كتبت ولم أقل

(Layla Cultural Platform)

وهمات المتنبي (3)

أضيفت بواسطة: mima2017 | بتاريخ: 25 يونيو 2018

فديناك من ربعٍ - الجزء اﻷول

المتنبي، غير إبداعو في مدح الولاة - وتحديداً سيف الدولة (ﻷنو كان عايز يدوهو ولاية بالواضح الصريح، لكن مافي زول ضمنو على ولاية)،فغير كدة كان بيبدع في مطالع قصايدو.. هو طبعاً كراجل حريف وبيّاع كلام، عارف إنك ﻻزم تأسر المستمع بكلامك من أول بيتين، وإﻻ حيطير ليك، واحتمال راسك ذاتو يطير.. زي قصة جرير لمن مدح الخليفة وبدا القصيدة بالبيت:

أتصحو أم فؤادك غير صاحي *** عشية همّ صحبك بالرواحِ؟

والخليفة نطّ ليهو في حلقو قال ليهو: (بل فؤادك أنت).. عمك زعل عديل من الشاعر قبل ما يبدا يطق الحنك بتاعو ذاتو..

المهم المتنبي كان راجل حريف جداً وبعرف كيف يأسر المستمع ويخليهو مهتم بإنو يسمع باقي القصيدة.. مثلاً حنعاين لقصيدة (فديناك من ربعٍ وإن زدتنا كربا) ونشوف المطلع بتاعها بادي كيف.. رغم إنها قصيدة قالها المتنبي في مدح سيف الدولة، إﻻ إنو بدا - كعادة العرب قديماً - بالنسيب أو الوقوف على اﻷطلال:

فَدَيْناكَ مِنْ رَبْعٍ وَإنْ زِدْتَنَا كرْبا *** فإنّكَ كنتَ الشرْقَ للشمسِ وَالغَرْبَا

يعني الراجل عارف إنو اﻷطلال دي عبارة عن بقايا القبيلة الكانت هنا، والكانت فيها حبيبتو، لكن برضو بيتكلم معاها كأنها بني آدم بيفهم.. السبب اﻷساسي طبعاً ﻷنو المحلة دي كانت مكان حبيبتو قبل ما أهلها يرحلو.. وبما إنو حبيبتو سمحة زي الشمس (اتجاوز موضوع السخانة والحروق وسرطان الجلد)، فالمحلة دي كانت المكان الحبيبتو بتنوم وتصحى فيهو.. فرغم إنو منظر اﻷطلال دي بيهيج ليهو المواجع وبخليهو داير يبكي، إﻻ إنو برضو سعيد وداير يفدي الأطلال دي بنفسو، ﻷنو حبيبتو كانت ساكنة هنا.. من هنا جاء تشبيه حبيبتو بالشمس، ووصف اﻷطلال بإنها الشرق والغرب، ﻷنو حبيبتو كانت بتشرق وتغرب هنا.. قمة الرومانسية في قلب الصحراء..

وَكَيفَ عَرَفْنا رَسْمَ مَنْ لم يدَعْ لَنا *** فُؤاداً لِعِرْفانِ الرّسومِ وَلا لُبّا

بصاحبك بعد وعى قام استغرب إنو هو ذاتو عرف المحلة دي كيف؟ أصلو هو راسو لفّ ومخو ضرب بعد ما حبيبتو فارقتو.. فبالتالي بتساءل إنو كيف جاهو راس ذاتو عشان يعرف مكان اﻷطلال؟ وهو بيني وبينك، الناس ديل كانو بعرفو المحلات دي في الصحراء ديك كيف؟ وﻻ ده كان حنك ساي؟

نَزَلْنَا عَنِ الأكوارِ نَمشِي كَرامَةً *** لمَنْ بَانَ عَنهُ أنْ نُلِمّ بهِ رَكْبَا

بعدين الراجل ده محترم جداً، ﻷنو محترم اﻷطلال - رغم إنها محلة مهجورة وما فيها زول - إﻻ إنها كانت بيت حبيبتو زمان.. فعشان كدة هو نفسو ما سمحت ليهو انو يدخل اﻷطلال راكب حمارتو.. قام وقّف الحمارة بعيييييد هناك ونزل دخل المكان بكرعيهو.. والله الراجل ده كان مستهبل خلاص..

نَذُمُّ السّحابَ الغُرَّ في فِعْلِهَا بِهِ *** وَنُعرِضُ عَنها كُلّما طَلَعتْ عَتْبَا

ثم إنو ما دام بدا يتكلم مع اﻷطلال ويناجي الحجر، المانع شنو يتكلم مع السحاب ذاتو؟ ما عارف السحاب جاء من وين في الصحراء دي، لكن غايتو صاحبك متضايق جداً من السحاب الجاء وقرر إنو يصب المطرة في المحلة دي تحديداً عشان يمسح اﻵثار كلها.. فالمتنبي من ضيقو بقى ينبذ السحاب عشان العملية العملها في اﻷطلال دي.. وكل ما السحاب يطلع صاحبك بقبّل منو غادي، زعلة بس..

وَمن صَحِبَ الدّنيا طَوِيلاً تَقَلّبَتْ *** على عَيْنِهِ حتى يَرَى صِدْقَها كِذبَا

ثم إنو ﻷنو حزنان وواعي، قرر إنو يرمي ليك حكمة كدة في النص.. طبعاً الراجل موجوع ﻷنو حبيبتو شوكشتو، أو في الحقيقة رحلت مع أهلها ومشت، عشان كدة هو شايف الدنيا سوداء تب.. فبحكي مع صاحبو بقول ليهو الدنيا دي أصلها فرندقس وما بتدي حريف.. شوف أمبارح كنا وين وهسي وين.. بعدين قال ليهو الدنيا دي بالله تلفك لف، لحدي ما تخليك ما عارف الصاح من الكضب..

وَكيفَ التذاذي بالأصائِلِ وَالضّحَى *** إذا لم يَعُدْ ذاكَ النّسيمُ الذي هَبّا

هنا قام اتذكر حبيبتو وقرر ينوح على روحو شوية.. ﻷنو حيستمتع بالمغارب الرايقة والصباحات الجميلة كيف، إذا كانت حبيبتو الرقيقة زي النسمة ديك مافيشة؟ طبعاً ما حأسجل صوت اعتراض على النسيم الحيهب في نص الصحراء، ﻷنو حيكون سموم بس..

ذكرْتُ بهِ وَصْلاً كأنْ لم أفُزْ بِهِ *** وَعَيْشاً كأنّي كنتُ أقْطَعُهُ وَثْبَا

اﻷيام الفاتت لما كان مع حبيبتو ديك بتذكرها كأنها كانت زمااااان.. وكأنو حبيبتو ما قعدت معاهو وﻻ ونّستو وﻻ نضمت معاهو.. وكأنو اﻷيام الحلوة ديك من سرعتها هو كان بنطط فيها نطيط، مش بعيشها زي باقي الناس..

وَفَتّانَةَ العَيْنَينِ قَتّالَةَ الهَوَى *** إذا نَفَحَتْ شَيْخاً رَوَائِحُها شَبّا

وما دام هو قاعد يتبكّى على حبيبتو، ﻻزم يوصفها لصاحبو.. طبعاً أنا ما بصدق الناس ديل في وصفهم لحبيباتهم ﻷنهم كلهم مستهبلين.. الواحد يشوف ليك طرف عين واحدة، يقوم يكتب ليك معلقة.. زي صاحبك الشاف عيون الجواري في القصر وقال:

عيون المها بين الرصافة والجسر *** جلبن الهوى من حيث أدري وﻻ أدري

وﻻ زي صاحبك التاني الكتب معلقة في البت، بعدين سألوهو شافها وين، قال شاف كاحلها بس.. ياخ معقولة؟.. المهم نرجع لقصيدة المتنبي.. فالراجل وصف ليك حبيبتو دي قال ليك من شدة جمالها ده، لو في شايب كبير شمّ ريحتها ساي من بعيد لبعيد برجع ببقى شاب تاني.. كلام والله.. دي ريحة وﻻ فيرساتشي ذاتو ياخ.. الكتلل..

لهَا بَشَرُ الدُّرّ الذي قُلّدَتْ بِهِ *** وَلم أرَ بَدْراً قَبْلَهَا قُلّدَ الشُّهْبَا

بالله شوف التشبيه المجنون ده!.. حبيبتو طبعاً بت ذوات وبت ناس محترمين، فأكيد مدلعينها وملبسينها أحسن لبس.. فدايماً بتكون ﻻبسة سلسل في رقبتها بتاع در.. در يا بني آدم! در يا بشر!.. المهم الدر ده طبعاً أصيل، فلونو أبيض ﻻمع.. لكن حبيبتو من جمالها وبياضها، لون جلدها زي لون الدر اللي هي ﻻبساهو.. بالله لمّن حيرتو ليك وبقى يتساءل: كيف القمرة (اللي هي حبيبتو) ﻻبسة الشهب (اللي هو الدر الحول رقبتها)؟.. أقسم بالله مجنون..

فَيَا شَوْقُ ما أبْقَى ويَا لي من النّوَى *** ويَا دَمْعُ ما أجْرَى ويَا قلبُ ما أصبَى

طبعاً صاحبك بعد ما اتذكر حبيبتو هاجت عليهو المواجع، فبقى يكورك براهو.. أنا شوقي ده الببلو شنو؟ ودموعي دي جارية مالها؟ وقلبي ده برجف كدة ليه؟ وحفضل بعيد من حبيبتي دي لحدي متين؟.. مسكين والله ما يستاهل..

لَقد لَعِبَ البَينُ المُشِتُّ بهَا وَبي *** وَزَوّدَني في السّيرِ ما زَوّدَ الضّبّا

أها حبيبتو دي بعد ما سافرت، صاحبك بقى متحير.. المفسرين اختلفو هنا، فواحد بقول ليك قصدو إنو حيبقى متحير زيو زي الضب، ﻷنو الضب بطلع من جحرو وببقى ﻻفي ما عارف يرجع كيف.. وواحد بقول ليك قصدو إنو ريقو بقى ناشف وحبيبتو دي ما خلت ليهو أي حاجة بس سافرت، ﻷنو الضب ما بحتاج للموية في الصحراء، فكأنو ما بتزود بالموية.. فالمتنبي بقول إنو بعد ما سافر المحبوب، بقى قاعد ساي، إيدو في خدو..

وَمَن تكُنِ الأُسْدُ الضّواري جُدودَه *** يكُنْ لَيلُهُ صُبْحاً وَمَطعمُهُ غصْبَا

من هنا المتنبي طلع من النسيب وبدا في موضوع القصيدة اﻷصلي، اللي هو مدح سيف الدولة.. حرفنة المتنبي بقى هنا في الطريقة المرق بيها من النسيب للمدح.. آخر حاجة كانت إنو بتكلم عن الزاد اللي هو ما ﻻقيهو بعد الفراق، صاح؟ أها هنا دخل طوالي في الزاد بتاع سيف الدولة، فقال إنو الراجل ده ما بياكل إﻻ من الحاجات البقلعها قَلِع (همباتي عديل كدة).. ليه؟ ﻷنو جدودو كانو أسود مفترسة، عشان كدة هو بقى أسد زيهم، ما بياكل إﻻ بالقلع، وما برضى الحقارة (شكلو المتنبي ما عارف إنو اﻷسد بتصيد ليهو مرتو وهو بكون قاعد مجخّم في البيت).. بعدين سيف الدولة دة لكن يكون ساكي ليهو عدو ما ببيت الليل، عشان كدة ليلو بقى صباح، ﻷنو ما بقيف لحدي ما يحصل مرادو..

وَلَسْتُ أُبالي بَعدَ إدراكيَ العُلَى *** أكانَ تُراثاً ما تَناوَلْتُ أمْ كَسْبَا؟

طبعاً المتنبي معروف عنو إنو كان بمدح الوالي عشان يمدح نفسو.. وفي قصايد كتيرة كان ببدا بالنسيب، بعدين بمدح نفسو في نص ساعة كدة، بعدين بمدح الوالي ببيتين، وبياخد قروشو ويتخارج.. قلة اﻷدب دي طبعاً ﻷنو كان عارف تماماً قدرتو الشعرية الفذة، وعارف إنو الوالي دة حيضطر يسمع شعرو ويديهو في النهاية قروش محترمة (ما عدا القصيدة الدينارية اللي أدوهو فيها دينار واحد - بس ده كان بدري لمن كان شاب).. فهنا المتنبي ما قدر يمشي ساي بدون ما يمدح نفسو، فبقول إنو هو ما فارق معاهو، طالما إنو حقق أحلامو وطموحاتو، إنو حققها كيف: هل ورث المجد ده من أهلو وﻻ اجتهد جابو بضراعو؟.. طبعاً دي قمة الميكيافيللية في التفكير (الغاية تبرر الوسيلة)، لكن على اﻷقل الراجل كان واضح وما لفّ ودوّر..

يدي وجعتني من الطباعة ياخ.. نقيف هنا ونواصل القصيدة فيما بعد..

 


-= Share this blog post =-

2018