إذا كان يستطيع رعايتها، و مجدداً لم يعلم ثيودور ما الذي دعاه للموافقة. بعد سبعة أشهر من رعاية ثيودور للعمة، توفيت نتيجة حمى قاسية، بالرغم من أن ثيودور تعلّم من الطبيب،الذي كان خارج البلدة، كيف يصنع شراباً مخففاً للحمى إلا أنه في ظهيرة يوم الأربعاء ذاك لم تنجح كل محاولاته لإنقاذ العمة، و رحلت في صمت. ذهب ثيودور بعد وفاة العمة بلحظات لإخبار القس يوناكس اليوناني بما حدث، و تم دفنها بعد طقوس التوبة الأرثوذكسية في صباح يوم الخميس في جنازة لم يحضرها إلا ثيودور و القس و قاضي المنطقة. بعد انتهاء مراسم الجنازة، أخبر القاضي ثيودور بأن عليهم تفتيش البيت حتى يبحثوا عن أي وصية للعمة و إلا سيؤول البيت بما فيه في حالة عدم وجود وصية لحكومة منطقة جنوب الساحل الأطلسي و يباع في مزاد علني. بعد تفتيشٍ دقيق، عثر القاضي على ورقة تحمل ختم العمة تخبر فيها بأن صندوق مجوهراتها كله يؤول لثيودور و أن البيت يباع في مزاد و يذهب نصف ثمنه لثيودور. بعد أسبوع من ذلك التاريخ، جاء قاضي المنطقة و هو يحمل صندوق المجوهرات و مبلغاً يعادل ٤٨٦٠ عملةً ذهبية و سلمها لثيودور، و كانت تلك أول مرة يحصل فيها ثيودور على هذا القدر من الثروة و لربما الأخيرة، و إلى حين وفاته لم يعلم أحد ماذا فعل ثيودور بهذا المبلغ. 

في مساء يوم الجمعة صادف ثيودور الطبيب و أخبره بما حدث، و هنأه الطبيب و دعاه لتناول وجبة الإفطار معه في الصباح الباكر. في صباح اليوم التالي تأنق ثيودور ببذلته البنية الوحيدة و ذهب لمنزل الطبيب في الجهةِ المقابلة للقرية حيث كان يتوجب عليه  للوصول إليه المرور بجوار الكنيسة ثم بمحاذاة مخزن جوستافو الذي تحول فيما بعد لمقهى العربي جمال ثم ساحة العذراء كاترينا وصولا لمنزل الطبيب. كان منزل الطبيب مبني على الطراز القديم، متعدد الغرف ذو حديقة كبيرة، و كان للمنزل شرفة أمامية واسعة يستخدمها الطبيب للجلوس عليها و تناول إفطاره، و هي نفسها الشرفة التي شهدت آلاف اللقاءات الأسبوعية بين ثيودور و الطبيب في الثلاثين سنة القادمة. عند وصوله، وجد ثيودور الطبيب كعادته يرتدي بذلته المخملية و يضع ساعته أمامه بالقرب من كتابٍ ما، و كوب الشاي نصف الممتلئ يربض بجوار صحن به بقايا سيجار كوبي فاخر. رحب الطبيب بثيودور و نادى على زوجته روزاليندا و عرفها عليه، و التي بدورها أخبرته بأنها اليوم قد غيرت قائمة إفطار الطبيب يانكيز المعتادة لحضوره كضيف لهم و أنه سيستمتع بفطائر المربى المنزلية و العسل التي تعدها. كانت وجبة الإفطار تلك الأولى لثيودور منذ أعوامٍ طويلة تحمل رائحة الدفء الأسري فكل وجباته في السنين الماضية كانت تجمعه هو و ظله الذي يتراقص بقربه على الحائط ، حينها أحس بأن شعورا كهذا لن يجده في مكان آخر و أنه حتى بعد أربعين عاماً من ذلك اليوم حين يقابل أخاه إيمانويل لن تتملكه هذه العاطفة مجدداً و تأكد أن ذكرى الطبيب يانكيز إذا فرقتهما الدروب في يوم ما هي الذكرى الوحيدة التي ستبقى عالقة في ذهنه مع ذكرى فينوس. 

في السنين التي تليها، بدأت علامة الكبر تظهر على ثيودور و أصبح يحتاج لعصاة لكي يتفادى ألم ركبته اليمنى، و مع استخدامه للعصاة بدأت إنحناءةٌ متوسطةٌ في الظهر تظهر. و كان دائماً ما يفكر في حبيبته فينوس، و في أنه لا جدوى لحياته، و أن الطبيب يانكيز شخصٌ صالح و أن كل أهل القرية ينظرون لعلاقتهم كشيء غريب، و أن الرّب موجود لكنه غير متأكد من هذا، و أن الروح القدس توقف منذ خمسة أعوام من الرفرفة حوله، و أنه لم يعد يعبأ بالزمن و بتوقيت معين عدا توقيت إفطار السبت مع الطبيب، و لم يكن يقطع حبل هذه الأفكار إلا ألم ركبته اليمنى و صوت إبريق الشاي بعد غليان الماء فيه، فعادة شرب الشاي، الذي غيرها بعد بلوغه السبعين بشرب القهوة في مقهى العربي جمال، كان قد اكتسبها من الطبيب يانكيز. و كان ثيودور يمقت نفسه حين يبدأ خيط الأفكار هذا و يكره أكثر حقيقة أن أحداً ما سيقطع حبل هذه الأفكار من غير أن يعرف ثيودور نهايتها، و حتى وفاته لم يعلم أي أحد بأن ثيودور يكيل السباب لنفسه لعدم معرفته نهاية تلك الأفكار. 

بعد سنين طويلة، و بعد بلوغه عامه الثالث و الثمانين بيومٍ واحد، و في صبيحة يوم اثنين، جاء صبي لثيودور يخبره بأن غريباً من البلدة يبحث عنه، كال ثيودور للفتى السباب ثم سأله عن مكان هذا الشخص الغريب، و توجه بعد علمه بمكانه إلى مقهى العربي جمال حيث كان الشخص ينتظره هناك، و طوال الطريق كان ثيودور يكيل السباب لنفسه بعد أن أيقن بأن هذا الشخص سيدخل في حبل الأفكار الذي يخصه. حين دخوله إلى المقهى عرف ثيودور الشخص من سحنته التي تشبهه و ملامحه التي لم تجرفها السنين كثيراً عن ما كانت عليه،  لم يكن هذا الشخص إلا إيمانويل أخاه الذي يكبره بعامين. تدحرجت في تلك اللحظة كمية مهولة من الذكريات على عقل ثيودور الذي كان دائماً ما يتجاهلها و يتجنبها، حيث أن أخر مرة تذكر ثيودور أسرته كان في ذلك المساء البعيد في إحدى الليالي الشتوية عندما كان مستلقٍ على صدر فينوس في بيتها في البيرو حين سألته عن عائلته. 

لم يتوقع إيمانويل أن ثيودور سيستقبله بهذه الطريقة فبعد سيلٍ من السباب له و للأم روبي و إخوته و القس كولينز و أبناء آل ريتشارد طلب منه أن يغرب عن وجهه و ألا يتحدث معه، و ألا يخبرَ أحداً بمكان تواجده و خرج من مقهى العربي جمال من غير أن يلتفت خلفه وسط حيرة من رواد المقهى و إيمانويل . بعد أسبوعين اجتاحت ثيودور عاطفة جياشة حين اشتاق للجدة سيدونا و لفينوس فقد حركت رؤيا إيمانويل داخله بحيرةً راكدة لم يستطع في يوم أن يحركها ، و تمنى أن يعرف مصيرهما، و طفق طوال الأسبوع الذي يليه يفكر فيهما، و لأول مرة منذ ما يقارب السبعين عاماً انقطع حبل أفكار ثيودور المعتاد و فكر في شيءٍ جديد. 

في صباح يوم الأحد، و أثناء القداس، تفاجأ القس يوناكس بدخول ثيودور لقاعة الكنيسة و هو يتوكأ على منسأته، ثم انزوى في مقعدٍ في الصف الأخير من الكنيسة. استمع يومها للقداس كما لم يسمعه من قبل، و أيقن بأن الرّب لم يتركه هو و روحه القدس للحظة و أن القس و القاضي و الطبيب و حتى الصبي الذي أخبره بقدوم إيمانويل يستمعون للقس بإنصات، و أنه ربما يكون هناك أناسٌ صالحون مع الجدة سيدونا و فينوس و الطبيب يانكيز، و أنه الآن يعيش لحظة من أسمى لحظاته الروحية طوال حياته. خرح ثيودور بعد نهاية القداس و هو ينظر بسعادة نحو السماء، توكأ على عصاه حتى وصل مقهى العربي جمال، طلب قهوته و شربها في صمت و هو يسمو بروحه بعيداً عن المكان و يفكر في كم السنين التي ضيعها وحيداً، و في ماذا كان الحال سيؤول إذا ما وافق علی مرافقة فينوس إلی مدينة براغ ، و من حيث لا يدري فجأةً، بدأت نفس الأفكار القديمة تراوده من جديد. وضع ثيودور كوب قهوته و توجه صامتاً نحو منزله، و هو ما لم يعهده العربي جمال منه فقد كان يمكث حتى وقت الظهيرة،كان يمشي من غير أن يتكئ على عصاه و كأن ألم ركبته اليمنى لم يكن موجوداً من قبل، و استقام ظهره من انحنائته المتوسطة و رجعت قامته كقامة ثيودور الشاب و حال وصوله لمنزله دخل و أغلق الباب عليه. 

في مساء ذلك اليوم، كان الطبيب يانكيز مستلقٍ على فراشه بالقرب من زوجته النائمة و هو يقرأ في كتاب ديسقوريدس (المواد الطبية) ، وضع الطبيب نظارته على الطاولة حينما لاحظ على الأرض خيطاً رفيعاً من الدم يتسلل من تحت الباب، نزل الطبيب من سريره و هو يرتدي قميصَ نومٍ قصير من الكتان ذو أكمامٍ طويلة و اسفنجٍ في الأكتاف، و بعد ارتدائه خف الصوف خاصته بدأ في تتبع خيط الدم، نزل الدرج و فتح الباب ثم تحرك في إتجاه ساحة العذراء كاترينا حيث كان خيط الدم يصل لهناك، و تابع مشيه و هو لا يرفع عينيه عن خيط الدم، وصل لمقهى العربي جمال حيث كان الدم يلتف بمحاذاته نحو كنيسة القس يوناكس، و من ثم يلتف نحو الساحل حيث منزل ثيودور. في تلك اللحظة كان الجميع ينظرون باستغراب لملابس الطبيب الغريبة فهم لم يروه من قبل في غير بذلته المخملية فتبعوه ليعلموا ما به. وصل الطبيب و الجمع لعتبة منزل ثيودور حيث كان خيط الدم يصل لهناك، حين هم الطبيب بطرق الباب وجد بأنه غير مغلق، و حينما دفعه شاهد الجميع ثيودور في كرسيه و الدماء تنزل من رأسه و المسدس في يده، و بالقرب منه في الطاولة يوجد ورقة مطوية. بعد لحظات صمت طويلة و بعد أن تأكد الطبيب من وفاة ثيودور، أخذ القاضي الورقة لعلها وصية ثيودور فوجد مكتوباً فيها بخطٍ مهتز : ( إن حبل الأفكار و الوحدة لا تشبهانني بعد اليوم أيها العزيز يانكيز) .



-= Share this blog post =-