مدخل :
أن تمارس كل يوم حياة بلا شغف يجعل روحك تتلاشى و كأنها ملح.
نص :
عندما كان حمزة النور يمشي في مساء يوم ثلاثاء في نفس الطريق الذي يسلكه منذ سنوات عائدا لمنزله، توقف فجأة و كأن لسعة ما أصابته. كان ذلك الإحساس و الذي جعله يدرك حقيقة مهمة بعد عمر طويل ما هو إلا نتيجة تراكمات لأحداث حدثت على مدى سنوات طويلة قل ما انتبه لها، و لكن ما جعله يتوقف في تلك اللحظة كان تذكره لكلام الرشيد الجيلاني رفيقه في السوق في ظهر ذلك الثلاثاء.
حمزة الذي كان يعمل كمحاسب لأكثر من ثلاثة عشر سنة مع السيد حسن الفاتح تاجر الغلال المشهور، ينتظر كل يوم وقت الإفطار ليخرج من زحمة العمل و ينزلق في حديث مطول مع الرشيد ترافقهم أكواب الشاي. بدأ الرشيد قبل ست عشر من السنوات بالعمل كحمال في السوق، ينقل البضائع من المخازن للمحلات أو لشاحنات النقل، و لم يكن يجادل في سعر عمله، حتى أنه كان لديه جملة واحدة تندلق بهدوء في كل مرة كإجابة للسؤال عن أتعابه فيقول :" على الرحمن الرحيم "، حتى توقفت تلك الجملة قبل سنتين حين اكتشف الرشيد أنه أصيب بمتلازمة النفق الرسغي و أصبح العمل مضنيا بالنسبة له و قد يؤدي لمآلات أخرى، فأشفق السيد حسن الفاتح عليه و عينه مسؤولا عن مخازنه بعد جلوسه في المنزل لعدة أسابيع. ما كان يبقي حمزة متلهفا لحديث الرشيد اليومي أن الرجل يتحدث بشجن عن أيام الماضي و لديه من القصص و النوادر عن السوق ما يخولها لتكون كتاب يعنون ب (حكايات ونوادر في سيرة سوق أم باكر)!!
في صباح ذلك الثلاثاء، خرج حمزة من منزله قاصدا السوق بعد عادة الجدال اليومية مع زوجه روضة الشيخ عبد العال، و هي نفس العادة التي ورثها من أبويه، و كانت روضة هي بنت عمه التي تزوجها تحت إلحاح والده. بعد جداله معها، و في طريقه للسوق ذلك الصباح، قابل جعفر البقال الذي ذكره بديونه كعادة كل صباح، ثم ركب مع جبارة سائق الحافلة الذي ينتظر ركبا من أهل قرية (أم ضريوة) ليتجه بهم إلى سوق أم باكر. تبادل التحايا مع جبارة و جلس كعادته بقربه يستمع صامتا لشكواه اليومية التي تدور حول الإسبيرات و أسعارها و غلاء المعيشة، و كعادته أيضا كان يرد بجملة قد تعكس لوهلة أنه لم يكن منصتا و لكن جملته هذه لم تكن إلا ردا مثاليا حين لا يجد بحق ما يقوله في مثل هذه أوقات فكان يقول: (الدودة في واطاتها الكريم بيرزقها و نحن ما بينسانا معاها). نزل حمزة بعد مسير ساعة إلا بضع دقائق في بداية السوق متجها نحو وكالة غلال السيد حسن الفاتح مارا ببدرية بائعة الشاي و علي الترزي و كمال صبي دكان الإجمالي، و كعادته ألقى عليهم السلام و اتجه للوكالة منكسا رأسه نحو الأرض متمسكا بحقيبته و يقفز بين حفر الطريق ككل يوم. في صباح ذلك الثلاثاء و بعد أن فتح الوكالة و راجع حسابات الأمس، جلس حمزة - الذي كان مطلعا و قارئا نهما- واضعا رجلا على رجل يحك في لحيته الصغيرة بعد أن راودته فكرة العود الأبدي الذي قرأها قبل عدة سنوات في أحد الكتب. كانت فكرة العود الأبدي تدور حول مفهوم أن الأحداث تعاود في الظهور بشكل دوري و لكن في أكوان متوازية، فقط تختلف اختلافات طفيفة عن بعضها لا تغير في جوهرها، و قد قرأ عن مفهوم نفي هذه الفكرة التي يتفق عليه جمع من الفلاسفة الذين يرون أن العود الأبدي غير محتمل و لا يمكن التعايش مع التكرار الدوري للأحداث لذلك فلا يوجد شيء يدعى العود الأبدي. كانت هذه الفكرة مثيرة للإهتمام بالنسبة له، فبالرغم من مروره بكثير من الفلسفات خلال إطلاعه، إلا أنه وجد تناقضا كبيرا بين مفهوم هذه الفكرة و بين حياته. فقد فكر أنه و منذ ثلاث عشر من السنوات كان يكرر نفس الروتين بشكل يومي منذ استيقاظه و حتى وقت نومه، و أن فكرة نفي العود الأبدي تعطي تلميحا لفكرة أن الموت جيد و أنه خلق لأن العود الأبدي لا يحتمل من قبل أي إنسان، و أن العود الأبدي بعد عدة تكرارات سيكون مضجرا و أن حياته بها عود يحصل بلا توقف منذ ثلاثة عشر سنة و لم يشعر بالضجر، و تساءل عن شكل حياته إذا لم يخرج كل يوم مجادلا زوجته أو مناكفا لجعفر البقال في ديونه أو إذا كف يوما جبارة عن الشكوى، ثم لم يلبث أن فكر أن هذه الجلسة ستنتهي بلا خلاصة نهائية بدخول السيد حسن الفاتح من باب الوكالة. استمر حبل الأفكار هذا حتى انتبه للرشيد يدخل من باب الوكالة و يلقي عليه التحايا. كان الرشيد ذو قوة ملاحظة جل ما تخطئ، فقد لاحظ أن لحية حمزة متطايرة في عدة إتجاهات بلا تنظيم فعلم أن صباح حمزة في ذلك الثلاثاء كان مليئا بالغرق الفكري و لم ينجو منه إلا بدخوله عليه. بلا أي مقدمات، سأل الرشيد حمزة عن ما راوده. استهل حمزة شرح فلسفة العود الأبدي للرشيد الذي كان ينصت بإهتمام مع ابتسامة صغيرة، و حين هم بشرح أن العود الابدي موجود و أن الفلسفة خاطئة و أن للمرء أن يتعايش مع العود الأبدي و أنه خير مثال لذلك، دخل السيد حسن الفاتح طالبا من الرشيد استلام بضائع جديدة و حصرها و تخزينها في المخازن، فانقطع الحديث و خرج الرشيد لعمله و رجع حمزة لدفاتر حساباته.
بعد ساعة و بضع دقائق، رجع الرشيد معه حسان الإسكافي ليأخذوا حمزة لتناول الإفطار، و كعادة كل يوم أكمل حسان فطوره بسرعة و طفق عائدا لمكان عمله. بعد الإفطار، و بعد وصول أكواب الشاي كرفقة، سارع الرشيد بالطلب من حمزة بإكمال حديثه. تردد حمزة في تنفيذ طلب الرشيد عند علمه بأن استرساله في حديثه سيعني يوما بلا حكايات الرشيد الممتعة، لكن رغبته في مشاركة وجهة نظره عن العود الأبدي جعلته يتغاضى عن هذه الفكرة. بدأ حمزة في شرح فلسفته عن العود الأبدي و عن خطأ النظرية التي يتجلى نفيها في شخصه و أنه يمثل خير اثبات لأن العود الأبدي موجود و أنه لا ضير به. بعد انتهائه من شرح وجهة نظره، أخرج الرشيد كيس التبغ و نظر لحمزة بنظرة غريبة. كان الرشيد يحضر كمية من التبغ في يده بروية ثم ما لبث أن أودعها شفته السفلى و هو يحتفظ بنفس النظرة اتجاه حمزة. حمزة الذي كان ينظر متوجسا للرشيد دخل في حبل أفكار حول سبب نظرة الرشيد له و تباينت أمامه آلاف الإحتمالات عن سببها حتى خرج من حبل الأفكار هذا على صوت تنهيدة الرشيد التي دلت على نشوة دخول النيكوتين في الدم. ابتسم الرشيد و بدأ يذكر لحمزة عدة مواضيع مختلفة لم تكن ذات صلة بفلسفته حتى ذكر له بأن كل قصة يحكيها تمثل ذكرى مرتبطة بموقف معين حدث في الماضي. و أن تذكره للقصة مرتبط بنقطة مميزة في ذلك الحدث، مهما كانت تفاهة تلك النقطة و صغرها، و أعطى مثالا لتفاهة النقطة و أرتباطها ببعض القصص بجرعته اليومية من التبغ، و ختم حديثه لحمزة بأن العود الأبدي غير موجود و أن إحساسه بأنه خير مثال للعود الأبدي ينبع من فكرة عدم تمسكه بنقاط الذكريات التي تكون في ترابطها قصة حياته، فبدت الحياة متكررة بالنسبة لحمزة. قطعت مناداة السيد حسن الفاتح للرشيد كلامه فقام مسرعا ملبيا للنداء، و ترك حمزة يشعر بالخواء.
في مساء ذلك الثلاثاء و حينما كان حمزة النور يسلك نفس الطريق الذي يمشيه منذ سنوات عائدا لمنزله، توقف فجأة و كأن لسعة ما أصابته. فقد انتبه فجأة أن الرشيد رشق الماء عليه لينبهه بأن روتينه اليومي هو من صنعه و أنه هو من يسمح للأحداث بالمرور بهذه الطريقة فتعطيه إحساس العود الأبدي، تنبه في ذلك المساء أيضا لأنه لم يملك الخيار يوما في حياته، بل حتى في المسارات التي كان له فيها الخيار، كان يختار ما فيه إرضاء الآخرين و أنه لم يضع راحته الشخصية في عين الإعتبار. فحتى عندما أرسل للمدينة لإكمال تعليمه الجامعي حرص على ألا يتبع شغفه الذي كان يريد التبحر فيه بدراسة الآداب و الفلسفة، و اختار المحاسبة و التجارة لأن والده أراد له أن يعمل في السوق. و حتى بعد أن وقع في حب زميلته في الجامعة لم يستطع الزواج منها لأن والده رفض ألا يتزوج إلا بنت عمه فوقع في روضة التي تجادل دائما. حتى عندما أراد مناقشة السيد حسن الفاتح في زيادة راتبه تراجع بعد أن ذكرت له روضة أنه سيتسبب في غضب السيد حسن الفاتح الذي سيطرده و لن يجد عملا آخر فتراجع عن نيته لإرضاء زوجته. كان حمزة في ذلك المساء يغرق في مسارات لا متناهية من الأفكار و تداعي الذكريات، حتى أنه تجاوز منزله من التفكير. و استمر في المشي حاملا حقيبته و جريدة اليوم التي تعود أن يقرأها ليلا بعد عودته و انطلق يمشي حتى تلاشى في ظلام قرية أم ضريوة، و ضاع في دهاليز الأفكار.
..
بعد عدة أيام من البحث ، وصل سماك من إحدى القرى ليخبر أهل أم ضريوة بأنه وجد حقيبة و جريدة يوم الثلاثاء و حذاء جلدي ذو لون بني بقرب النهر على بعد ثلاثة عشر كيلو متر من القرية، و أنها لربما تكون مقتنيات فقيدهم. بعد بحث مكثف في منطقة إيجاد المقتنيات لمدة أسبوعين عن جثة، أعلن النور عبد العال وفاة ابنه حمزة غرقا و عن عجزهم عن إيجاد الجثة. تداول أهل القرية خلال السنوات التالية عدة قصص عن حمزة، فقد قيل أنه هرب مع بائعة شاي أجنبية في إحدى القرى المجاورة لأم ضريوة بعد علاقتهما السرية التي امتدت لسنوات. و ذكرت قصة أخرى بأن حمزة قتل و دفن من قبل الصياد الذي أخبرهم بمكان مقتنيات حمزة. بل زعم بعض الناس أنهم شاهدوا حمزة في المدينة الكبيرة يعمل في سوقها، و لكن معظم الناس صدق قصة أن حمزة غرق في مساء ذلك الثلاثاء بعد نيته الوضوء في مياه النهر ليصلي عشاء ذلك الثلاثاء. مع كل هذه القصص لم يدرك أحد بأن حمزة في ذلك المساء ضاع في أفكاره بعد أن تلاشت روحه بسبب حديث الرشيد و أنه اكتشف أن روحه التي بلا شغف كانت تسيره إلى ما لا يريد يوميا، و أنه بعد اكتشافه لضعفه في قتال هذه الروح الميتة كل هذه السنين لم تواتيه شجاعة القتال لرد شرف روحه التي انتهك من قبل الكل لسنوات، بل تلاشى مع روحه و اختفى، اختفى للأبد.
....
خاتمة:
فلتطفو على السطح كل روح تائهة لتتبين حقيقتها.
خاتمة جانبية:
العود الأبدي !!!!!!