كتبت ولم أقل

(Layla Cultural Platform)

الرائد أسامة

أضيفت بواسطة: mima2017 | بتاريخ: 10 يونيو 2018

حينما سمعت خبر وفاة الرائد أسامة، ﻻ يمكنني أن أقول أنني حزنت كثيراً لذلك.. أنا لم أكن أعرف الرجل حقيقةً، ولذلك لم أفعل أكثر مما سيفعله أي شخص يسمع خبر وفاة شخص آخر ﻻ يهمه كثيراً، وهو أن قلت (الله يرحمه) بنصف عقل ونصف قلب..
المشكلة هي أن الرائد أسامة كان من الشخصيات التي ﻻ تستطيع أن تتجاوزها أو تنساها، رغم قلة احتكاكك به وعدم رؤيتك له ﻷكثر من 15 سنة..
حينما كنا في معسكر التدريب العسكري اﻹجباري (الخدمة الوطنية لمن ﻻ يعرفون)، لم يكن الرائد أسامة قائد المعسكر كما قد تتصور، وإنما كان قائد مخزن الذخيرة المجاور.. طوال فترة التدريب التي استمرت شهرين، لم تكن لنا علاقة كبيرة بمخزن الذخيرة، إذ لم يكن هناك سبب يدعونا لدخول هذه المنطقة المحرمة، فضلاً عن أن الدخول كان ممنوعاً من أساسه لغير موظفي المخزن.. إﻻ أن هذا اﻷمر تغير في اﻷسبوعين الأخيرين من التدريب..
حينما بدأنا في تعلم الرمي بالبندقية، كان هذا يعني أننا دخلنا إلى عالم الرائد أسامة وصرنا تحت رحمته.. كان يجب علينا أن نقوم كل يوم باستلام بندقياتنا التي سنتدرب عليها، وهو اﻷمر الذي كان يستغرق ساعتين كل صباح.. حينما ننتهي من التدريب ونعود للمعسكر، كان علينا أن نقف في الصف مرة أخرى لنقوم بتسليم بندقياتنا للصول، مما يعني ساعتين أخريين ضائعتين من اليوم القصير أصلاً..
حتى اﻵن، الموضوع يبدو جيداً، إذ أننا لم نكن قد قابلنا الرائد أسامة أو احتككنا به.. كان هذا حتى بدأت الحصص النظرية للرمي والتي يمكنك أن تخمن من كان يقوم بإلقائها على المجندين بالمعسكر.. بالضبط.. الرائد أسامة بنفسه.. ولا تسألني لماذا بدأت الحصص النظرية بعد التدريب العملي بأسبوع كامل..
كان الرائد أسامة يقف أمام الجمهور ويستعرض لنا الطريقة الصحيحة لحمل البندقية العسكرية وهو يشرح القيام - أي الوضعية التي يجب أن تكون عليها حينما تقوم بعملٍ ما: (يجب أن تحمل البندقية وأنت تقف، قيام واقفاً، قيام واقفاً).. هذا ليس خطأ مطبعياً، فالرائد أسامة كان يردد أغلب جمله مرتين، وهو الشئ الذي تصعب عدم ملاحظته حينما يكون المحاضر مصاباً باﻹسهال اللفظي كالرائد أسامة الذي كان يستطيع التحدث لساعتين متواصلتين بدون توقف..
يقول العالمون ببواطن اﻷمور أن الرائد أسامة تعلم ترديد التعليمات حينما كان في اﻷحراش أثناء حرب الجنوب.. يقولون أن هذا كان يضمن أن تصل التعليمات لجميع العساكر الذين قد ﻻ يسمعون الأمر في المرة اﻷولى.. كان رأيي- وﻻ زال - أن هذا كلام فارغ، ﻷن ترديد التعليمات بصوت عالٍ من شأنه أن يكشف موقعك للعدو، وهو ما ﻻ تريده أن يحدث لك بطبيعة الحال..
الشئ اﻵخر المميز للرائد أسامة كان أنه حينما يتحدث فهو ﻻ يخاطبك أنت بقدر ما يخاطب نفسه، أو ربما كان يخاطب شخصاً ما ﻻ تراه أنت ويراه هو.. طريقته في الحديث بصوت عالٍ، ثم الهمهمة فجأةً بدون سابق إنذار، ثم معاودة الحديث بصوتٍ عالٍ، تجعلك تشك في صحته العقلية..
العالمون ببواطن اﻷمور قالوا أن الرائد أسامة فقد جزءاً من عقله في حرب الجنوب، إذ اضطر لمشاهدة جميع أفراد فصيلته وهم يقتلون أمام عينيه.. يقولون أن المعركة كانت شرسة للغاية، وأن فصيلة الرائد كانت أقل عدداً بكثير من العدو، وأن الهجوم كان خطأً عسكرياً غبياً.. ربما كانت عقدة الذنب هي ما جعل الرائد أسامة يفقد عقله، فهو قد تسبب بصورة أو بأخرى في موت ما يزيد على المائة عسكري من فصيلته في تلك المعركة..
لذلك كان الرائد أسامة حينما يشرح كيفية التصويب بالبندقية فيقول: (يجب عليك أن تضع الذبابة على عينك)، ثم يكتشف أنه أخطأ القول، فإنه يصحح نفسه بقوله: (كما كنت)، ثم يقول العبارة الصحيحة: (عينك على الذبابة).. بالطبع فإن مصطلح (كما كنت) هو المصطلح العسكري لإلغاء اﻷمر السابق والعودة لحالك قبل إصدار اﻷمر.. لم أر شخصاً يستخدم هذا اﻷمر ليخاطب نفسه بنفسه إﻻ الرائد أسامة، ولكنه معذور على كل حال فهو قد فقد عقله كما أخبرتك من قبل.. (أوه، الذبابة بالطبع تعني الدائرة التي تحتوي على مربع في وسطها، والتي تستخدم لإحكام التصويب باستخدام البندقية..)
كان الرائد أسامة ينهي محاضرته، ثم يغادر بدون أن يضيف كلمة أو يخاطب أحدنا وكأننا لسنا موجودين.. لو تجرأت وطلبت اﻹذن بالحديث، فإن الرائد أسامة سينظر خلالك - ﻻ إليك، بل خلالك - ويتجاوزك تماماً وكأنك لست موجوداً.. ﻻ أظن أنه كان يقصد التقليل من شأن أحد، وإنما كان يعيش في بعد آخر، في عالمٍ موازٍ لعالمنا هذا..
آخر ما عرفته عن الرائد أسامة - قبل خبر وفاته - أنه فقد أخيراً ما تبقى من عقله، وقرر أن يفاجئ المعسكر بأن حمل بندقيتين من المخزن وراح يجول في المعسكر باحثاً عن الجنوبيين الذين قتلوا رفاقه في الحرب.. لحسن الحظ أن البندقيتين كانتا خاليتين من الذخيرة، اﻷمر الذي لم يُعفِ مسؤول المخزن من المساءلة القانونية.. حينما سُئلَ الصول عن كيف تمكن شخص مشكوك في سلامته العقلية من الحصول على بندقيتين من المخزن، كان رده بسيطاً ومباشراً: (وهل كنت أنا من نصبه قائداً للمخزن؟).. انتهى التحقيق برفت الرائد أسامة وإحالته للمعاش اﻹجباري، وهو الشئ الذي لم يساعد كثيراً في حالته العقلية المتدهورة..
لو سألتني عن شعوري تجاه وفاة الرائد أسامة، فأنا حقاً ﻻ أدري.. شخص مجنون أطلق النار على نفسه أمام باب منزله لكي يراه المارة.. ﻻ أظنني سأفتقده كثيراً، ولكنني أرجو أن يجد الخلاص في العالم اﻵخر، ربما في مكان ﻻ يحتاج فيه لترديد كلامه مرتين..

 



-= Share this blog post =-

2018